البحث

عبارات مقترحة:

المتين

كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

المتكبر

كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...

المدافعة والتوسط بين الحق والباطل

العربية

المؤلف د ماجد بن عبدالرحمن آل فريان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة
عناصر الخطبة
  1. سنة التسخير .
  2. سنة الابتلاء والمدافعة وفوائدها .
  3. بداية وجود سنة المدافعة .
  4. شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وميزتها وأفضليتها في المدافعة .
  5. النصر والتمكين لا يكون بأبسط الأسباب .
  6. الدين محفوظ .
  7. إظهار الله أسباب النصر والتمكين لعباده .
  8. الكلمة والفكرة من أبرز مظاهر الصراع بين الفريقين .
  9. موقف المؤمن من قدح الكافرين والمنافقين في دينه .
  10. الوسطية المطلوبة والمرفوضة .

اقتباس

.. ومع هذا التسخير المعجز في تطبيقه، والمدافعة الملفتة في تدبيرها، جعل الله عباده متفرقين في صفاتهم، مختلفين في طباعهم، متباينين في توجهاتهم وأفكارهم وآرائهم، فليسوا على صفة واحدة، وليست لهم مصالح مضطردة، بل إن مصالحهم في كثير من الأحيان تكون متناقضة، وأمزجتهم تكون متخالفة، ومصائب بعضهم مصالح لغيرهم، ولو شاء سبحانه لجعلهم سواسية ..

 

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ...

أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى ...

معاشر المسلمين:
لقد سخر الله العباد بعضهم لبعض وجعلهم في معايشهم طبقات يستفيد القوي من الضعيف ويستفيد الضعيف من القوي (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، ولا يطغى أحد على أحد طغياناً كاملاً دون مدافعة من الآخر، ولو سارت الحياة على رغبة البعض دون الآخرين لفسدت وتعطلت فيها المعايش (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).

ومع هذا التسخير المعجز في تطبيقه، والمدافعة الملفتة في تدبيرها، جعل الله عباده متفرقين في صفاتهم، مختلفين في طباعهم، متباينين في توجهاتهم وأفكارهم وآرائهم، فليسوا على صفة واحدة، وليست لهم مصالح مضطردة، بل إن مصالحهم في كثير من الأحيان تكون متناقضة، وأمزجتهم تكون متخالفة، ومصائب بعضهم مصالح لغيرهم، ولو شاء سبحانه لجعلهم سواسية، وجعل مصالحهم متفقة، ولكنها سنة الله وحكمته يقول عز وجل: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)، وجعل الله في كونه فريقاً نسبهم إليه فهم حزب الله، وجعل في كونه فريقاً آخر نسبهم إلى غيره وهو الشيطان فهم حزب الشيطان، ولم يجعل بينهم فريقاً يستحق الذكر أو الإشادة؛ فهم إما أولياء للرحمن وحزبه، وإما أولياء للشيطان وحزبه.

وقد سنَّ سبحانه بين هؤلاء وأولئك التصارع والتدافع، ولم يجعل بينهم فريقاً في نجوة من هذا الصراع إلا ما يكون من فريق النفاق وهو الفريق المذبذب الذي يحاول التماهي مع الجميع، ويتطوح بين الصفوف، (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) وإذا حقت الحقائق عاد إلى حزبه في قرن الشيطان، وتنكر لعباد الرحمن، وإذا قامت القيامة كان في المنزلة اللائقة به في الدرك الأسفل من النار (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا).

وأخبر سبحانه أن أهل الحق لو لم يقوموا بحقهم الطبيعي فيدافعوا عن دينهم، ويذودوا عن شريعتهم، ويشمروا لمساجدهم - لكان مصيرهم إلى الهلاك، ومآل مساجدهم إلى الهدم والإتلاف، يقول المولى سبحانه: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً).

ولا خيار للمسلم إن فقه دينه، وفقه الحياة الكريمة، وفقه سنن الله الكونية والحياتية، بين أنْ يمارس المدافعة الرافعة للإفساد، وبين أن يترك دفع الظالمين وإفسادهم في الأرض؛ لأن إسلام المرء لا يكتمل بغير المدافعة، وإنكار المنكر ولو بالقلب وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.

إن الحياة الإسلامية الكريمة لا تكون بغير مدافعة الظلم والإفساد، بالجهاد باللسان والسنان، والنصح والبيان، وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، ولا تركت أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا فشت فيها المنكرات، وابتلوا بقلة الغيث، وجور السلطان، وتغير عليهم أمر الدين والدنيا، ولا يمكن أن يبقى أمر الإسلام عزيزاً، وشأنه عالياً، وشرعه محروساً إلا بالمدافعة بين الحق والباطل بـمفهومها الرسالي المنضبط بضوابط الشرع، في الأمر والنهي، والوعظ والنصح، والحوار والجدل.

ولقد أخبر الله سبحانه أن مقاتلةَ الكافرين للمؤمنين وعداوةَ المنافقين للصالحين سنةٌ ماضية وحقيقةٌ باقية فقال سبحانه: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)، وقال عن المنافقين (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).

ويبتلى الله بسبب ذلك أهل الإيمان وهو من تمحيصه لهم، وتمييزه الخبيث من الطيب: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، ولا يسلم أهل الكفر من المشقة والعنت، فهم يضحون في سبيل مبادئهم ويألمون بسبب منهجهم، ويبذلون من جهدهم ومالهم لتحقيق مآربهم (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).

وإذا استحضر هذا فإن أهل الحق أولى بالصبر على الشدائد منهم، وأجدر بالمدافعة عن حقهم من أهل الباطل في دفاعهم عن باطلهم، وهذا ما أوجبه الله على نبيه وعلى المؤمنين من بعده؛ مدافعةً للكفر وأهله، وصيانة للدين وحياضه، (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ -أي بالقرآن- جِهَاداً كَبِيراً)، وباليد والسلاح (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

وحذر -سبحانه- من الميل إلى حزب الشيطان أو التوسط بينه وبين المؤمنين، أو التذبذب بين الفريقين، فقال -سبحانه-: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً).

وقال -سبحانه- في وصف حال المنافقين عندما يتطوحون بين أهل الحق وأهل الباطل (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً).

معاشر المسلمين: ولم تكن سنة المدافعة بين الحق والباطل موجودة في الأمم السابقة قبل موسى -عليه السلام-، بل كانت سنة الله من قبل هي إهلاك المكذبين دون جهاد ومدافعة من الصادقين الصالحين، كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعادا بالدبور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل، وقوم شعيب بيوم الظلة, حتى جاء إهلاك فرعون بأمر الله، وإغراقه بقضائه وتدبيره دون جهاد ومدافعة من موسى عليه السلام ومن معه، ثم نزلت التوراة على موسى وفيها شرع الجهاد، والمدافعة والمغالبة للكافرين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت شريعة محتَّمة صارمة حتى إن اللعنة حلت على بني إسرائيل لما تركوا جانب المدافعة للعصاة بنهيهم عن المنكر وأمرهم بالمعروف (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).

وبقيت شريعة الجهاد في دين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتميزت الأمة المحمدية وفضلت بظهور شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها، وهي أبرز الشرائع التي تعبر عن هذه السنة الإلهية في الصراع بين الحق والباطل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)، وستظل شريعة القتال والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باقية في الأمة لا يضرها من خذلها ولا من خالفها إلى أن يجاهد المسيح ابنُ مريم الدجالَ وأتباعَه من اليهود، ويقيمَ العدل ويريقَ الخمر، ويملأَ الدنيا عدلاً بعد أن ملئت جوراً، وسيبقي الله في الأمة طائفة منصورة باقية محافظة لا يضرها من خذلها، ولا من خالفها حتى تقوم الساعة وهم على ذلك.

معاشر المسلمين: وبعد أن شرع الله جهاد الكافرين والمنافقين، وسن هذا الصراع الحقيقي بين الحق والباطل لم يكن ليعطي المؤمنين النصر والتمكين على طول الطريق، وبأبسط الأسباب، بل إنه سبحانه ذكرهم بأيامه، وجعلها دولاً، فأيامٌ تكون الغلبة فيها للمؤمنين، وفي أخرى تكون الدائرة عليهم، وفي هذا من الابتلاء والتمحيص ما لا يخفى، ولم يكن هذا من حاجة ذاتية في الدين لرجاله، أو خشية عليه في بقائه وزواله، وإنما هو لاختبار الإيمان وتمحيص اليقين، وتمييز الصادقين من الكاذبين (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).

والدين محفوظ بحفظ الله (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، ولكن المقصرين في المدافعة يحرمون أنفسهم من شرف النصر، وسعادة التمكين، ويبقون في ذل الهوان، وحياة الاستضعاف فالحاجة في نصرة الدين هي للمؤمنين أنفسهم قبل غيرهم؛ لأن الدين محفوظ بحفظ الله تعالى، ولكنه قد يكون محفوظاً في أرض غير أرضك؛ لتقصيرك في جنب الله، وتسليمك الأمر لأهل الباطل، والله مستغن عنك وعن جهادك: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)، ولكنك لما قصرت جعل الله نصرة الدين من غيرك، وجعل عزته في غير مكانك وبلدك (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)، ولو أراد الله -سبحانه- لألحق الهزيمة بالكافرين بمحض تدبيره وتقديره دون جهد وجهاد وقتال من المؤمنين (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ).

معاشر المسلمين: ولما جعل الله الأيام دولاً، والصراع سجالاً لم يكن ليحرم عباده من معرفة أسباب نصره، وأسرار تمكينه، والطريق إلى العزة والمنعة، فكان صريحاً في القرآن أن الله ينصر من يقوم بنصر دينه، ويتحلى بشروط تمكينه، وأن الدائرة لا تكون على المؤمنين إلا بسبب التقصير في الدين، والإخلال بشروط التمكين، وهذه السنة العظيمة جاءت بذكرها آيات كثيرة في كتاب الله تعالى، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إن الله لقوي عزيز).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ...

أما بعد: فيا عباد الله:

إن من أبرز مظاهر الصراع بين الحق والباطل الصراعُ بالكلمة، والفكرة، من خلال المقالة والكتاب، والدرس والمحاضرة، والجدل والمناظرة، يقول الله -عز وجل-: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً) وقال -سبحانه-: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ).

فهذا الجدال المتعدد الصور هو من الصراع بين الحق والباطل، وقد أشار الله إلى استمراره وفشوه في أهل الباطل عندما عبر عنه بصيغة المضارع إشارة إلى أنه جدل مستمر (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالباطل) فالفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار والدوام، فديدن الكفار والمنافقين أنهم يجادلون بالباطل؛ ليدحضوا به الحق، ويستهزئون بالآيات والنذُر، وهذا جزء كبير من الصراع بين الحق والباطل، ونتيجة هذه المجادلة على صاحبها مقررة في كتاب الله (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) فالنتيجة هي أخذ الله -تعالى- المجادلين بالباطل، فلا تغتر -يا عبد الله- بكثرتهم، ولا تغتر بهيلمانهم، ولا تصدق دعاواهم، ولا تنبهر من المقالات الطويلة العريضة، والكتب الضخمة، والأجهزة المسخرة للباطل؛ لأن المجادلة في ثوابت دين الله ليست أمراً هيناً، وعاقبتها وخيمة: (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) فلا تغتر بهذه المجادلات، ولا تحزن كثيراً لهذا الفجور في الخصومات؛ لأن هذا من سنة الله في فضح المنافقين (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ).

ومن آية المنافق أنه إذا خاصم فجر، ولكن كلمته ما لها من قرار؛ لأنها كلمات خبيثة، وقد ضرب الله مثلها في القرآن فقال: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) ولذلك قال العارفون: دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.

والخصومة والصراع بين الحق والباطل يبدأ أولاً بالكلمة، ثم ينتقل بعد ذلك إلى مجالات وميادين أخرى، يبدأ بالمدافعة والمجاهدة الفكرية والدعوية والعقدية، ويصل إلى ميادين الحرب والقتال بين المؤمنين والكفار، (وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) فقد جعل الله مقاليد النصر والعز والتمكين بيده، وجعل مقادير الذل والهوان والهزيمة والصغار بإرادته فهو الذي يعطي ويمنع، ويبسط ويقبض، ويرفع ويضع (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ولا يتضرر المؤمن ولا يحزن من قدح الكفار والمنافقين في دينه، أو بعض شرائعه، فإن العزة في الدين وهي لله ولرسوله وللمؤمنين مهما قالوا ولكن المنافقين لا يفقهون: (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

ولا ينبغي للمؤمن بسبب تواطؤ أقلام المنافقين وأفواههم على إطفاء نور أن يهادنهم أو يتخاذل عن خوض هذا الصراع الأزلي معهم، بحجة التعقل والتوسط فإن التوسط الشرعي طريق حق بين ضلالتين كما ترسمه آيات القرآن في فاتحة الكتاب: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) فالصراط المستقيم يقوم في المسار الوسط بين مسار (المغضوب عليهم) ومسار (الضالين)، وهذه الوسطية التي مدحت بها هذه الأمة في قوله -سبحانه-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) وليست وسطية الذين في قلوبهم مرض عندما يتوسطون بين الحق الباطل، ويتذبذبون بين فريق الرحمن، وحزب الله، وبين حزب الشيطان والمحادين لله ولرسوله، ويدَّعون أن هذه هي الحنكةُ والعقلانية، ولم يغفل الله عن هؤلاء المخاتلين، فإن الله -تعالى- لما ذكر أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وخصومهم، ذكر طائفة أخرى من الناس أرادت أن تنتهج منهج "الوسطية" بين الفريقين، فقال تعالى -عن هذه الوسطية المرفوضة-: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ) وهؤلاء أصحاب الوسطية المرفوضة تجدهم دوماً يحاولون أن يحسنوا العلاقات مع الجميع، مع أهل الحق ومع خصومهم أيضاً، أو كما يقولون بلغتهم المفضلة (نَبْنِيْ جسور العلاقات مع جميع الأطراف!)، وقد قال تعالى عن هذا المظهر من مظاهر وسطيتهم: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا)، فالوسطية المطلوبة في القرآن نجدها دوماً (حقاً بين باطلين) .. أما الوسطية المرفوضة في القرآن فنجدها دوماً (وسطاً وتذبذباً بين الحق والباطل).

وهؤلاء الذين ينادون دوماً بالوسطية الدينية، والوسطية في فهم الإسلام، إن كانوا يعنون بالوسطية وسطية "أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" في تفسير النص، والموقف من العلوم المدنية، والموقف من الكافر، ودور المرأة، وضوابط الحريات الشخصية، وغيرها فهذه وسطية مشكورة محمودة، ونحن جنودٌ لكلِّ راية تحمل هذه الوسطية، أما إن كان المرادُ التوسط بين منهج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وبين أحفاد أبي رغال، ومغازلي الفكر الغربي الليبرالي، فهذه وسطية مردودة ونحن –بعون الله- خصومٌ لهذه الوسطية التي سبق أن شرح القرآن نظيرها فقال: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ).

اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.

اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إن تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ..