النصير
كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - فقه النوازل |
إن مكر الليل والنهار أحدث في الأمة مناهج غريبة، وتصورات مناقضة للدين تماماً، فما وجدت في الأمة العلمانية والاشتراكية والقومية والليبرالية وغيرها من الملل والنحل إلا بعد مكر كبير وتخطيط عظيم لإضلال هذه الأمة وحرفها عن دينها القويم، فوجد في الأمة من يدعي أنه مسلم علماني، أو مسلم اشتراكي، أو مسلم ليبرالي، وتأثرت أمم من المسلمين بهذه المناهج المنحرفة، والتصورات الجاهلية الضالة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي اجتبى من صفوة عباده عصابة الحق وأهل السنة، وخصهم من بين سائر الفرق بمزايا اللطف والمنة، وأفاض عليهم من نور هدايته ما كشف به عن حقائق الدين، وأنطق ألسنتهم بحجته التي قمع بها الضلال المبطلين، وصفى سرائرهم من وساوس الشياطين، وطهر ضمائرهم من نزغات الزائغين، وعمَّر أفئدتهم بأنوار اليقين، حتى اهتدوا بها إلى أسرار ما أنزله على لسان نبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
عباد الله: إن المعركة بين الحق والباطل معركة قائمة ومستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يمكن أبداً أن تتوقف لحظة من اللحظات، فللحق منهج ناصع يريد أهله أن ينشروه، وللباطل منهج قاتم يريد كذلك أهله نشره، إلا أن الغلبة والنهاية تكون حتماً لصالح الحق وأهله، لأن أهل الحق يستخدمون في معركتهم ضد أهل الباطل ما هو حق ومشروع، وأما أهل الباطل فإن سلاحهم ضد أهل الحق هو المكر والاحتيال والكذب والخداع، وهذا حبل قصير وطريق منقطع سرعان ما يُهزم صاحبه ويُغلب، فتحسم المعركة في النهاية لصالح أهل الحق، إلا أن أهل الباطل حتى وإن هزموا ظاهراً على أرض الواقع فإن قائدهم إبليس عليه لعنة الله لن يألوا جهداً في مدهم بالخطط الماكرة والأساليب المنكرة، التي تجعل حربهم على أهل الحق تستمر في كل الأحوال وفي كل زمان ومكان، سواء كان بشكل ظاهر محسوس، أو بشكل غير ظاهر ولا محسوس، (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ) [النساء117 : 120].
إن مكر أهل الباطل ضد أهل الحق مكر دائم ومستمر لا يتوقف ولا ينقطع، بل هو ملازم لهم يجري معهم في عروقهم كما يجري الدم، ويعشعش في عقولهم ويعيش معهم في كل لحظة وحين، فلا يهدأ بالهم إلا بالتآمر على أهل الحق، ولا تستقر أعصابهم إلا بضربهم وحربهم بشتى الأساليب والأسلحة، فهو مكر دائم، وكيد متواصل، وتآمر قائم، لا يفترون عنه، ولا يملون منه، يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام : 123]، ويقول: (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الرعد : 33]، ويقول: (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : 43]، وفي آية أخرى يقول: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : 42].
عباد الله: إن مكر أهل الباطل بأهل الحق يكون بصور متعددة وأساليب مختلفة، فمرة يكون عبر المكر الفعلي المباشر بقتالهم، وإعلان الحرب العسكرية عليهم، وشن الغارات تلو الغارات ضدهم، والوقوف في وجوههم بسجنهم، وإيقافهم، والتضييق عليهم، ومصادرة حقوقهم، وتكميم أفواههم، وهذا نوع من المكر لم يتوانَ أهل الباطل عنه فترة من الفترات على مر تاريخ الصراع بين الحق والباطل.
فالحرب بين أهل الباطل وأهل الحق ساخنة، وعلى جبهات متعددة، والجهاد باق ضدهم إلى قيام الساعة، كما قال الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" [مسلم (156) ]، وأخبرنا ربنا -جل جلاله- في كتابه العظيم أن مكرهم العملي مستمر فقال: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال : 30]، وقال عن موسى -عليه السلام-: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) [غافر : 25]وفي الآية الأخرى يقول: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) [غافر : 45].
ومن مكر أهل الباطل بأهل الحق المكر الإعلامي، وهذا أشد وأخطر أنواع المكر الذي يستخدمه أهل الباطل بشكل دائم جداً، ولا يتوقفون عن استعماله برهة من الزمن، يستخدمون في ذلك الكذب ويتفننون فيه، يكذبون بطرق فنية وأساليب دبلوماسية، ويأتون بخبرائهم ودجاجلتهم ليصيغوا الكذب والتضليل بقوالب مؤثرة تسحر العقول وتصدقها النفوس، ويزيفون الحقائق لتظهر بغير صورتها الحقيقية، ويصيغون الأخبار كما يشتهون، فيختلقون أخباراً كاذبة، ويضخمون أخباراً تافهة، ويهمشون أخباراً عظيمة، ويشوشون على قناعات المتلقي واتجاهاته بمكر إعلامي محترف، وإخراج فني جذاب، ودعايات باهرة تطعن في الأفكار والقناعات، وتزعزع الأصول والثوابت.
ويسلطون مكرهم الإعلامي بشكل سافر ومكر ساخر على المؤمنين والملتزمين بالدين، فيشوهون سمعتهم، ولا يدخرون جهداً في تنقصهم والافتراء عليهم، والتشهير بهم، فأضلوا بذلك خلقاً كثيراً، حتى جعلوا بعض المسلمين أنفسهم يخشون الإسلام، ويخافون من الحكم الإسلامي وتطبيقه على واقعهم.
ولم يتوقف المكر الإعلامي لأهل الباطل عند هذا الحد، بل استأجروا أناسا من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا؛ فيظهرونهم ويبرزونهم في إعلامهم ليساهموا في مسخنا، وغسل عقولنا، وتحريف ديننا، وتشكيل آرائنا وتوجهاتنا حسبما يريد أعداؤنا، واليوم قد تفننوا في هذا المكر وطوروه، فلم يعودوا يأتون بأشخاص قد انتهت مدتهم، واحترقت سمعتهم، وعرف الناس عمالتهم، وإنما يأتون بأشخاص ممن لهم رصيد في الواقع، وسمعة في الظاهر، ممن عرفوا بآرائهم المستقلة، والتوجهات التي يسمونها متنورة، وقد يكون في هؤلاء المستقلين من فيه خير وصلاح، ولكن للمكر الكبير والكيد الخطير لأهل الباطل أهدافاً أخرى يريدون تحقيقها من وراء إظهار هؤلاء وإتاحة المجال لهم، فيستغفلون بعض الصالحين والطيبين من حيث لا يشعرون، فيظهرونهم ويبرزونهم، أو يستفزونهم بأعمال ليستغلوا ردود أفعالهم، وهذا هو قمة المكر، حيث أن المكر هو: "إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر"، وعرّفه بعضهم بأنّه: "صرف الغير عمّا يقصده بحيلة".
فلنحذر كل الحذر، ولسنتشعر المكر والخطر، فإن مكر أهل الباطل مكر خفي ودقيق، وربما يشتبه أحياناً حتى على قادة الأمة وخيارها، ولهذا يقول الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) [الإسراء 73: 75]، وليس معنى هذا أن نشكك في كل شيء، أو نعطي الأعداء هالة وحجماً أكثر من حجمهم الحقيقي، أو نتصورهم وكأنهم عباقرة دهاة لا مثيل لهم، ومكرهم هذا إنما هو وحي شيطاني سرعان ما يرتد عليهم، (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء : 76]، ولكن في المقابل يجب علينا أن نأخذ حذرنا، ونحسب حسابنا، وندرس مصالحنا ومفاسدنا، ونلتزم بالضوابط التي حددها لنا ديننا، حتى لا نساهم في تحقيق أهداف أعدائنا، ونعينهم من حيث لا نشعر في تطبيق مكرهم علينا، (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [النمل 50: 51].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين, وبعد:
أيها المسلمون: إن مكر الباطل وأهله لن يتوقف، وقد ذكرنا نموذجين بارزين من مكرهم العظيم وكيدهم المستمر بالإسلام وأهله، وهو المكر الحربي والمكر الإعلامي، ولا يعني هذا أن مكرهم مقتصر على هذين الجانبين، بل إن مكرهم شامل وعام، وفي كل الاتجاهات، وبكل السبل والطرق، وعبر كل أنواع المكر والخداع، وهذا ما يؤكده الله -سبحانه وتعالى- بقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سبأ : 33] فهذه الآية تدل على أن مكرهم لم يقتصر على المسلمين فقط، وإنما وصل مكرهم حتى لمن يتبعهم من المستضعفين والمغفلين، حيث يتبرأ منهم الكبراء والمستكبرون بقولهم لهم: (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ)، وهنا يبين المستضعفون الأمر، ويكشفون السر، فيردون عليهم قائلين: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا).
إنه مكر دائم، وكيد شامل في الليل والنهار، والسر والجهار، لم يستثنِ أحداً حتى أتباعهم وأقوامهم، مكروا بهم، وأضلوهم، وحسنوا الكفر لهم، ودعوهم إليه، وقبحوا لهم الحق ونفروهم منه، ومازال مكرهم بهم وكيدهم لهم متواصل حتى أغووهم وفتنوهم، ثم يوم القيامة يتبرئون منهم، (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
إن مكر الليل والنهار أنتج في الأمة عقائد فاسدة، وآثاراً قبيحة، ومظاهر سيئة، فما ارتد أقوام على أعقابهم وكفروا بعد إسلامهم، وتنصروا أو أشركوا، إلا بعد أن عمل فيهم مكر الليل والنهار عمله، فتأثروا به فأضلهم عن سواء السبيل، بعد أن كانوا مؤمنين بالله، فكم من أبناء الأمة من تنصر وتأثر بالمنصرين؟، وكم فيها من ذهب إلى بلاد الكفر وعاش فيها فأعجب بضلالاتهم وعقائدهم، فتنكر للدين الإسلامي، وأعلن براءته منه، ومحاربته له، وارتداده عنه؟، بل وفي الأمة من ألحد وأنكر أن يكون هناك رب، ولم يعترف حتى بالربوبية، كل هذا ما وقع إلا بسبب مكر أهل الباطل بنا، فأخرجوا منا أمثال هؤلاء الضالين، وقد حاولوا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيره أن يستهووا المسلمين ويمكروا بهم ليردوهم عن دينهم، فقالوا: يا محمد اعبد ربنا سنة ونعبد ربك سنة, فأنزل الله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ...) [الكافرون 1: 2]، وقال: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم : 9].
إن مكر الليل والنهار أحدث في الأمة مناهج غريبة، وتصورات مناقضة للدين تماماً، فما وجدت في الأمة العلمانية والاشتراكية والقومية والليبرالية وغيرها من الملل والنحل إلا بعد مكر كبير وتخطيط عظيم لإضلال هذه الأمة وحرفها عن دينها القويم، فوجد في الأمة من يدعي أنه مسلم علماني، أو مسلم اشتراكي، أو مسلم ليبرالي، وتأثرت أمم من المسلمين بهذه المناهج المنحرفة، والتصورات الجاهلية الضالة، وتركوا التوحيد الخالص والاستسلام الكامل لله رب العالمين، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران : 85].
أيها الناس: إن مشكلتنا اليوم هي أننا لم نتصور بعد المكر الكبير الهائل من قبل أهل الباطل علينا، ولذلك تجد منا من يتعرض لهم، ويسمع منهم، ويفتح قنواتهم، ويحضر مجالسهم، ويشاهد مسلسلاتهم وأفلامهم التي تحكي واقعهم ونمط حياتهم، فوصل مكرهم إلينا بسبب أنفسنا، وعظم تأثيرهم علينا بسبب غفلتنا، لأن أهل الباطل اليوم قد حشدوا كل إمكانياتهم، وسخروا كل طاقاتهم وأجهزتهم ووسائلهم ضدنا، وحينما وجدوا منا القابلية، ورأوا منا المشاركة لهم، والالتفات إليهم، والسماع منهم، تشجعوا على المزيد من التفنن والتقنن لتطوير محاولات إضلالنا وإغوائنا، فحصل لهم ما أرادوا، وتحققت لهم كثير من الأهداف التي كانوا يخططون لها.
ويواصلون مكرهم بالليل والنهار لتؤتي ثمارها الخبيثة في واقعنا، فوجد من أبناء الأمة من تأثر بهم وقلدهم، وجعلهم قدوة يقتدي بهم، معجبا بحركاتهم ولباسهم وقصاتهم، فيلبس كما يلبسون، ويحلق كما يحلقون، ويحاكيهم في كل شيء، فانتفش أهل الباطل بذلك، وراحوا يرسمون المخططات ويعدون التصورات التي تساعدهم على القضاء على الحق وأهله قضاء كاملاً، ولو بشكل ثقيل وبطيء.
إن المكر الجاهلي الباطل ليس على عجلة من أمره، ولذلك يتدرج بأسلوب ماكر وطريقة ماكرة في الإغواء والضلال، فهو لا يأمر الناس بالكفر منذ البداية، ولا يريدون من النساء أن يخلعن الحجاب كله من أول الأمر، وإنما رويداً رويداً وقليلاً قليلاً، فالعمل مستمر، والمكر متواصل، وهم متابعون بالليل والنهار لتنفيذ خطط المكر التي رسموها، ويرون بدقة ما تنفذ منها ومالم يتنفذ، ومالم يأتِ بهذه الطريقة توصلوا له بالطريقة الأخرى، ومالم يتحقق بهذا الأسلوب استخدموا معه الأسلوب الآخر.
وما يكاد المذياع يفتر من مكره حتى يأتي دور التلفاز، وما يكاد التلفاز يفتر حتى يأتي دور الإنترنت، ثم يأتي دور الكرة، ثم المجلة الهابطة، والقصة الخليعة، وهكذا دواليك، مَكْرُ بالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ، مؤامرات ومؤتمرات، وشبهات وشهوات، وحركات وتحركات، وضغوطات ومغريات وإغراءات، وأساليب مختلفة، ووسائل متنوعة، حتى يضلوا الأمة ويحرفوها، ويودوا أن لو نكفر كما كفروا فنكون سواء، قال تعالى: (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا) [نوح : 22].
فالواجب علينا أن نحذر مكرهم، وأن نكون على أعلى درجات اليقظة والحذر من استدراجاتهم وألاعيبهم، ولن يكون هذا إلا بالإقبال على العلم الشرعي النافع الذي يثبت القلوب، ويعرفها بمكر وخطط أهل الباطل وأساليبهم القديمة والجديدة في التآمر والمكر بأهل الحق ،كما يجب علينا أن نبتعد كل البعد عن الباطل وأهله، فلا نقترب منه، ولا نسمع من أهله، بل نهجره ونقاطعه، ونتمايز عنه ونتبرأ منه، حتى لا نقع في شباكه، وتصل إلى قلوبنا تأثيراته، فإنه مكر عظيم، وتخطيط مذهل خطير، يصيب من لم يتعرض له فكيف بمن يتعرض له.
كما يجب علينا أن لا نستعجل، وأن نصبر ونصابر، فإن هذا المكر سرعان ما ينكشف ويظهر زيفه، ويعرف الناس أمره، وكلما جاءوا بأسلوب جديد وطريقة جديدة في المكر والكيد أظهرها الله، وكشفها وفضح أهلها، فما علينا إلا الصبر والمصابرة، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران : 120]، (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل 127: 128]، ويقول (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النمل : 70].
اللهم بصرنا بالحق وارزقنا اتباعه، وبصرنا بالباطل وأهله واكشف لنا زيفه ومكره، اللهم امكر لنا ولا تمكر علينا، اللهم رد كيد الماكرين بهذه الأمة إلى نحورهم، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، اللهم اجعل كيدهم وتدبيرهم تدميراً عليهم، ياقوي يامتين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات 180 : 182].