الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
من غلب على عقله تعظيم الله -عز وجل-، خضع لهيبته، ورضي بقسمته، ولا يرضى بدونه عِوضًا، ولا يُنازع له اختيارًا، ويبذل في رضاه كلَّ مستطاع؛ لأنَّ من أدرك عظمة ربِّه، صغرت عنده الدنيا بما فيها، فإذا أهمَّه أمرٌ قال: يا عظيم. فما أسفه من عصاه وما أجهل من لا يخشاه! وما أضل من أشرك معه غيره...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العظيم القهار، القوي القدير الجبار فرض الفرائض، وحدَّ الحدود، وربك يخلق ما يشاء ويختار، أمر بتعظيم شعائره، وجعل ذلك من تقوى القلوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المطلع على الظواهر والبواطن، وهو علام الغيوب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى، وخليله المجتبى, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليمًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وعظّموه حق تعظيمه، واثنوا عليه بما هو أهله، واعتبروا بمن مضى قبلكم, واعلموا أن الله -جل وعلا- هو العظيم الذي لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء، ولا يمتنع عليه شيء، القائم على كل نفس بما كسبت، سبحانه لا يُطاع إلا بعلمه، ولا يُعصى إلا بإذنه، ولا يمكن أن يعصى كرهًا، أو يُخالَف أمره قهرًا، المحيط بكل شيء، العليم بكل شيء، القادر على كل شيء، الذي جاوز قدره وعظمته حدود العقول والتصورات.
يا عباد الله:اختص الله تعالى بالعظمة كلها، وله من ذلك الكمال أكمله، ومن الجمال أحسنه، ومن الجلال أعظمه وأوسعه، فله العلم المحيط، والقدرة النافذة، والكبرياء، والعظمة، والذي من عظمته أن وسع كرسيه السماوات والأرض وما فيهن، قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر: 67]، وقال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [فاطر: 41].
فلا يستحق أي أحد مهما كان أن يُنَزَّل من التعظيم كما يُنَزَّل العظيم -سبحانه-، فيستحق -جل جلاله- من عباده أن يعظّموه بقلوبهم؛ خوفًا ومحبةً وإجلالاً، ويعظموه بألسنتهم؛ ذكرًا وثناء، ويعظموه بجوارحهم؛ طاعةً وقربًا، ببذل الجهد في معرفته، والذل له والانكسار، والخضوع لكبريائه، والخوف منه، وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته.
وتيقنوا -إخوتاه- أن الله تعالى عظيم، له كل وصف ومعنى يوجب التعظيم، ولهذا لا يقدر مخلوق مهما بلغ في القرب والطاعة أن يثني على الرب -سبحانه- أو يفيه قدره أو حقه كما ينبغي له، مهما بالغ في الثناء والمدح؛ إذ لا يحصي ثناء عليه إلا نفسه -سبحانه-، فهو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده.
وهو -سبحانه- العظيم القدير الذي لا يعجزه شيء، خلق السماء والأرض، وخلق الجن والإنس جميعًا، وسيبعثهم جميعًا، وكل ذلك كخلق نفس واحدة وبعثها، وعنده كل ذلك سواء، قال -سبحانه-: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [لقمان: 28].
وثقوا -إخواني- أن العظيم -سبحانه- هو الإله الحق الذي يجب أن تُصرف جميع أنواع العبادة والطاعة له وحده لا شريك له؛ وذلك لكمال صفاته، وعظيم شأنه وقدره، سبحانه الحي القيوم المالك لكل شيء، الخالق لكل شيء، الرازق لكل مخلوق، الذي يعلم الظواهر والبواطن، والغيب والشهادة، فهو العظيم الملك الحق المبين.
عباد الله: أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه العظيم، قال تعالى: (وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة: 255]، وقد ذكر هنا العظيم وقبله العليّ، بعد أن ذكرت الآية الكريمة آية الكرسي قدرة الله المطلقة، والتي من مظاهرها حفظ السموات والأرض، وأنه لا يعجزه -سبحانه- هذا الحفظ أدنى عجز، وإن إثبات كمال القدرة لله تعالى هي من باب إثبات أسمائه -جل وعلا- وصفاته، وهو قسم من أقسام توحيد الله -عز وجل-. وقال -جل وعلا-: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [الشورى: 4]، وقال الله -سبحانه-: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الحاقة: 52].
وقد وصف نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- ربه، وهو أعرف الخلق به، وأثنى عليه بأجل أوصاف الكمال والجلال، ومن تلك النعوت والأسماء الحسنى اسم الله العظيم، فعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "من قَالَ: سُبْحَانَ الله الْعَظِيم وَبِحَمْدِهِ غُرست لَهُ بهَا نَخْلَة فِي الْجنَّة" [الترمذي (3465) وصححه الألباني]. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ: "لا إِلَهَ إِلا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" [البخاري (6346)].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: "... أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ" [مسلم(479)] وقوله: "فعظّموا فيه الرب" أي اجعلوه في أنفسكم ذا عظمة، وليس مجرد التلفظ بالتسبيح بهذا الاسم. وقوله: "قَمِنٌ": أي جدير. وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً، فَلَمَّا رَكَعَ مَكَثَ قَدْرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: "سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ" [النسائي (1049) وصححه الألباني].
وختم الإمام البخاري -رحمه الله- كتابه الرائع بهذا الحديث الجليل، وفيه ذكر ربنا العظيم -سبحانه-، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ" [البخاري 6406].
أيها المسلمون: والعظيم لغة هو من حاز منتهى العظمة؛ والعزّ، والمجد والكبرياء، والشيءُ العظيم أي القوي والضخم، والعزيز والماجد. والعظيم -سبحانه- هو الجامع لكل صفات العظمة والكبرياء، والمجد والبهاء، الذي تعظمه القلوب، وتحبه الأرواح، فهو صاحب العظمة الكاملة والمطلقة، في ذاته وأفعاله، والعظيم في أسمائه وصفاته، والعظيم في ملكه وسلطانه، العظيم في خلقه وحكمه، والعظيم في أمره ونهيه، العظيم في أقدراه وحكمته، والمؤمنون يدركون أن عظمة كل شيء، وإن جلّت في الصفة، فهي مضمحلة أمام عظمة العلي العظيم.
والعظيم -سبحانه- هو العظيم الذي لا أعظم منه، العلي بذاته فوق عرشه، العلي بقهره لجميع المخلوقات، العلي بقدره لكمال صفاته، العظيم الذي قهر جبروت الجبابرة، وصغرت في جانب عظمته وجلاله أنوف الملوك القاهرة، العظيم هو (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة: 255].
أيها المؤمنون: اعلموا أن لتعظيم الله -سبحانه- صورًا ومظاهر، فعلى عباده أن يعظّموه من خلالها، فمن تعظيم الله -سبحانه-، أن يُوصَف بما يليق به من أوصاف الجمال ونعوت الكمال التي وصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه، والإيمان بها، وإثباتها له، دون تشبيهها بخلقه، ولا تعطيلها عما تضمنت من معاني عظيمة، فمن شَبَّه ومثَّل، أو عطَّل وأوَّلَ، فما عَظَّمَ الله حق تعظيمه.
ومن تعظيم الله وإجلاله: أن يخضع العبد لِأوامره وما شرعَه وحكَم به، وأن لا يعترض على شيء من أوامره، أو على شيء من شرعه، وأن يقوم بأوامر الله التي أمره بها، والتي من أعظمها: توحيده، وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الأنعام: 102]. ومن أعظم ما حرّمه الله الشرك بأنواعه والفواحش، والإثم والبغي بغير الحق، والقول على الله بلا علم، قال -سبحانه-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33].
ومن صور تعظيم الله -سبحانه-: تعظيم كتابه الكريم، فكتابه أعظم الكتب، وهو العظيم الذي تكلم بأعظم الكلام، ومن تعظيمه أن يُصدق كتابه؛ لأنه كلامه، وأن يُحَكَّم في الأرض؛ لأنه شرعه الذي ارتضاه للناس أجمعين، فمن لم يفعل ذلك فما عظّم الله حق تعظيمه. ومن عظمة الله -سبحانه- أن كلامه لا يفنى، فلو كانت جميع أشجار الأرض أقلامًا، وجميع البحار مدادًا، لفنيت البحار والأقلام، وكلمات الرب لا تفنى ولا تنفد، قال -عز وجل-: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان: 27].
ومن تعظيم الله -سبحانه- أن يُعظّم أحبّ خلقه إليه رسوله -عليه الصلاة والسلام-، ويُوقَّر نبيه، قال تعالى: ( لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [الفتح: 9]، ومعنى تعزروه: أي تعظّموه، ويدخل في ذلك أصحابه وخلفاؤه من بعده، وأتباعه الذين ساروا على هديه وسنته، من علماء المسلمين وأئمتهم، وتوقيرهم وحبهم والدفاع عنهم، وتأمل معي هذا الحديث, فعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ، وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ" [أبو داود 4843 وحسنه الألباني].
ومن تعظيمه -جل وعلا-: تعظيم ما عظَّم واحترامه، من أزمنة، وأمكنة، وأشخاص، وأعمال، ولو وقفنا قليلاً في السر العظيم في مشروعية العبادات لوجدنا أن روحها وغايتها تعظيم الباري وتكبيره، ولهذا شُرعت التكبيرات في الصلاة، في افتتاحها، وتنقلاتها، ليستحضر العبد معنى تعظيمه في هذه العبادة، التي هي أجلُّ العبادات.
ومن التعظيم لله -تبارك وتعالى-: تعظيم شعائر دينه، كالصلاة والصيام، والزكاة والحج ونحوها: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]. ولهذا كانت العبادات بما فيها الصلاة بكل أذكارها وتنقلاتها مظهرًا من مظاهر تعظيم الرب -سبحانه-، فعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً، فَلَمَّا رَكَعَ مَكَثَ قَدْرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: "سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ" [النسائي (1049) وصححه الألباني]. وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول إذا ركع: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ" ثلاث مرات، وإذا سجد قال: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى" ثلاث مرات. [مسلم (772)]
وعَنْ جُوَيْرِيَةَ -رضي الله عنها-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: "مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟" قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ" [مسلم (2726)].
ومن تعظيمه -سبحانه-: اجتناب نواهيه ومحارمه التي حرمها في كتابه، أو حرّمها رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 30].
اللهم اجعلنا ممن يعظّمونك، ويعظّمون شرعك ودينك، بارَك الله لي ولَكم في القُرآنِ العظيم، ونَفَعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم لي ولَكم، فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العظيم السلطان، الكريم المنان، أحمده -سبحانه- وأشكره على سوابغ الإنعام. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، صاحب الإحسان، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله المصطفى المختار، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فإن تقواه جُنَّة من عذابه، وهي الموصلة إلى مغفرته ومرضاته. وآمنوا بعظمته -سبحانه-.
واعلموا أن العبد المسلم إذا آمن بعظمة ربه فإن للإيمان بهذا الاسم الكريم آثارًا إيمانية عديدة، منها: أن على من عرف عظمة الله أن يقدّره حق قدره، وأن يُنزله منزلته اللائقة به، فلا يتكلم إلا بما يرضي الله، ولا يعمل عملاً يخالف مراد الله، وعليه أن يعظّم ربه حق تعظيمه؛ بوصفه بما يليق به من صفات الكمال والجلال والجمال، ويُكثر من ذكره في كل وقت وحين، وأن يستفتح باسمه جميع الأمور، ويتوكل عليه على مر الدهور، والإكثار من حمده والثناء عليه، وغيرها مما شرع ويحب؛ لينال من فضل الله الواسع، ويدرك من نعيمه الدائم.
واعلموا -إخواني- أنه ينبغي لمن آمن بعظمة الملك الحق أن يتعبد لله بهذا الاسم العظيم، وذلك أن يتعبَّد لله تعالى بمقتضى أسمائه الحسنى، وذلك بتعظيمه -جل وعلا- بالقلب خوفًا ووجلاً، ورهبةً ورغبة، وذلاً وانكسارًا، وباللسان ذكرًا ومدحًا وثناء، وبالجوارح انقيادًا وبذلاً وجهدًا، وسعيًا وتفانيًا في سبيل مرضاته، فمن غلب على عقله تعظيم الله، خضع لهيبته، وصغرت الأشياء أمامه.
وثقوا أن الإيمان بالعظيم -سبحانه- يدفع العبد للتواضع، فإن العبد المؤمن متى أيقن بعظمة الله تلاشت ذاته، فتجد المؤمن متواضعًا؛ لأنَّه تجلت في قلبه ووضحت في عينيه عظمة الله، ولا يقول عندها يومًا: أنا، فأناه قد ذابت واضمحلت، لسان حاله: يا رب أنت العالم، ونحن الجهلاء، إلهي أنت القويّ ونحن الضعفاء، ربي أنت الغنيّ ونحن الفقراء، لا حول ولنا ولا قوة إلا بك، وهذا من أعظم وأوَّل أدبٍ يتأدَّبُ به المؤمن مع اسم الله العظيم، إنَّ الكبر والاستعلاء والغطرسة والاعتداد بالنفس يجب أن يزول، وحينما يتلاشى الكبر والاستعلاءُ والغطرسة والاعتداد بالنفس، يزيده الله عزًّا.
وعند زوال تلك الأمراض وتلاشي تلك الآفات من قلبك وجوارحك تسلم من عقاب الله تعالى فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ -عز وجل-: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ" [أبو داود 4090 وصححه الألباني]. فلله تعالى الكبرياء والعظمة -سبحانه-.
وإن من تعظيم الله أن يُتقى حق تقاته فيُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، فإن من عرف عظمة الله وكبرياءه لم يفتر في عبودية سيده قربًا وتعظيمًا وإجلالاً وتسبيحًا، وملائكة الرحمن هم أصحاب السبق؛ وذلك لما أدركوا ذلك من عظمة الله ما خفي على غيرهم أقروا بعظمة ربهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عن النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ، قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ.."[البخاري(4701)]، وكذلك أنبياؤه ورسله والمتقون من أوليائه الصالحين يعظمون أمر الله وقدره.
ولك أن تسأل هل هناك في الأرض إنسان أعزَّ الله سلطانه، ورفع الإله ذكره، وأعلى مقامه كسيد البشر محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ لا أعتقد. اذهب إلى المدينة النبوية المنوَّرة في أيّ وقت، فهل من المعقول أن ترى جامعًا يتّسع لعدة ملايين إنسان، جاءوا من أقطار الدنيا، من باكستان وأمريكا والفلبّين، ومن أستراليا من الصين من الهند وغيرها، من العرب والعجم، جاؤوا ليزوروا هذا الإنسان، فمَنْ هذا الإنسان وماذا أعطاهم؟ يقفون أمامه مؤمنين به، مسلِّمين عليه، شاكرين جهده في تبليغ الدعوة، نحن لا نعتقد أنَّ في الأرض كلِّها إنسانًا رفع الله ذكره، وأعلى مقامه، وأعزَّه كرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي الوقت نفسه لا نعتقد أنَّ إنسانًا افتقر إلى الله، وتذلل له، وتلاشى أمامه كرسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ولما كان النبيُّ الكريم -عليه الصلاة والسلام أكثر خلق الله تواضعًا وافتقارًا وانكسارًا، شكر الله له ذلك، فجعل اسمه مع اسمه تعالى يُذْكَرُ، فكلّما ذُكرَ الله في الأذان وغيره: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمّدًا رسول الله، خمس مرات على مدار عقارب الساعة في الكون الرحيب.
إذن فكلَّما ازددتَّ افتقارًا إلى الله، أعزَّك، وكلَّما ازددتَّ افتقارًا وتذللاً وتواضعًا، رفع الله لك ذكرك، لذا إن رأيت أنَّ الله عظيم، ينبغي أن تُعظِّم أمره، وينبغي أن تتلاشى أمامه؛ فأنت صغير ضعيف. كما أن الله قد مَنَّ بصفة العظمة على بعض أوليائه وأحبابه بمنّه وفضله، فمُلئت نفوس الناس نحوهم هيبةً وامتثالاً، وإذا ألبس الله عبدًا لباس العز والهيبة والعظمة، فعليه أن يشكر من وهبه ذلك، ويعمل بمقتضى الحق الذي أوجبه الله عليه، فلا يبغي ولا يظلم ولا يستبد؛ لأن هذا الرداء الذي ارتداه، عارية مُسْتَرَدَّة، قد تُسلب منه إذا لم يرع حقها، أو لم يقم بواجب الانكسار نحو موهبها، وصاحب هذه النعمة إذا بَغى وظلم واستبد ولم يرع حق ذلك اللباس من العز والهيبة والعظمة، فإنه مُتَوَعَّد بعذاب الله الأليم.
يا عباد الله: إن العلماء حين يتحدثون عن أدب المؤمن مع الله العظيم، يذكرون أنَّ من غلب على عقله تعظيم الله -عز وجل-، خضع لهيبته، ورضي بقسمته، ولا يرضى بدونه عِوضًا، ولا يُنازع له اختيارًا، ويبذل في رضاه كلَّ مستطاع؛ لأنَّ من أدرك عظمة ربِّه، صغرت عنده الدنيا بما فيها، فإذا أهمَّه أمرٌ قال: يا عظيم. فما أسفه من عصاه وما أجهل من لا يخشاه! وما أضل من أشرك معه غيره! قال العظيم -سبحانه-: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ -سبحانه- وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67].
وهو -سبحانه- العظيم الذي خلق الخلائق كلها، ودبَّر الأوامر كلها: (وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 54]، وإليه يُرجع الأمر كله -سبحانه- وتعالى. عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ، وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ" [البخاري (4812) ومسلم(2787)]، فسبحانه من إله ما أعظمه!!.
أيها المسلمون: لا ينبغي للعبد الموفق أن يغفل عن سؤال ربه ودعائه باسمه تعالى العظيم فهذا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يقول عند الكرب: "لا إِلَهَ إِلا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" [البخاري(6346)]. وعلى العبد أن يصرف جميع أنواع العبادة والطاعة للعظيم وحده لا شريك له؛ وذلك لكمال صفاته، وعظيم شأنه وقدره، الحي القيوم المالك لكل شيء، الخالق لكل شيء، الرازق لكل مخلوق، الذي يعلم الظواهر والبواطن، والغيب والشهادة.
أيها المؤمنون: اعلموا علم اليقين أنه ليس من رأى كمن سمع, فكل من شاهد موقعًا فريدًا، أو مكانة مرموقة، أو موقفًا مشرفًا، قد ينبهر بما يراه، وقد يسمع الإنسان شيئًا مثيرًا أو غريبًا فيراه حدثًا عجيبًا، وإن من أعجب العجب أن كل من يتحدث عن عظمة الله تعالى أو يسمع عنها لا يكون أبدًا كمن رأى عظمة وجبروت رب العالمين، وهذا ما يلفت إليه الأنظار رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حيث صرّح أن الله أذن له أن يتحدث عن شيء عجيب من آثار عظمة رب العالمين وهو ديك عجيب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ -جَلَّ ذِكْرُهُ- أَذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ دِيكٍ، قَدْ مَرَقَتْ رِجْلَاهُ الْأَرْضَ، وعُنُقُهُ مُنْثَنِي تَحْتَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَكَ رَبَّنَا!! فَرَدَّ عَلَيْهِ: مَا يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ حَلَفَ بِي كَاذِبًا" [الحاكم 7813 وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1839)]. فهذا ديك من عجائب صنع الخالق العظيم، يسبح باسم الله العظيم؛ لما يشاهد من آثار عظمته، فليس من رأى وشاهد شيئًا من آثار العظمة العلية كمن سمع فقط.
فأحبوا -أيها المسلمون- ربكم العظيم، وعظموه حق تعظيمه، واقدروه قدره، واتبعوا شرعه، وارضوا بحكمه.
اللهم ارزقنا التعظيم لك، والثقة بك، والتوكل عليك، والرضا بك، والطمأنينة بك، والأنس بذكرك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت على الحق أقدامنا، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، اللهم ارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، آمين.. آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.