المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ومن ضوابط المزاح أن يحقق المسلم التوازن في هذا الأمر، حتى لا يغلب عليه المرح، وتكون حياته كلها تفاهة ولعب وضحك، ويتصور الناس عنه أنه مجرد درويش لا يصلح إلا للضحك والدعابة، ولذلك لا يقدرون له موقفاً حتى في مواقفه الجادة والحرجة وأيامه العصيبة...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مضل له، ومَن يضللْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.
أما بعد:
أيها الناس: نريد اليوم الحديث عن موضوع كلنا واقعون فيه بلا استثناء، إلا أن منا المكثر منه ومنا المقل، ومنا المتوسط، ومنا من يعتقد أنه جائز بلا استثناء، ومنا من يرى أنه لا ينبغي دائماً وأبداً، إنه موضوع الترويح عن النفس، وماهي شروطه وحدوده وضوابطه؟
عباد الله: إن الترويح عن النفس من الأمور المطلوبة في حياة كل إنسان، ويحتاج إليه كل شخص، فضلاً عن الإنسان المسلم الذي طلب منه إسلامه أن يكون دائماً بشوشاً طليق الوجه.
والناس في ذلك أصناف: هناك صنف من الناس يُفرطون كثيراً في الترويح عن النفس، ويتعللون لذلك بعلل شتى، ولهذا فإن حياتهم يغلب عليها جانب المرح والانبساط والتنفيس عن النفس، ويقل عندهم جانب الجد والعزم.
بينما غيرهم يعارض الترويح عن النفس من أساسه، وينكره بكل قوة، ولا يمازح أحداً إلا ما ندر، ويعتقد أن الترويح عن النفس أمر لا فائدة فيه، وأنه مضيعة للوقت ومفسدة للعمر.
والحقيقة أن الترويح عن النفس في الإسلام ضرورة بشرية يلتجئ إليها الإنسان؛ ليحقق التوازن المطلوب في حياته، ولهذا يعرفون الترويح عن النفس بأنه: الأنشطة غير الضارة التي يمكن أن يقوم بها الفرد أو الجماعة طوعاً في أوقات الفراغ؛ بغرض تحقيق التوازن، أو الاسترخاء للنفس الإنسانية، في ضوء القيم والمبادئ الإسلامية.
إن الترويح -بلا شك- جائز شرعاً وعرفاً وعقلاً، ودلت النصوص الشرعية المتوافرة على جوازه بحدوده وضوابطه، ولا ينكر جوازه أو يعارض إباحته إلا شاذ مخالف لظاهر الأدلة الواضحة الصحيحة الصريحة.
روى مسلم في صحيحه عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: "لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- "وَمَا ذَاكَ؟" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" [مسلم:2750]. ويقول -صلى الله عليه وسلم- "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ" [البخاري:1968].
هذا من الناحية النظرية، أما من الناحية التطبيقية فقد مارس النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه الترويح عن النفس، ووردت عنه -عليه الصلاة والسلام- أحاديث شتى تحمل معاني التسلية والمرح مع الآخرين.
روى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ "يَا ذَا الأُذُنَيْنِ" يَعْنِى مَازَحَهُ [الترمذي (2123)]. وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلِ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: "تَقَدَّمُوا" فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ لِي: "تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ" فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ، فَسَكَتَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ، خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: "تَقَدَّمُوا" فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: "تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ" فَسَابَقْتُهُ، فَسَبَقَنِي، فَجَعَلَ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: "هَذِهِ بِتِلْكَ" [أحمد:26277].
هذا هو رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وهذه هي شيمه وأخلاقه ودعابته ومرحه -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أيها المسلمون: عرفنا معنى المزاح، وحكمه، ومنهج النبي -صلى الله عليه وسلم- تجاهه، وبقي أن نعرف أمراً مهماً فيه، وأحكاماً خاصة به، ومن أهمها وأعظمها:
أن المسلم يجب عليه عندما يمزح أن ينضبط في مزاحه بالضوابط الإسلامية، بحيث لا يتطرق مزاحه إلى المساس بأمور الدين، أو السخرية من أحكام الشريعة وشرائعها؛ لأن هذا يعد كفراً وليس مزحاً. وتعرفون جميعاً قول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [التوبة:65-66].
هذه الآية نزلت في غزوة تبوك في قوم من المنافقين قالوا مستهترين بالصحابة ومستهزئين بهم: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا وأكذب ألسنا وأجبن عند اللقاء". ولما بلغهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد علم بكلامهم جاؤوا يعتذرون إليه، ويقولون: (إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) أي نتكلم بكلام لا قصد لنا به، ولم نقصد الطعن والعيب والاستهزاء.
فأنزل الله في ذلك: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ). فبيّن لهم أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر مخرج عن الدين؛ لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسله، والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة.
كذلك أن لا يكون في النشاط الترويحي أذية للآخرين من سخرية، أو لمز، ونبز، أو ترويع، أو غيبة، أو اعتداء على ممتلكاتهم بإتلاف أو استخدام .. ونحو ذلك. يقول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات:11].
ومن ضوابط المزاح أن يراعي الإنسان خصائص من يمازحه: فبعض الناس إذا مزح كان مزحه ثقيلاً, وربما كان مزحه مع كل الناس بدرجة واحدة, وقد يعرضه ذلك للإحراجات مع الآخرين، وأخذهم نظرة عنه غير سليمة. فلا تمازح الصغير كمزحك للكبير، ولا تمازح من لا تعرفه كمزحك لمن تعرفه، ولا تمزح مع الإنسان ذي الهيبة كمزحك مع غيره؛ فلكل مخلوق طبائعه وخصائصه.
ومن ضوابط المزاح أن يحقق المسلم التوازن في هذا الأمر، حتى لا يغلب عليه المرح، وتكون حياته كلها تفاهة ولعب وضحك، ويتصور الناس عنه أنه مجرد درويش لا يصلح إلا للضحك والدعابة، ولذلك لا يقدرون له موقفاً حتى في مواقفه الجادة والحرجة وأيامه العصيبة.
ولذلك ينبغي للشخص أن يمزح في وقت الفراغ، والأوقات الخالية عن الأعمال الجادة فقط، أما أن يمزح في غيرها من الأوقات فهذا لا ينبغي، كأوقات الشعائر التعبدية الواجبة، وأوقات العمل، وأوقات القيام بواجبات ومستلزمات الحياة الأخرى؛ كالأكل والنوم، وما توجبه طبيعة الحياة الاجتماعية من آداب مرعية؛ كزيارة الأقارب، وإكرام الضيف، وعيادة المريض ونحو ذلك.
أيها الناس: إن الترويح وسيلة وليس غاية، وإذا تجاوز النشاط الترويحي الحد وأصبح هدفاً وغاية في ذاته فإنه يخرج من دائرة المستحب أو المباح إلى دائرة الكراهية أو الحرمة.
ومن ضوابط الترويح عن النفس أن لا يكون فيه كذب أو افتراء، أو تبذير للمال وإسراف فيه، أو اختلاط بين الرجال والنساء، أو غيرها من المحرمات.
ومن الضوابط أن لا يكون النشاط الترويحي ضارًّا على ممارسه، فإذا كان في النشاط الترويحي ضرر على ممارسه أيًّا كان نوع الضرر ولم يوجد فيه نفع يفوق ذلك الضرر فإنه يحرم على ذلك الممارس مزاولته، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- -: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" [ابن ماجه:2341]. وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ البَهَائِمِ" [الترمذي (1708)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم سلمنا في أمورنا كلها، وارزقنا الجد وقت الجد وسلمنا من مزح السوء، وارزقنا البشاشة واللطف وحسن الخلق.