الواسع
كلمة (الواسع) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَسِعَ يَسَع) والمصدر...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل |
.. وشواهد الواقع تشي به في صعود دول الشرق الآسيوي وعلى رأسها اليابان التي احتفظت بتراثها الوثني، ولغتها العسرة، وأعرافها الشديدة، ورفضت الذوبان في الغرب وحضارته، فأخذت علومه الدنيوية، ولم تتأثر بأفكاره وقيمه، وتجاوزت الغرب في كثير من الصناعات والتقنيات حتى أدهشت العالم في ذلك، وصارت مضرباً للأمثال في الأمة المتقدمة الجادة ..
الحمد لله خالق الخلق، ومالك الملك (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ الله وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص:68]لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وهو على كل شيء قدير؛ نحمده ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تفرد بالكمال والجلال، وتنزه عن النظراء والأمثال (لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [الحشر:24]
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ الخير كل الخير في التزام هديه، وامتثال أمره، واجتناب نهيه؛ فهو رسول الله تعالى إلينا، وقد بلغ الرسالة،وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله تعالى حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستمسكوا بدينكم؛ فإنه الحق من ربكم، وما سواه فضلال وإثم مبين (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزُّخرف:43-44].
أيها الناس: من حكمة الله تعالى في عباده، وابتلائه لهم أن جعلهم عُمَّار الأرض وساكنيها، وأمرهم بإقامة دينه فيها، فكانت عمارتهم فيها دينية ودنيوية؛ فأما العمارة الدينية فمأمورون بها شرعاً (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله) [الأنفال:39] وفي آية أخرى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ) [الحج:41].
وأما العمارة الدنيوية فيقتضيها وجودهم، وتحتمها معايشهم، فليست محل مدح ولا ذم لذاتها، وإنما تكون محل ثناء وثواب شرعاً إن حسن فيها القصد والعمل، كما تكون محل ذم وعقاب إن فسد القصد فيها أو العمل (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:61]أي: عَمَرَها بكم وجعلكم عُمَّارها وقال سبحانه عن السابقين: (وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) [الرُّوم:9]
وذكَّر الله تعالى قريشاً بما يرونه من آثار السابقين، وبقايا عمرانهم التي شاهدوها فقال سبحانه: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الأَرْضِ) [غافر:82] فزروعهم وعمرانهم هو من آثارهم.
ولا تتعارض عمارة الأرض بالدين مع عمارتها بالدنيا إلا حين تفسد النفوس، وتنقلب المفاهيم، وتنتكس الفطر، وتُتَبعُ الشهوات، فيظن بعض الناس أنه لا بدَّ لأجل عمارة الدنيا من تنحية الدين، وأن التقدم مرهون بإقصاء الشريعة، كما جعل الشيوعيون الدين أفيون الشعوب، وكما ادعى الليبراليون أن الشرائع الربانية أغلال تغل عن التقدم والعمران فلا بدَّ من الخلاص منها كما تخلص الغربيون من دينهم إبَّان نهضتهم الدنيوية، وهذا من فرط الجهل وغلبة الهوى؛ إذ لا شرع ولا عقل يثبت زعمهم هذا، بل الشرع والعقل على خلاف ذلك تماماً، وشواهد الواقع تشي به في صعود دول الشرق الآسيوي وعلى رأسها اليابان التي احتفظت بتراثها الوثني، ولغتها العسرة، وأعرافها الشديدة، ورفضت الذوبان في الغرب وحضارته، فأخذت علومه الدنيوية، ولم تتأثر بأفكاره وقيمه، وتجاوزت الغرب في كثير من الصناعات والتقنيات حتى أدهشت العالم في ذلك، وصارت مضرباً للأمثال في الأمة المتقدمة الجادة، ومقصداً للدارسين والباحثين في العلوم الحضارية، والسنن الاجتماعية؛ لاكتشاف أسباب هذا التقدم الدنيوي المبهر.
لقد كانت هذه الأمة الوثنية قبل قرنين ونصف من أفقر الأمم وأذلها وأحقرها، قد ساد الظلم والبغي فيها، وقُسم الناس فيها تقسيماً عنصرياً إلى طبقات بحسب أعراقهم، لا بحسب عقولهم وأعمالهم، وكان أهم سبب انتشلوا به من الفقر والذل والهوان القضاء على هذا التقسيم الظالم، وإلغاء نظام الإقطاع الذي كان في مصلحة الأقوياء، ومنع الامتيازات التي خُصُوا بها، ونشر العدل بين الناس فيما عُرف بحركة الميجي، وهي حركة إصلاحية بدأت بالإصلاح من أعلى الهرم، ونزلت به إلى الأسفل، وحمل همَّ الإصلاح عليةُ القوم قبل سوقتهم، فأنصفوا الناس من أنفسهم، وقضوا على كل نظام ظالم يفرق الناس على أساس أعراقهم، ونشروا التعليم في أمتهم التي خيم الجهل فيها قروناً، فلما ذاق الناس طعم العدل، ورُفع عنهم نير الظلم؛ انبعث في نفوسهم دافعان للبذل العطاء:
أولهما: حب السعي والعمل؛ لأن حقَّ العامل محفوظ، وينال من الجاه والمال بقدر كده وعرقه لا بحسب نسبه ومعرفته، فسرت روح التنافس فيهم فأدت إلى البناء والتقدم.
وثانيهما: حبُّ صُنَّاع العدل، والتضحية لهم، والعمل على إنجاح خططهم في التنمية؛ لأن من ذاق مرارة الظلم ثم وجد عقبها حلاوة العدل بذل ما يستطيع في استمراره لئلا يفقد حلاوته، وقد وصف الكاتب المصري علي الجرجاوي رحمه الله تعالى في رحلته اليابانية التي كتبها قبل قرن من الآن ما رأى من مظاهر العدل، وما سمع عن رائد هذا الإصلاح (ميتسو هيتو) من خطبه التي رسَّخ فيها العدل ورفع الظلم، وكان يخاطب رعيته فيقول: " فأعينوني على تدبير المملكة بالطاعة والعمل على ما يجعل اليابان أرقى الأمم وأسعدها، وإني كفيل برد المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم ".
وكان من أثر هذا الإصلاح شدة تعلقهم بأمتهم ووطنهم، وبلغ من تضحيتهم لأمتهم، وانتمائهم لحكومتهم، وصدقهم في وطنيتهم أن حرباً دهمتهم، وكان نظام التطوع عندهم يمنع وحيد أمه أن يتطوع، فكبر على إحدى الأمهات أن يُحال بين ابنها وبين الدفاع عن الوطن الذي احتواهم، وبُسط فيه العدل بينهم، ووجدوا فيه ذاتيتهم، وعرفوا فيه قدرهم، وكان قعوده بسببها، فانتحرت لتزيل هذا السبب!! هذا؛ ولم تقتصر التضحية على فئة دون أخرى.
لقد بدأ النمو والتقدم فيهم منذ عهد الميجي في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي حتى اكتمل في أواسط القرن العشرين، واستحوذت أمتهم على ما حولها من البلدان، وهزمت أعتى الجيوش الصينية والروسية، إلى أن كانت الحرب الكونية الثانية في أواسط القرن العشرين فدُمرت فيها دولتهم بالقنابل الذرية، وتقهقرت بلادهم إلى الوراء قروناً بسبب هذه الحرب، وقُضي فيها على اقتصادها، وغُلَّت حكومتهم بالمعاهدات والاتفاقيات الجائرة، وحاول المستعمرون فرض التغريب عليها لكنها أمة انحنت لعاصفة الاستكبار الاستعماري، ثم قاومته بعد ذلك سلماً؛ لعلمها أن تغريبها يقود إلى تبعيتها وذلها وهوانها، فعادوا مرة أخرى إلى رأس مالهم الحقيقي وهو الإنسان الذي أشربوه حب أمتهم وحب العمل الجماعي، والتضحية الفردية من أجل الجماعة، وكان هذا التماسك العجيب عندهم هو سبب النهضة بعد الكبوة، وهو الذي أدى التعمير بعد التدمير، فاتجهوا للاقتصاد والبناء، والاستفادة مما عند الآخرين من علوم دون الذوبان في حضاراتهم، وكان شعار المصلحين عندهم: علوم غربية وروح يابانية، وكان شبابهم المبتعث للدول الغربية يواصل ليله بنهاره في الدراسة والبحث للنهوض بأمته التي يفخر بها، واشتهر عن شبابهم أنهم يشتغلون في المصانع الغربية عمالاً وحراساً وحمالين أثناء إقامتهم للدراسة في أوربا؛ ليجمعوا بين العلم النظري مع التطبيق العملي في الوقت الذي كان كثير من شباب المسلمين يتسكعون في الملاهي والمقاهي فترة فراغهم؛ ليكتفوا بشهادات عليا ورقية لا يوازيها فهم للآلة ومعرفة أجزائها وحركتها؛ لأن دافع كثير منهم الحصول على الشهادة، ولو لم يتقن عمل الآلة..
ومن سنة الله تعالى أن العدل تصلح به أحوال الناس في الدنيا، وتزهر معه حضارتهم، ويجد الفرد في ظله ما يدفعه للبذل والعطاء والتضحية، كما أن الظلم الاجتماعي سبب لانكسار النفس، وانحطاط همتها، وتردي أوضاع الناس، وانتشار الأنانية وحب الذات بينهم، وتفشي الأخلاق الرديئة فيهم، وهو ما بتليت به بلاد المسلمين إلا ما رحم الله تعالى.
نسأل الله تعالى أن يعيد لهذه الأمة مجدها، وأن يحفظها من كيد الكائدين، وإفساد المفسدين، إنه سميع مجيب.
وأقول هذا القول وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران:131- 132].
أيها المسلمون: حاولت بعض بلاد المسلمين اللحاق بالدول المتقدمة في العمران، وكانت محاولة بعض هذه الدول في الإصلاح والتقدم أسبق من محاولة الأمة اليابانية الوثنية، ولكنها محاولات باءت بالفشل الذريع؛ لأنها افتقدت أساس النهوض والإصلاح، وهو بسط العدل بين الناس، ورفع الظلم عنهم. وكان من سلبيات هذه المحاولات أنها غربت كثيراً من بلاد المسلمين في الأفكار والأخلاق والسلوك، ولم ترتق بهم في الصناعة والعمران.
لقد ظنوا أن تقدم الغرب هو بسبب انحلاله، وتحرير نسائه من قيود الأخلاق، وخلطهن بالرجال، وأنه لا سبيل إلى النهوض إلا بأخذ جميع ما في الغرب حتى قال قائلهم: "إن سبيل النهضة واضحةٌ بينةٌ مستقيمة، ليس فيها عوجٌ ولا التواء، وهي أن نسير سيرةَ الأوربيين، ونسلكَ طريقهم؛ لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحبُ منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يعاب".
وقال آخر في بلاد أخرى: "إنا عزمنا أن نأخذ كلَّ ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في صدورهم، والنجاسات التي في أمعائهم" وللأسف فإن من اختطوا هذا المنهج الفاسد قد أخذوا شرَّ ما في الحضارة الغربية ومرَّها وما يعاب منها، وتركوا خيرها وحلوها وما يحمد منها، فنشروا التغريب في بلاد المسلمين، وأضروا بها، ولم يفلحوا في رقيها وتقدمها، فلا أصلحوا للناس دنياهم، ولا أبقوا لهم دينهم، في الوقت الذي كانت التجربة اليابانية عقب تجربة هؤلاء بعقود، لكنها نجحت لأنها حققت شرط التقدم وهو العدل، وحافظت على تراثها ولغتها وأخلاق أهلها، رغم أنها أمة وثنية لا تصمد أمام الأمم الرسالية.
فمتى يعي المستلبون فكرياً وأخلاقياً من دعاة التغريب في بلاد المسلمين إلى أن استجلاب الأخلاق الفاسدة، والأفكار المنحرفة من الغرب لن يكون سبيلاً للتقدم والعمران، ولنا عبرة في بعض بلاد المسلمين التي استجلبت الاختلاط والعري وأنواع الانحراف ونشرته في مجتمعها وقد أمضت قرناً في هذه التجربة المريرة ولا زالت ترسف في أغلال التخلف والفقر والتبعية؟
ومتى يعي الناس أن هؤلاء الكذبة الأفاكين لن يصلحوا لهم دنياً ولن يُبقوا لهم ديناً؟ يعزفون على أوتار التقدم والإصلاح، وما هم إلا مرتزقة وعملاء، وأصحاب شهوات حيوانية، ودعاة انحراف وضلال، بعيدون كل البعد عن سبل الإصلاح والتقدم والعمران، والله لا يصلح عمل المفسدين.
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم..