الملك
كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...
العربية
المؤلف | مجدي مكي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
مصائب مُتوالية حلَّت بهذه الأمة المحمدية، وكوارث متتابعة وحملات وحشية مترادفة، حلّت بها من قبل أعدائها، وهزائم مُتكررة منيت بها، ويقف المرء متسائلًا عن سبب كل ذلك؟! هل هو أمرٌ طبيعيٌ جرى عفوَ الخاطر؟! أم هو بما قدمت أيدي أبنائِها من ذنوبٍ ومعاصٍ؟!
الخطبة الأولى:
مصائب مُتوالية حلَّت بهذه الأمة المحمدية، وكوارث متتابعة وحملات وحشية مترادفة، حلّت بها من قبل أعدائها، وهزائم مُتكررة منيت بها، ويقف المرء متسائلًا عن سبب كل ذلك؟! هل هو أمرٌ طبيعيٌ جرى عفوَ الخاطر؟! أم هو بما قدمت أيدي أبنائِها من ذنوبٍ ومعاصٍ؟!
والجواب أكبر وأعظم من أن يجيب عليه فردٌ منا، وكيف نقدم بين يدي هذا الأمر جوابًا وقد أفصح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما أمدَّه الله من جوامِع الكلم فبيّن الحالة التي نصير إليها وسبب ذلك وما سيعاقبنا الله -عزَّ وجل-.
روى أبو داود عن ثوبان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا"، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: "أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ"، قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهنُ؟! قَالَ: "حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ".
لقد كشف الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمته عن الأسباب العميقة لضعفها حين تضعف، وهوانها حين تهون فقال -وصدَّق الزمان ما قال- بأن المسلمين سيأتي عليهم زمانٌ يصبحون غثاءً كغثاء السيل، وعندها يعاقبهم الله بأن يقذف في قلوبهم الوهن، وما أدراكم ما الوهن؟! حبُّ الدنيا والركون إليها، والعجز عن مجالدة الأعداء والمنافقين، وخور وفتور وضعف وذلة، هذا هو مبعث الوهنِ الحقيقي، وسر الضعف الأصيل، أن يخلد المرء إلى دنياه فيعيش عبدًا لها مطواعًا لأوضاعها، أسيرًا لقيودها، تحركه الشهوات كالخاتم في الإصبع، وتسيره الرغائب كالثور في الساقية، يتحرك في مدار محدود، فاقد الهدف، معصوب العينين.
إن حبَّ الدنيا وكراهية الموت يجعل الأفراد والجماعاتِ يؤثرون حياةً ذليلةً على موتٍ كريم، يؤثرون حياةً يموتون فيها كل يومٍ موتات على موتٍ يحيون بعده حياة الخلود:
ومن لا يمت تحتَ السيوف مكرَّمًا | يَعش ويقاسي الذل غير مكرمِ |
وكان من نتيجةِ هذا الوهن تكالب الأمم الكافرة علينا من كل صوبٍ، حتى غابَ الوجودُ الإسلاميُّ وتوارتِ الشخصية الإسلامية، حتى أصبح المسلمون أشباحًا بلا فكرة، وأجسامًا بلا مبدأ، وهياكل بلا دين. ولئن كان أكثر الغرب باختلاف طبقاته وميوله حاقدًا على الإسلام، فإن المسلمين هم الذين مهدوا لذلك، وهم السبب الأول، فالمسؤولية أمام الله هي مسؤولية المسلمين قبل كلِّ شيء.
نسمع أن المسلمين انتشروا في كل بقاع العالمِ ولكنهم غثاء كغثاء السيل، وبلغوا ثمانمائة مليون مسلم، ولكنهم غثاء كغثاء السيل، ولو أعيدت هذه الإحصائية على نسق آخر، ولو أنها انطلقت في إحصائها معتبرة الرجل المسلم على أقل تقدير هو الرجل الذي يؤدي أركان الإسلام وفرائضه دونما تقصير، ويفعل الحلال ويجتنب الحرام لكان خيرًا، ولما اغتررنا بالعدد، ثم لو انطلقت إحصائية أخرى فأحصت المسلمين الذين يزيدون على ذلك، يفعلون الحلال والمستحب والمندوبَ ويجتنبون الحرام والمكروه، الذين استجابوا لله بالتجارة الرابحة التي دلهم عليها في سورة الصف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الصف:10].
وعقد معهم صفقة البيع والشراء في سورة التوبة: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ) [التوبة:111].
لو أحصي هؤلاء فإنهم سينيرون الإنسانية بنور الله، وسيكونون أهل بدر من جديد: "وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
هذه المقدمة توصلنا إلى هذه النتيجة: أن المسلمين أصبحوا غثاءً كغثاء السيل، بما فقدوا من عناصر الوجود الإسلامي، وتكوين الشخصية الإسلامية، حتى أصبحوا هملًا يقلدون غيرهم، ويهللون ويصفقون لما يأتيهم من الغرب، ونراهم معرضين عما جاءهم من السماء: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآَنَ مَهْجُورًا)[الفرقان:30].
نريد أهل بدر من جديد كي يعيدوا إلى العالم شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- ينطلقون بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى بركات الله، فتخشع الجبال لندائهم، وهم يعلنون كلمة التوحيد عالية، ويكبرون الله وهم يفلقون هام الرؤوس الطاغية، الله أكبر.
لا جرم أن إثبات الذات وبناء الشخصية أمر يسعى إليه كل إنسان، ولكنني أدعو إلى بناء وجود مسلم وشخصية مسلمة، ليس المهم أن يكون بناءً ووجودًا فحسب، إن المهم أن يكون وجودًا إسلاميًا يرضى الله عنه.
وأنتم تقرؤون في كتاب الله عن قادة الكفر وأئمة الضلال كان لهم وجود وكان الناس يسمعون لقولهم، وكانت لهم هيبةٌ في القلوب، ماذا حلَّ بهم يوم كان بناؤهم ووجودهم على غير أساس الإسلام؟! ماذا حلَّ بفرعون الذي ذلَّت له الأعناق، وخضعت له الرقاب، وركع الناس له وسجدوا، وهللوا وسجدوا وحمدوا؟! أطبق الله البحر عليه: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الوِرْدُ المَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ المَرْفُودُ) [هود:98، 99].
ماذا حل بقارون الذي خلب الناس بملكه وبهر أعينهم بأمواله؟! (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) [القصص:81]. ماذا حل بأبي جهل أو أبي لهب؟! والوليد وعقبة وشيبة؟! (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ) [التوبة:109].
إن أساس بناء الشخصية هو القرآن، ومن هذا القرآن صاغ النبي -صلى الله عليه وسلم- صورًا حية من الإيمان، وقرآنًا حيًا يدب على الأرض، لقد طبع النبي -صلى الله عليه وسلم- من المصحف مئات الألوف من النسخ، ولكن لم يطبعها بالمواد على صحائف الورق، إنما طبعها بالنور على صحائف القلوب، إن القرآن هو مصدر البناء، لا نبتغي سواه، فقد ذكر ابن كثير أنه أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتاب من كتب اليهود فقال: "كفى بقوم ضلالةً أن يرغبوا عما جاء نبيهم إلى نبيٍ غيرِ نبيهم، أو كتابٍ غير كتابهم"، فأنزل الله: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت:51].
فلابد أن نرجع إلى ذلك النبع الخالص نستمد منه مقومات شخصيتنا وقيم أخلاقنا، ومناهج حياتنا.
ولو أن الواحد منا أمسك كتاب الله ثم انطلق يتلو في آياته الأولى من سورة البقرة، لوجد تصنيف العالم البشري على طبقات ثلاثٍ طبقة المتقين، وطبقةِ الكافرين، ثم المنافقين.
وقد حدّد القرآن أوصاف الكافرين والمنافقين حتى يتجنب المسلم صفاتهم وأفعالهم: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ)[الأنعام:55]، فالكافرون ختم الله على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون النور، ولا يذعنون للحق، والمنافقون متملقون مخادعونَ مهزومون من واقع الحياة، ينعقون مع كل ناعق، والمؤمنون هم الذين استجابت قلوبهم لهدي القرآن فكأنه أنزل إليهم وحدهم: (الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة 2:1]. وهم قوم آمنوا بما أنزل الله فجعلوا من دين الله ميزان التفكير وميزان الحلال والحرام وميزان الحق والباطل وميزان الهدى والضلال، فما وافق إسلامهم قبلوه، وما خالف إسلامهم رفضوه، ثم انطلقوا إلى المجال العملي فأقاموا الصلاة وأنفقوا مما استخلفهم الله عليه. فجسدوا ما يعتقدون بصورة جيدة واقعية من التطبيق، فكانوا من المفلحين.
أرأيت كيف حدّد الله -عزَّ وجل- في الآيات الأولى من القرآن الخطوط العريضة لشخصية المسلم!!
فهو يأخذ الإسلام بكليته بعقائده وتصوراته، وشعائره وعباداته، ومشاعره وأفكاره، وفضائله وأخلاقه، وتشريعاته وآدابه؛ لأن الإسلام مترابط متكامل الأجزاء، لم يترك جانبًا من جوانب الحياة إلا رسم له المنهاج السليم، والخطة الرشيدة.
ولقد حذَّر القرآن من أخذ بعض أحكام الله دون بعضٍ فقال تعالى في سورة البقرة: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة:85].
وقال سبحانه يخاطب رسوله -صلى الله عليه وسلم- في شأن أهل الكتاب: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:49-50]. فهو إما حكم الإسلام وإما حكم الجاهلية.
فالذين يأخذون من الإسلام جانب العدالة الاجتماعية ولا ينفذون شرائعه ولا يقيمون حدوده، والذين يأخذون من الإسلام جانب محاربة الترف وتحريم الاحتكار ولا يأخذون في تحريم الربا وفرض الزكاة، كل هؤلاء بعيدون عن الإسلام الذي لا يقبل التجزئة ولا الانفصام.
لقد أوضح القرآن في آياته الكثيرة إلى تحديد معالم الشخصية بكل مراميها، فأوضحت التميز بكل صوره، فجعل عقيدة المسلم متميزة، وفكره متميزًا، وأخلاقه متميزة ومظهره متميزًا.
يبتعدون عن الظالمين ويجنبون مجالسهم وأفعالهم: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود:113]، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:145]، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ) [الرعد:37]، (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) [النساء:140]، (قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) [الكافرون3:1].
إنه التميز الكامل والمفاصلة الحاسمة والبراءة التامة بين منهج ومنهج، وتصورٍ وتصور، وطريقٍ وطريق، إن الجاهلية جاهلية، والإسلامَ إسلام، والفارقُ بينهما بعيدٌ فلا يلتقيان.
الخطبة الثانية:
ومن أهم الخطوات في بناء الشخصية الإسلامية تميز المسلم بشعوره وتصوره ومنهجه وطريقة عمله، ونحن اليوم في جاهلية تحيط بنا من تصورات الناس، وعقائدهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وشرائعهم وقوانينهم، لذلك لا يستقيم بناء الشخصية الإسلامية إلا أن نتجرد من مؤثرات الجاهلية، وأن نتميز عنهم في تصوراتنا وقيمنا وأخلاقنا ومناهجنا في الحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة.
ومن الأمور الأساسية في بناء الشخصية الإسلامية هو أن نقرأ هذا القرآن للتلقي والتنفيذ كما يتلقى الجندي في الميدان الأمر اليومي، فيجب الإذعان لأحكام الله تعالى في صغير الأمور وكبيرها: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [النور:51]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:24].
وعلى هذا درج الجيل الأول من الصحابة -رضي الله عنهم-، فقد تلقوا الأوامر للتنفيذ والأحكام للعمل لا للثقافة والاطلاع، والتذوق والمتاع، فما أمروا بشيء إلا استجابوا، ولا نهوا عن شيء إلا اجتنبوا، وما دعوا إلى أمر إلا استسلموا، أُمروا بالتوحيد فهدَّموا الأصنام، وفرضت عليهم الصلاة فأقاموها، وأمروا بالزكاة فدفعوها، ونهوا عن الخمر فأراقوها، وعن الربا فتركوه، وعن الميسر فمنعوه، لابد لبناء الشخصية أن نرجع إلى مفهوم التلقي للتنفيذ، وأن نقرأ القرآن لنعرف ماذا يريد منا أن نعمل؟! وكيف يريد منا أن تكون أخلاقنا وأوضاعنا ومعاشنا؟! فقد روى الحاكم عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا يقرؤون عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: "فتعلمنا العلم والعمل".
ويحذرنا الله تعالى من انفصام العلم عن العمل فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصَّف:2-3]، (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [البقرة:44].
فإنه لا ينفع علم بلا عمل، ولسان الحال أبلغ من لسان المقال، ورضي الله عن عمر الذي كان إذا نهى الناس عن أمر جمع أهل بيته فيقول لهم: "إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإني أقسم بالله العظيم لا أجد واحدًا منكم أنه فعل ما نهيت الناس عنه أو ترك ما أمرت الناس به إلا نكلت به نكالًا شديدًا".
ومن هنا كان التنكيل بالذي يفارق قولُه عملَه شديدًا عظيمًا يوم القيامة، ومن هنا كانت الفضيحة مخزية أليمة، فقد روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان: ما شأنك؟! أليس كنت تأمرننا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه".
إننا بحاجة إلى الشخصية الإسلامية والنماذج الإسلامية الذين يمثلون الإسلام في عباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم في مساجدهم وأسواقهم، إن قيام هؤلاء وانتصابهم كقدوة عملية لمن لم يعرف الإسلام، فإذا رآهم وجد فيهم الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة، فتتهيأ له أسباب الهداية والصلاح.
وإن وجود هذه النماذج الإسلامية تذكر الغافلين المغرورين الذين يدّعون الإسلام وقد عطلوا أحكامه، وعاشوا باسم الإسلام عالة على الإسلام وشرًا على المسلمين، يقولون بألسنتهم ما ليس في أعمالهم وأحوالهم وأخلاقهم، فإذا وجدت النماذج الإسلامية ظهر عوارهم وبان نفاقهم.
وإن قيام الشخصية الإسلامية يكون حجة على من ادّعى العجز في التطبيق الإسلامي الكامل، فزعم أن لا سبيل في عصر المادية الطاغية إلى العمل بالإسلام، فانساق في تيارها الجارف ملتمسًا لنفسه المعاذير، فإذا وجدت النماذج الإسلامية تلاشى وهمهم، ولم يعيبوا الزمان، وعابوا أنفسهم وانطلقت ألسنتهم تقول:
نعيب زماننا والعيب فينا | وما لزماننا عيب سوانا |
إننا نحتاج إلى الشخصية المسلمة التي تكون في ركض دائم إلى الله، تطلب الاستشهاد في موقف دعوة إلى الله كاستشهاد عروة بن مسعود الثقفي حين خرج يدعو قومه إلى الإسلام وكان فيهم محببًا مطاعًا، لدرجة أنه أحد الاثنين العظماء الذين عناهم المشركون في قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزُّخرف:31]، فلما أشرف عروة على غرفة له فدعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله.
نريد شخصية مسلمة عالية الهمة كعلو همة ربيعة بن كعب الأسلمي وقد قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سلني"، فقال: أسالك مرافقتك في الجنة، وكان غيره يسأله ما يملأ بطنه ويواري جلده.
نريد داعية صادق الوعد كما صدق أنس بن النضر -رضي الله عنه-: روى عنه أنس بن مالك أن أنس بن النضر عمه غاب عن بدر فقال: "غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله: غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين-، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ: الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت -يا رسول الله- ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتل وقد مثّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: "كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه": (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].
نريد الشخصية الإسلامية التي تشعر بالواجب، وتتحمل العذاب في سبيل الله، كالإمام أحمد بن حنبل حين عذب بقصر المأمون فقال له أحد تلامذته: لولا نطقت بما يريدون من خلق القرآن، ودرأت عنك العذاب فقال: اخرج فانظر من المشرفة، فرأى أهل بغداد وقد اجتمعوا ومعهم الدفاتر والأقلام ينتظرون ما يجيب به الإمام ليكتبوه، فقال الإمام: لا والله، كيف أنجو بنفسي وأضل هؤلاء؟!
وتحمّل في سبيل ذلك العذاب حتى قال جلاده: لقد ضربت الإمام أحمد ضربًا لو ضربته لفيل لهددته، ولبعير لنقبته.
إننا نريد شخصية إسلامية عنوانها: شجاعة يربطها حذر، وطاعة يحدوها وعي، وطاقة يصرفها تخطيط، ورغبة تغربلها تجربة.
إننا نريد رجل القضية الإسلامية، سماته: إيمان يعمقه تفكر، وعبادة يصحبها عمل، وألم يبعثه واقع المسلمين، وأمل يفتحه رجاء رحمة الله، وثقة يغذيها قوله تعالى: (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة:21].
نريده أسيرًا في يد الشريعة وديدنه القرآن، وشربه كوثر الحديث النبوي، وحوض الخبر المصطفوي، فهو يكرع من سلسبيل الإسلام الخالص، ويشرب من عين الإيمان الصرف.
إن سئل عن طريقه قال: الاتباع.
إن سئل عن خرقته: قال: لباس التقوى.
إن سئل عن مقصوده ومطلوبه: يريدون وجه الله.
إن سئل عن قضائه لوقته في الغدو والآصال قال: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ) [النور:36].
إن سئل عن نسبه قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه | إذا افتخروا بقيس أو تميم |
بمثل هؤلاء يكون الإسلام، وعلى أوتارهم نسمع اللحن الجميل: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ) [الصَّف:13].
فيا لله ما أعنف زئيرهم في النهار، وما أحلى مزاميرهم التي استعاروها من آل داود بالأسحار حين يحقق لهم الجبار نشيدهم الهدار: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ) [ص:11].
فتدبروا -أيها الناس- صفات هؤلاء الرجال، فإنها صفات لا يعمل بمقتضاها إلا أهل الهمم العالية، والنفوس الزكية، وأنتم منهم إن شاء الله.