الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | صالح بن علي الوادعي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
أرشد الله عباده إلى توحيده، واتباع أمره؛ فإن أطاعوه كانت لهم السعادة في الدنيا والآخرة، وإن هم خالفوه وعصوا أمره سلط الله عليهم بأسه، فلا لوم عندها إلا على الإنسان نفسه، قال الله -تبارك وتعالى-: (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) [القيامة:14-15]. ولهلاك الأمم، وخراب الدول، وشقاء المجتمعات أسباب حولها نتكلم؛ فإن العبد إذا عرف السبب، وصدق في العلاج، يسر الله له الخروج من المهالك.
الخطبة الأولى:
أما بعد:
أيها المؤمنون: فقد أرشد الله عباده إلى توحيده، واتباع أمره؛ فإن أطاعوه كانت لهم السعادة في الدنيا والآخرة، وإن هم خالفوه وعصوا أمره سلط الله عليهم بأسه، فلا لوم عندها إلا على الإنسان نفسه، قال الله -تبارك وتعالى-: (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) [القيامة:14-15].
عباد الله: لهلاك الأمم، وخراب الدول، وشقاء المجتمعات أسباب حولها نتكلم؛ فإن العبد إذا عرف السبب، وصدق في العلاج، يسر الله له الخروج من المهالك.
أعظم الأسباب: كثرة الفساد، وكثرة الخبث، قال الله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16]، قال أكثر المفسرين: إن الأمر متعلق في قوله تعالى: (أَمَرْنَا) بمحذوف، والمعنى: أمرنا مترفيها بطاعة الله -تبارك وتعالى-؛ (فَفَسَقُوا) وعصوا ربهم، فحق عليهم ووجب الوعيد، (فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) أي: أهلكناها هلاكاً واستأصلناها استئصالاً.
والناس تبع لأمرائهم المترفين، وأغنيائهم المرحين؛ فإن رآهم الناس ولم ينهوهم فالهلاك يعم الجميع، قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال:25]، وفي الصحيحين عن زينب أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- دخل يوماً عليها فزعاً يقول: "لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه"، وحلق بين أصبعيه، فقالت زينب: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: "نعم إذا كثر الخبث".
فيا عبد الله: لا تكن سبباً في الهلاك بالوقوع في المعاصي والمجاهرة بها، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين"، قال الله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63].
وإياك ثم إياك! أن ترى المنكر فتسكت، وتكتفي بهز الرأس والحوقلة؛ ففي البخاري عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا أرادوا أن يستقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا؛ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً".
وفي هذا -أيها الأحباب- إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب الهلاك العظيمة، قال الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى-: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد". يوم ينادي بعضهم بعضاً بالنجاة، والمراد في هذه الحياة الدنيا، قال: "وقد كان الذي خفنا أن يكون؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون".
من أسباب الهلاك: التكالب على الدنيا والتنافس فيها: تلك الدنيا الحقيرة التي لا تزن جناح بعوضة: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا) [الحديد:20]، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تبسط عليكم فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم"، والمعنى جلي وواضح.
أيها الأحباب في الله: في صحيح مسلم عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟!"، قال عبد الرحمن بن عوف: " نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أو غير ذلك؟! تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تباغضون".
فيا أيها المسلم: لا يوصلك حب الدنيا والمال والجاه إلى حد التنافس غير المشروع فتَهلك وتُهلِك، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنما أهلك من قبلكم الدينار والدرهم، وهما مهلكاكم". رواه البزار عن ابن مسعود بسند حسن.
من أسباب الدمار المستحقة: ظهور المعاصي خصوصاً الربا والزنا؛ فعن ابن مسعود قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما ظهر الربا والزنا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله -عز وجل-". رواه أحمد بسند لا بأس به.
الربا مهلك المجتمعات، ومورث العداوات، لم تأتِ جريمة هدد الله فيها بمثل قوله: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:279]، إذ أصبح الاقتصاد مبنياً عليه، انتشر في بلاد المسلمين حتى صار من الأمور المألوفة، وقد "لعن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الربا خمسة: لعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه"، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة:278]، فشرط إيمانكم متحقق بترك الربا؛ فإن لم تفعلوا (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:279]، وما نراه في مصابنا ما هو إلا أثر من تلك الآثار، أسأل الله تعالى أن يرفع عنا عذابه وغضبه ومقته بحوله وقوته.
أيها المؤمنون: لماذا التكالب على الدنيا؟! ما أكل الناس الربا إلا لحب الدنيا، سبّب الذلة والقلة والمهانة ذلك، قال -عليه الصلاة والسلام-: "عاقبة الربا إلى قُل وإن كثر".
أما الزنا -تلك الجريمة المنكرة والأمر الفتاك- تكثر به الأمراض، وتفشو بسببه المنكرات، وتختلط بسببه الأنساب، أسبابه كثرت وكلها بريد له ومرشد إليه، قال -عليه الصلاة والسلام-: "كتب على ابن آدم حظه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر"، وكم هو النظر إلى المحرمات في هذه الأيام!! فلا يكاد يخلو بيت من النظر إلى ما حرم الله -تبارك وتعالى-! "والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع"، والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، "واليدان تزنيان وزناهما البطش"، وفي رواية خارج الصحيح: "وزناهما اللمس"، "والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يهوى ويتمنى، والفرح يصدق ذلك أو يكذبه".
أصبح الزنا -أيها الأحباب- في بعض بلاد المسلمين مصرحًا له كما يصرح للسوبر ماركت والفنادق والبارات، بل قننت له القوانين التي تبيح ما حرم الله -تبارك وتعالى-، والزنا منكر وفاحشة ومقت في كل الديانات.
من أسباب الهلاك: الظلم وعدم العدل وعدم التحاكم إلى الشرع؛ لأن الشرع لا يكون إلا في تحكيم الشرع، قال الله تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) [الكهف:59].
كم هو الظلم في الأمة، القوي يظلم الضعيف، ويأخذ ماله، ويهتك عرضه، بأي حق؟!
ظلم في الولاة، ظلم في القضاة، ظلم في المدراء، ظلم في المسؤولين، إلا من رحم الله -تبارك وتعالى-، والله تعالى يقول: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102].
في الصحيح عن جابر -رضي الله تعالى عنهما-، أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح -وربط بينهما للعلاقة بينهما- فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم"، اتقوا الشح، شح على المناصب، شح على الجاه، شح على الأموال، تلك التي تفسد، "ما ذئبان جائعان -وفي رواية: ضاريان- أرسلا على غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والجاه لدينه".
ومن أسباب هلاك الأمم، وتدمير الديار: عدم المساواة في الحقوق والمظالم وإقامة الحدود والقصاص بين أفراد المجتمع؛ فلا ينتصر للشريف، ويؤخذ من الضعيف ولا يُنتصر له، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إن الناس إذا رأوا الظالم ثم لم يأخذوا عليه أوشك الله أن يعمهم بعذاب من عنده". رواه الترمذي وأبو داود عن أبي بكر -رضي الله عنه-.
وفي الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "إنما أهلك من كان قبلكم أن كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة -وحاشاها رضي الله عنها- سرقت لقطعت يدها". متفق عليه عن عائشة -رضي الله عنها-.
وفي ابن ماجه عن جابر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لمهاجرة الحبشة لما رجعوا: "ألا تحدثوني بأعجب ما رأيتم بأرض الحبشة؟!" قال فتية منهم: يا رسول الله: بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرّت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها على ركبتها فانكسرت قُلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه ثم قالت: ستعلم -يا غدر- إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم أمري وأمرك عنده غداً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "صدقت، صدقت، كيف يقدس الله قوماً لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟!".
فيا أيها الناس: مهما بلغت قوة الظلوم وضعف المظلوم فإن الظالم مقهور مغلوب مخذول مغلول، وأقرب الأشياء صَرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم، فليس بينها وبين الله حجاب يرفعها فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول: "وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين"، فالظلم جالب المحن، وسبب الإحن، والجور مسلبة للنعم، مجلبة للنقم، وقد قيل: "الأمن أهنأ عيش والعدل أقوى جيش".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، والسالكين طريقه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المؤمنون: من أسباب الهلاك التي غفل عنها الناس: الركون إلى الظلمة: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ) [هود:113].
أيها الأحباب في الله: ركنت الأمة إلى الظلمة منها ومن عدوها، والله إنك لتعجب عندما وترى وتسمع أن الأمة في اليمن وفي غير اليمن تركض وراء قتلتها، وراء عدوها الذي خرج لإذلالها، تسمع التصريحات أن أمريكا أرادت كذا، فالحاكم والمعارض والكل ينتظر ما تقول أمريكا، وما يقول الاتحاد الأوروبي: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر:19].
إذا نزلت بالعباد مصيبة فأنزلوها بالعباد أوشك الله -تبارك وتعالى- أن يمدهم بالعذاب ولا يرتفع عنهم، وإذا أنزلوها بالله -تبارك وتعالى- أوشك الله سبحانه أن يرفعها؛ فإن الأمور بيده -تبارك وتعالى-، فلا تركنوا -يا أيها الناس- إلى الكفرة، إلى الظلمة، إلى الملاحدة، إلى أعدائكم، إلى قتلة أبنائكم، إلى الذين استحلوا أرضكم ودياركم، والله ما أمريكا تحب أحداً منهم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة:120]، فلا تركنوا إلى الظالمين فتحلوا العقوبات.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- العافية والمعافاة؛ فإن عافيته أوسع لنا، ورحمته -تبارك وتعالى- أوسع لنا.
فإياكم إياكم أيها الناس! والحذر من مناصرة الظالم وإعانته على ظلمه.
ومن أسباب الهلاك ما جاء في الحديث عن بريدة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا من قبلهم، ولم ينقصوا الكيل والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان"، في الأزمات والمصائب لا يتراحم الناس، ما زال تطفيف المكيال، وما زال تطفيف الميزان (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين:1]، "ولم ينقصوا الكيل والميزان إلا أخذوا بالسنين" مجاعات، الفقر، قلة الأطعمة، غلاء الأسعار، النفط معدوم والغاز معدوم؛ لنرجع إلى أنفسنا: أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلا سلط الله عليهم عدوهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتحروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم. رواه ابن ماجه وغيره وله شاهد من حديث ابن عباس.
ومن أسباب الهلاك: الغلو في الدين، وتكفير المجتمعات، وعدم النظر إلى تيسير الدين كما أراده الله وأراده رسول الله لا كما يريده المميعون للدين؛ فإن الدين يسر، وما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام- يسر، "ولن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه"، "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق؛ فإن المُنْبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، الغلو في الدين، التعدي والمجاوزة في الأحكام، التعدي والمجاوزة في تطبيق السنن وفي أحكام الشرع، فإن النبي -عليه الصلاة والسلام- بعث بالحنيفية السمحة: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:185]، ولكن كما سمعتم وفق شرع الله، فلم يكلف الله هذه الأمة إلا وسعها.
يقول -عليه الصلاة والسلام-: "إياكم والغلو في الدين؛ فإنه أهلك من كان قبلكم"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "هلك المتنطعون". رواه مسلم.
ومن آثار هذا الغلو: الخلاف والفرقة الناشئة عن ذلك وعن غيره.
قال ابن عمرو -رضي الله عنهما-: "هجرت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً، فسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرف في وجهه الغضب، فقال: "إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم في الكتاب". رواه مسلم، وعند أحمد، ويشهد له الحديث السابق عن سعد: "إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف". رواه ابن حبان والحاكم عن ابن مسعود. قال الله تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال:46]، (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام:159].
من أسباب هلاكنا: الاختلاف، ومن أسباب الاختلاف الغلو في الدين، ومن أسباب الاختلاف هذه الديمقراطية التي جلبها أعداؤنا إلينا، أما عرفت الأمة العدل إلا لما جاءت هذه الديمقراطية الكافرة؟! ما حكمت الأمة بالعدل هذه الأزمنة الطويلة وكان عزها في تحكيمها لشرع ربها حتى جاءت هذه الديمقراطية التي هي زبالة من زبالات أفكار البشر، والتي يدعو إليها الآن أكثر الناس، بل الذي لا يدعو إليها يريد أن يردنا إلى الظلم. سبحان الله العظيم!
والله -يا أيها الناس- إننا إن مشينا في هذا الطريق فلا يزال البلاء والمصائب فينا حتى نراجع دين الله -تبارك وتعالى-، فالديمقراطية لا تصلح لنا، ما أصلح هذه الأمة إلا الإسلام، وما أعز هذه الأمة إلا الإسلام، ومهما ابتغت الأمة العزة والخروج من المهالك، والخروج من المصائب، والخروج من الدمار في غير كتاب ربها، وسنة نبيها -صلى الله عليه وآله وسلم- فقد هَلكت وأَهلكت.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرفع عن هذه الأمة الغضب والمقت، وأن يردها إلى دينها رداً جميلاً: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم".
أيها الإخوة في الله: أسباب دفع النقم كثيرة، ولن أخرج عن سببين أو ثلاثة؛ الأول: التوبة إلى الله سبحانه وتعالى: أول هذه الأسباب: التوبة إلى الله -سبحانه وتعالى-، فما أصاب الناس مصيبة إلا بذنب وما رفعت إلا بتوبة: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30].
فتوبوا إلى الله -عباد الله-، توبوا إلى واستغفروه، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا) [الكهف:55]، فاستغفروا الله وتوبوا إلى الله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33]، لن يعذب الله هذه الأمة وهي تستغفر ربها، وتعرف أنها أذنبت فتتوب، فيرفع الله عنها ضرها، إذا أرادت الأمة أن يرفع الله عنها البلاء والمصائب فلتتب إلى الله، ولتكثر الاستغفار، نرجع إلى أنفسنا، ما أصبنا إلا بأنفسنا، لا نرم اللوم على غيرنا، نحن الملومون، ذنوبنا هي التي سببت فرقتنا، هي التي أدت إلى فرقتنا، هي التي أدت إلى ما نحن فيه، فلنتب إلى الله -تبارك وتعالى-، ولنبشر بوعد الله -سبحانه وتعالى-.
الأمر الثاني -أيها الأحباب- قضاء الحوائج وتفقد أحوال بعضنا، دعونا في الجمعة الماضية إلى التعاون، وفي هذه الجمعة ندعوكم إلى أن نسد جوعة فقير، الله -عز وجل- يوم القيامة يأتي يقول: "عبدي: استطعمتك فلم تطعمني، يا رب: وكيف أطعمك؟! يقول: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، استسقيتك فلم تسقني، يا رب: كيف أسقيك وأنت الله؟! قال: استسقاك عبدي فلم تسقه"، "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، وقد قيل -وجاء مرفوعاً وفيه نظر-: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء"، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة. "لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة"، فلا تحقروا شيئاً من المعروف أن تبذلوه أيها الأحباب.
لما دخل قوم من مضر عليهم ثياب غالبها من النمار، رآهم النبي -عليه الصلاة والسلام- فأشفق عليهم، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الصدقة عليهم فقال: "تصدق رجل من صاع بره، من صاع تمره، من صاع شعيره، فجاء رجل بذهب كادت يده تعجز عن حمله، بل قد عجزت، ثم رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها"، ثم جاء هذا ببره وهذا بصاعه حتى كانت أكواماً، فتهلل وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه مذهبة"، تهلل وجهه -عليه الصلاة والسلام- كالذهب لما رأى ذلك.
أخيراً -أيها الأحباب-: الدعاء.. الدعاء، "إذا تمنى أحدكم فليستكثر؛ فإن الله لا مكره له"، تمنوا على الله -أيها الأحباب-، اسألوا الله من فضله، فبيده خزائن كل شيء، بيده الضر وبيده النفع، لا يدفع الضر إلا هو، ولا ينزل النفع والخير إلا هو، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
قال بعض السلف: "من أكثر قرع الباب أوشك أن يفتح له، ومن أكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له".
ادعوا الله -تبارك وتعالى- وأنتم موقنون بالإجابة"، "إذا دعا أحدكم فليعزم وليعظم المسألة فإن الله تعالى لا مستكثر عليه، ولا مكره له -تبارك وتعالى-".
ندعو الله ونحن موقنون بأن يجيبنا الله -تبارك وتعالى-، فقد وعد ووعده لا يخلف!