المقدم
كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...
العربية
المؤلف | أحمد آل مزهود الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فلعلنا -أحبتي في الله- نقف في هذه الجمعة وقفات لنأخذ من سنّة النبيّ، وننطلق من حديثه، فننهل النورَ ممّا وجَّهنا به حبيبنا ونبينا -عليه الصلاة والسلام-. فقد روى البخاريّ ومسلم عَنْ سَالِم بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "كُلُّ أَمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ...".
الخطبة الأولى:
الحمد لله، آوى إليه من إلى لُطفه أوَى، وداوَى بإنعامه من يئِسَ من إسقامه الدوا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حرَّم العدوان والبغيَ والأذى، وأمرَ بالسِّتر والزكاءِ والحيا.
وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، من اتبعَه كان على الخير والهُدى، ومن عصاه كان في الغوايةِ والرَّدَى، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه معادِن التقوى وينبوع الصَّبَا، صلاةً تبقَى، وسلامًا يَترَى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون: بالتقوى تحلُّ الخيرات، وتنزلُ البركات، وتندفعُ الشرور والآفات، (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر:61].
أحبتي في الله: إن المؤمن يتصوَّن عن كل فعلٍ تعود عليه فيه سُبَّة، ويعلَقُ به منه عارٌ، وتلحَقُه به دنيَّةٌ ومعاذَة، ورُبَّ سخطةٍ جلَبَت فضيحةً لا تُطفَأُ نارُها، ولا يخمُدُ أُوارُها.
وموتُ الفتى لم يُعطَ يومًا خسيفةً | أعفُّ وأغنى في الأنامِ وأكرمُ |
العبدُ يسمُو ويهفو، والله يمحو ويعفو، والعبدُ يُذنِبُ ويفجُر، والله يغفِرُ ويستُر، والله حليمٌ حيِيٌّ ستِّير.
وهو الحييُّ فليس يفضَحُ عبدَه | عند التجاهُر منه من عصيانِ |
لكنه يُلقي عليه سِترَه | فهو الستيرُ وصاحبُ الغُفرانِ |
وكيف يُتصوَّرُ الأمرُ لو كانت الخلَوات بين الخلقِ بادية، والغدَرات على الناسِ غير خافية؟ فعن قبيصةَ بن عقبة قال: بلغ داودَ الطائيَّ أنه ذُكِر عند بعضِ الأمراء فأثنى عليه، فقال: "إنما نتبلَّغ بستره بين خلقه، ولو يعلمُ الناسُ بعضَ ما نحن فيه ما ذلَّ لنا لسانٌ أن نُذكَر بخيرٍ أبدًا". فلله الحمدُ على سِتره الجميل، وبرِّه الجزيل.
فلعلنا -أحبتي في الله- أن نقف في هذه الجمعة وقفات لنأخذ من سنّة النبيّ، وننطلق من حديثه، فننهل النورَ ممّا وجَّهنا به حبيبنا ونبينا -عليه الصلاة والسلام-.
فقد روى البخاريّ ومسلم عَنْ سَالِم بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "كُلُّ أَمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُول: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ".
"كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ"، بشرى طيبة يزفها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمته المباركة, بأنها أمة المعافاة في الدنيا والآخرة.
فأما في الدنيا بأن الله لن يهلكها بسنة عامة كما خسف بالأمم السابقة, فقد ابتلى الله الأمم الغابرة بأصناف العذاب البالغة، ابتلاها بعذاب الاستئصال، الذي يودي بجميع الأمة فلا يبقي منها ولا يذر، كما حصل مع قوم نوح وعاد وثمود، وابتلاها بالعذاب الشديد الذي يصيب الأمة ويزلزلها كالطواعين والطوفان والكوارث من خسف ومسخ، وقد عذب الله به فرعون وبني إسرائيل، وهذا النوع من العذاب لا يؤدي إلى فناء الأمة المعذبة برمتها.
قال الله -جل في علاه-: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:40].
وعَنْ ثَوْبَانَ، مَوْلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ، فَرَأَيْت مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، فَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا, وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ: الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ. وَإِنِّي سَأَلْت رَبِّي لأمَّتِي أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ, وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ, فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، فَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ, إِنِّي إِذَا قَضَيْت قَضَاءً، فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ, وَإِنِّي أُعْطِيكَ لأمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ, وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ, وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا" -أَوَ قَالَ: "مِنْ بَيْنِ أَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود.
وأما المعافاة في الآخرة -أحبتي في الله- فتكون بعدم الخلود في النار، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (فيما يرويه عن الله تعالى): "أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً، أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً".
وفي رواية: عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، أَنَّهُ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً، أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ دُودَةً".
وفي صحيح مسلم، عن أبي بُردَةَ عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضَعُها على اليهود والنصارى".
وفي لفظ له: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان يوم القيامة دَفَعَ الله لكل مسلم يهوديًّا أو نصرانيًّا، فيقال: هذا فَكَاكُكَ من النار" رواه مسلم.
فما أعظمها من بشارة لك أيها المؤمن المعافى! يا من إذا وقعت في المعصية أو الخطيئة تبت إلى ربك وأنبت، وعن ذنبك أقلعت...
"كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ"، وفي الحديث وعيد وتحذير لمن ارتكب المعاصي وجاهر بها: فالنفس متى ألفت ظهور المعاصي زاد انهماكها فيها ولم تبال باجتنابها؛ لذا حذر الشرع المطهر من مجاهرة الله بالمعصية، وبيّن الله -تعالى- أن ذلك من أسباب العقوبة والعذاب.
فمن النصوص الدالة على ذلك قوله -تبارك وتعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور:19].
هذا الذم والوعيد فيمن يحب إشاعة الفواحش؛ فما بالك بمن يشيعها ويعلنها؟
إذَا رُزِقَ الْفَتَى وَجْهًا وَقَاحًا | تَقَلَّبَ فِي الأمور كَمَا يَشَاءُ |
وفي قوله -تبارك وتعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41], قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآية بأن النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي. وقال أبو العالية: من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة. اهـ. تفسير ابن كثير.
وفي الحديث عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك الله أن يعمهم بعقابه" رواه الترمذي.
إن المجاهرة بالمعصية، والتبجُّحَ بها؛ بل والمفاخرة، قد صارت سمةً من سمات بعض الناس في هذا الزمن، يفاخرون بالمعاصي، ويتباهون بها، فلا يتوبون، ولا هم يستترون، وهؤلاء هم المجاهرون.
قال النووي -رحمه الله-: "يكره لمن ابتُلي بمعصية أن يُخبر غيره بها"، يعني: ولو شخصًا واحدًا، بل يُقلع عنها ويندَم ويعزم أن لا يعود، فإن أخبر بها شيخَه الذي يعلّمه أو الذي يفتيه أو نحوَه من صديق عاقلٍ صاحب دين مثلاً، يرجو بإخباره أن يعلّمه مخرجًا منها، أو ما يَسْلَمُ به من الوقوع في مثلها، أو يعرّفه السببَ الذي أوقعه فيها، فهو حسن، وإنما يحرُم الإجهار حيثُ لا مصلحة؛ لأن المفسدةَ حينئذ ستكون واقعة.
فالكشفُ المذموم هو الذي يقع على وجه المجاهرة والاستهزاء، لا على وجه السؤال والاستفتاء، بدليل خبر من واقَعَ امرأته في رمضان، فجاء فأخبر النبي لكي يعلّمه المخرج، ولم ينكر عليه النبي في إخباره.
والمجاهرة بالمعاصي دليل على نزع الحياء من المرء الذي هو لب الدين وخلقه، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ" أخرجه ابن ماجة.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ عَبْدًا نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ، فَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ لَمْ تَلْقَهُ إِلاَّ مَقِيتًا مُمَقَّتًا، فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ إِلاَّ مَقِيتًا مُمَقَّتًا نُزِعَتْ مِنْهُ الأَمَانَةُ، فَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ الأَمَانَةُ لَمْ تَلْقَهُ إِلاَّ خَائِنًا مُخَوَّنًا، فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ إِلاَّ خَائِنًا مُخَوَّنًا نُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَةُ لَمْ تَلْقَهُ إِلاَّ رَجِيمًا مُلَعَّنًا، فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ إِلاَّ رَجِيمًا مُلَعَّنًا نُزِعَتْ مِنْهُ رِبْقَةُ الإِسْلاَمِ" أخْرَجَهُ ابن ماجة.
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ"، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ ِللهِ، قَالَ: "لَيْسَ ذَاكَ، وَلكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ" أخرجه أحمد.
يقول الشاعر:
إذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي | وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ |
فَلاَ وَاَللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ | وَلاَ الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ |
يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ | وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ |
قال أبو حاتم البستي: الحياء اسم يشتمل على مجانبة المكروه من الخصال، والحياء حياءان: أحدهما استحياء العبد من الله -جل وعلا- عند الاهتمام بمباشرة ما خطر عليه، والثاني استحياء من المخلوقين عند الدخول فيما يكرهون من القول والفعل.
قال ابن حبان: الواجب على العاقل لزوم الحياء؛ لأنه أصل العقل، وبذر الخير، وتركه أصل الجهل، وبذر الشر. والحياء يدل على العقل، كما أن عدمه دال على الجهل.
وقال في روضة العقلاء: الحياء من الإيمان، والمؤمن في الجنة؛ والبذاء من الجفاء، والجافي في النار، إلا أن يتفضل الله عليه برحمته فيخلصه منه.
إذا قل ماءُ الوجه قلّ حياؤه | ولا خير في وجه إذا قل ماؤه |
حياءك فاحفظه عليك فإنما | يدل على وجه الكريم حياؤه |
وقد قال بعض السلف: من عمل في السر عملاً يستحيي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدر؛ فإن الحياء تمام الكرم، وموطن الرضا، وممهِّد الثناء، وموفِّر العقل، ومعظم القدر.
إني لأستر ما ذو العقــل ساتــــره | من حاجةٍ وأُميتُ السر كتمانا |
وحاجة دون أخرى قد سمحتُ بها | جعلتها للتي أخفيتُ عنــــوانا |
إني كأنــــي أرى مَن لا حيــــاء له | ولا أمانة وسط القـــوم عريانا |
دخل رجل على أحمد بن حنبل وأنشده:
إذا قال لي ربى | أما استحييت تعصيني |
وتخفى الذنب عن خَلقي | وبالعصيان تأتيني |
فما قولي له لما | يعاتبني ويقصيني؟ |
فكررها أحمد بن حنبل وهو يبكى.
فنزع الحياء يجعل المرء يألف المعصية ويستمرئها؛ فتخرج المرأة متعطرة متبرجة، ويفعل الناس المنكرات علانية، كما نراهم يشربون الدخان, وكذا يستمعون إلى الأغاني الصاخبة، ويُسمعونها غيرهم في الأماكن والطرقات، مجاهرين بمعاصيهم لرب الأرضين والسموات. فلا حول ولا قوة إلا بالله! ونسأل الله لنا ولهم العافية.
فاللهم إنا نسألك أن تتوبَ علينا، وأن ترحمنا، وأن تغفر لنا، وأن تسترنا بسترك الجميل في الدنيا والآخرة، وأن تصفح عنا الصفح الجزيل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانِهِ، والشكرُ له على توفيقهِ وامتِنانِهِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لِشأنِه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسوله الداعي إلى رِضوانِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانِهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقِبوه، وأطيعُوه ولا تعصُوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِيْنَ) [التوبة:119].
"كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ"، إن الله -تعالى- يستر على عبده ما لم يفضح العبد نفسه. قال ابن القيم -رحمه الله-: "الذنوبُ جراحاتٌ، ورُبَّ جرحٍ وقع في مقْتَلٍ، وما ضُرب عبدٌ بعقوبةٍ أعظمَ من قسوةِ القلبِ والبعدِ عن اللهِ، وأبعدُ القلوبِ عن الله القلبُ القاسي".
ورحم الله أبا العتاهية حين تخيل لو أن للذنوب رائحة كريهة تفوح فتفضح المذنب؛ فكيف سيكون حالنا؟ وكيف أن الله قد أحسن بنا إذ جعل الذنوب بلا رائحة! قال:
أحسَنَ اللهُ بنا | أنَّ الخَطايا لا تَفوح |
فإذا المستور منَّا | بين ثوبيه فضُوح |
وقال الحارث المحاسبي -رحمه الله-: "اعلَمْ -يا أخي- أنَّ الذُّنوبَ تورِثُ الغَفْلةَ، والغفلةُ تورِثُ القسوةَ، والقَسوةُ تورِثُ البعدَ من اللهِ، والبعدُ منَ اللهِ يورثُ النارَ، وإنما يتفكَّرُ في هذا الأحياءُ، وأما الأمواتُ فإنَّهم قد أَماتُوا أنفسَهم بحُبِّ الدُّنْيا".
يروى أنهم أتوا إلى عمر -رضي الله عنه- برجل قد سرق، فقال هذا السارق: أستحلفك بالله أن تعفو عني؛ فإنها أول مرة! فقال عمر -رضي الله عنه-: كذبت! ليست هي المرة الأولى. فأراد الرجل أن تثار الظنون حول عمر فقال له: أكنت تعلم الغيب؟ فقال عمر -رضي الله عنه-: لا، ولكني علمت أن الله لا يفضح عبده من أول مرة، فقُطعت يد الرجل، فتبعه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال: أستحلفك بالله؛ أهي أول مرة؟ فقال: والله إنها هي الحادية والعشرون.
قال أحد السلف: "قد أصبح بنا من نعم الله ما لا نحصيه مع كثرة ما نعصيه, فلا ندري أيهما نشكر؟! أجميل ما ينشر، أم قبيح ما يستر".
فيا أيها الحبيب: ضع أمام عينيك قول الله -تعالى-: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر:19]، وقوله -سبحانه-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة:7]، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اعبد اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" متفق عليه.
حتى لا تكون ممن حق فيهم قول النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-...: "لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي، يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَال جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، هَبَاءً مَنْثُورًا". قَالَ ثَوْبَانُ(راوي الحديث): يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ. قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا" أخرجه ابن ماجة.
عباد الله: هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
فاللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العَرض عليك، اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم لا تبتلينا فنفتضح، واقبل عذرنا، وتولَّ أمرنا، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها.