الرزاق
كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
أيها المسلمون: إذا كان الوقت بهذه الأهمية، وإذا لم يستغله الإنسان في الخير خسره خسارة لا تعوّض، فإنه يجب على الإنسان أن يحافظ عليه أكثر مما يحافظ على الذهب والفضة، فلا يصرف منه شيئاً إلاّ فيما يفيده، وإذا كان الذي يبذر ماله ويضيّعه فيما لا يفيد يعتبر سفيهاً يحجر عليه، فإن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، جعل الدنيا مزرعة للآخرة، ووفق مَن شاء لاغتنام أوقاتها قبل فواتها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المعتال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: "بادروا بالأعمال" صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، وسلّم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واستغلوا أوقات حياتكم فيما ينفعكم في الدار الآخرة: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88 - 89].
واعلموا أن الوقت ثمين، وأن كل لحظة تمر في غير عمل صالح فستخسرونها وتتحسرون على فواتها، قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر) [العصر: 1 - 3].
قال ابن كثير: "العصر" الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم من خير وشر: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) أي: أن كل إنسان في المتاجر والمساعي وصرف الأعمار في أعمال الدنيا لفي نقص وضلال عن الحق حتى يموت: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فإنهم في ربح لا في خُسرْ؛ لأنهم عملوا للآخرة ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنهم.
فتأمل -أيّها المسلم- مع أيّ الصنفين أنت، مع الخاسرين أو الرابحين؟
إن هذه الأوقات التي تمر بك -أيها الإنسان- فرص عظيمة، إذا مضت فلن تعود إليك، وإنما تُحسب من عمرك ويُكتب لك أو عليك حسبما عملته فيها، فبادر باغتنامها قبل فواتها.
والله -سبحانه- قد جعل الليل والنهار وقتاً للعبادة؛ كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان: 62].
فرض فيها الصلوات الخمس في أوقات محددة من اليوم والليلة؛ كما قال تعالى: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء: 78].
وشرع صلوات النوافل فيما بين ذلك من غير الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وشرع ذكر الله بالتهليل والتسبيح، والتكبير والتحميد في جميع الساعات، وخصّ أدبار الصلوات والصباح والمساء بفضيلة الذكر فيها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الأحزاب: 41 - 42].
وقال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر الله على كل أحيانه، وإذا نظرنا إلى عبادة الصيام وجدنا أن الله قد فرض صيام شهر من السنة.
وشرع صياماً تطوّعاً أسبوعياً وهو صوم الاثنين والخميس، وصوماً شهريّاً وهو ثلاثة أيام من كلّ شهر، وخصّص بالصيام أياماً من بعض الأشهر كعشر ذي الحجة، وستة أيام من شوّال لمن صام شهر رمضان، وغالب شهر شعبان، وكل شهر الله المحرم.
ومَن كان عنده قوة وأراد الزيادة، صام يوماً وأفطر يوماً على الدوام، ما عدا الأيام التي يحرم صومها.
وأما العبادة الماليّة الواجبة والمستحبة، فنجد أن الله أثنى على الذين ينفقون من عموم الأموال في جميع الأوقات بحسب الحاجات، قال تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 274].
وفرض الزكاة من أموال خاصة.
وفرض الحج مرة واحدة في العمر على المستطيع، وما زاد على ذلك فهو سنّة، وقد حثّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على المتابعة بين الحج والعمرة.
ومن هذا العرض السريع ندرك أن عمر الإنسان كله مستغرق بالأعمال الصالحة، وحتى الفترات التي يرتاح فيها الإنسان للنوم والأكل والشرب ومعاشرة الأهل، ومؤانسة إخوانه إذا نوى بها التقوى على العبادة صارت عبادة يؤجر عليها، عن أبي ذر -رضي الله عنه- في حديث طويل، قال: قلت: يا رسول الله، ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت حكماً كلها: يا أيّها الملك المسلط المبتلى المغرور؛ إنيّ لم أبعثْك لتجمعَ الدنيا بعضَها على بعض، ولكني بعثتك لتردَّ عني دعوةَ المظلوم، فإني لا أردّها ولو كانت من كافر.
وكان فيها أمثال.
وعلى العاقل: أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب.
وعلى العاقل: أن لا يكون ظاعناً إلا لثلاث: تزوُّدٍ لمعاد، أو مَرَمّةٍ لمعاش، أو لذّة في غير محرم.
وعلى العاقل: أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومَن حسب كلامه من عمله قلّ كلامُه إلا فيما يعنيه، قال قلت: يا رسول الله؛ فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عِبراً كلها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجبتُ لمن أيقن بالقدَر ثم هو ينصب، وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلّبها بأهلها ثم يطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم هو لا يعمل.
قال: قلت: يا رسول الله، فهل في أيدينا شيء مما كان في أيدي إبراهيم وموسى، وما أنزل الله عليك؟ قال: نعم، اقرأ يا أبا ذر: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) [الأعلى: 14 - 19].
أيها المسلمون: إذا كان الوقت بهذه الأهمية، وإذا لم يستغله الإنسان في الخير خسره خسارة لا تعوّض، فإنه يجب على الإنسان أن يحافظ عليه أكثر مما يحافظ على الذهب والفضة، فلا يصرف منه شيئاً إلاّ فيما يفيده، وإذا كان الذي يبذر ماله ويضيّعه فيما لا يفيد يعتبر سفيهاً يحجر عليه، فإن الذي يضيّع وقته أعظم سفهاً، قال تعالى في المنافقين: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 13].
وقال تعالى: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة: 130].
لقد ضيّعنا الكثير من أوقاتنا في غير فائدة، أو فيما يضرنا، ونبخل بالوقت عن فعل الطاعات، فالكثير إذا دخل المسجد، فكأنه في سجن حتى يخرج منه، وإذا دخل في الصلاة فكأنه في وثاق يحاول الانفكاك منه، تجده يتململ ويسابق الإمام، وإن صلّى وحده نقر الصلاة كما ينقر الغراب الدم، والبعض لا يأتي إلى المسجد للصلوات الخمس ويوم الجمعة إلا بعد الإقامة أو بعد ما يفوت معظم الصلاة، يخشى أن يضيّع شيئاً من وقته في المسجد أو في سماع خطبة أو موعظة، بينما لا يبخل بالوقت الطويل في مشاهدة التلفاز والفيديو، لا يبخل بالوقت الطويل في مجالس القيل والقال، والغيبة والنميمة، لا يبخل بالوقت الطويل في مشاهدة المباريات والألعاب الرياضية، لا يبخل بالوقت الطويل في طلب الدنيا، وجمع الحطام، أو الكسب الحرام؛ يأتي إلى سوق البيع والشراء مع أول الناس ولا ينصرف منه إلا آخر الناس.
مع ما يقاسي من الحرّ أو البرد، وبُعد المسافة.
لكن هذا كله هيّن ما دام في تحقيق رغبات النفس، والوقت القصير صعب عليه إذا كان في طاعة الله، لقد بكى بعض الصالحين عند الموت فقيل له: ما يُبكيك؟ قالُ: أبكي على ليلة ما قمتها وعلى يوم ما صمته.
فاتقوا الله -عباد الله- واستدركوا أعماركم قبل فواتها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون: 9 - 11].
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أمر باغتنام الأوقات، قبل الفوات، فقال: (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) [البقرة 148].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته والأسماء والصفات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كانت كل أوقاته طاعات، صلَّى الله عليه وعلى آل وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- واعلموا أنكم ستُسألون عن أوقاتكم بماذا قضيتموها؛ ففي الحديث: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يُسأل عن أربع: عن جسمه: فيمَ أبلاه؟ وعن عمره: فيمَ أفناه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟ وعن علمه: ما عَمِلَ به؟".
فماذا سيكون الجواب؟
إن كثيراً من الناس اليوم قد تلاعب بوقته، وضيّعه في الشهوات والغفَلاتِ، وإضاعةِ الصلاة، يسهرون معظم الليل لمشاهدة التلفاز والفيديو، أو اللعب بالورق الذي قد يكون مصحوباً بالميسر، أو للمرح والمزاح والغفلة عن ذكر الله، ثم إذا جاء وقت السحر والنزول الإلهي، وقَرُبَ وقت صلاة الفجر، ناموا بعد سهرهم الآثم، وختموه بترك صلاة الفجر.
ولا يزال هذا صنيعهم صيفاً وشتاءً: (لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة: 126].
أين هؤلاء من الذين، قال الله -تعالى- فيهم: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [السجدة: 16].
ومن الذين قال الله فيهم: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17 - 18].
هل عند هؤلاء الذين تلاعبوا بأوقاتهم وضيَّعوا ما أوجب الله عليهم، هل عندهم أمان من النار؟ أو عندهم جَلَدَ وصبر على حرِّها وعذابها، حيث لا يخافون منها؟
إن هؤلاء قد خالفوا الحكمة الإلهية في خلق الليل والنهار؛ لأن الله جعل الليل سكناً ووقتاً للنوم والراحة، وجعل النهار معاشاً ووقتاً لليقظة والحركة، وهؤلاء جعلوا الليل وقتاً للسهر والضجيج والعبث، حتى صار النساء والأطفال مثلهم لا ينامون إلا في آخر الليل.
وفي الوقت الذي يُطلب منهم فيه اليقظة والذكر والصلاة، وهم يسمعون المنادي ينادي: "حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، الصلاة خير من النوم" لكن كأنه يصيح في مقابر، ولسان حالهم يقول: لا، النوم خير من الصلاة.
وغالب البيوت في وقت الفجر لا تسمع فيها ذكر الله، ولا ترى مَن يخرج لأداء الصلاة، فأيّ أُناس هؤلاء؟ هل هم من الذين لا يؤمنون بيوم الحساب؟ هل هم من الذين قالوا سمعنا وعصينا؟ هل نسوا سرعة الزوال وحضور الآجال، وقول المفرط عند الاحتضار: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون: 99 - 100].
فاتقوا الله -عباد الله- وتوبوا إلى الله قبل أن يُحال بينكم وبين التوبة، فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ) [النساء: 18].
فما أعظم الحسرة حينذاك: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ) [الزمر: 56].