المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
العربية
المؤلف | عبدالله بن صالح القصير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
.. ولهذا تمادوا في الإسراف في الحفلات وبذل الكثير من الأموال عند أدنى المناسبات؛ كالزواج، وحفل عقد القرآن، وغيرهما من أنواع الحفلات التي يبذل فيها المال الوفير، وينفق فيها الجهد الكبير والوقت الكثير في غير مرضاة الله، بل فيما يسخطه ويأباه؛ مباهاة لضعفاء الإيمان من ذوي الطغيان ..
الحمد لله المنعم المتفضل، الذي أغنى وأقنى وأعطى، ويجزل ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويصل ويقطع، له الملك وله الحمد، وله النعمة وله الفضل، وبيده الخير وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه على نعمه الغزار، وأشكره على جوده المدرار، وأسأله التوفيق والإعانة لشكره، والقيام بحقه خالصاً لوجهه آناء الليل وآناء النهار، وأستغفره من التقصير، وأسأله العفو، فإنه هو العفو الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، يجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي المحسنين بالإحسان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وراقبوه، واشكروا له سبحانه ولا تكفروه؛ فإن نعمه -جل وعلا- تتوافد علينا كل حين، وفضله يتزايد ويتواصل علينا ممسين مصبحين، واحذروا معصيته -سبحانه-؛ فإن المعاصي كفران للنعمة ومجلبة للنقمة، تزيل النعم الحاضرة وتقطع النعم الواصلة، وإن نعم الله تعالى ما حفظ موجودها بمثل عبادته، ولا استجلب مفقودها بمثل شكره على نعمته، والاستعانة بها على طاعته؛ فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته.
وإن معصية الله -جل وعلا- تستوجب مقت الله وشدة عقوبته، وقد جعل الله -تعالى- لكل شيء سبباً يجلبه وآفة تذهبه؛ فالشكر سبب لجلب النعمة وزيادتها، والجحود أخطر سبب يذهب النعمة ويبدلها بضدها، فإذا أراد الله حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى يعصي بها، فما زالت نعمة ولا حلت نقمة إلا بذنب كما روي عن أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: " ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة ".
ومصداق ذلك من كتاب الله تعالى قول الحق سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ) [الأنفال:53-54].
فأخبر -سبحانه- أنه لا يغير نعمته التي أنعمها على أحد حتى يكون الإنسان هو الذي يغير بنفسه فيغير طاعة الله بمعصيته، ويبدل شكر نعمة الله بكفرها، ويستبدل أسباب رضا الله بأسباب سخطه؛ فإذا غير ما بنفسه غير الله عليه جزاءً وفاقاً (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46].
وفي بعض الآثار الإلهية عن الرب تبارك وتعالى أنه قال: " وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب ثم ينتقل منه إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره، ولا يكون عبد من عبيدي على ما أكره فينتقل عنه إلى ما أحب إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب " وفي التنزيل: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
أيها المسلمون: إن شكر النعم أمْن زوالها، وسبب زيادتها واتساعها، وسبب لزكاة النفس، وأمارة على تقواها، وبرهان على صحة العقل وسلامة الفطرة وطهارتها، وسد منيع دون العقوبات؛ وتبدل النعم بأضدادها. وشكر النعم هو الاعتراف بها ونسبتها إلى موليها جل وعلا، وصرفها في طاعته على الوجه الذي يحب ويرضى وفيما أباحه الله لعباده أولي الأحلام والنهى، والحذر من صرفها بالتكبر على الناس والاستعلاء، أو إنفاقها في المحرمات إسرافاً وبطراً كما هو حال السفهاء، أو مجاوزة الحد في إنفاقها في المباحات؛ فإن ذلك من أسباب الردى.
أيها المسلمون: إن الله -تعالى- قد امتن عليكم بأن أنشأكم من العدم، وأسبغ عليكم النعمة، ووالى عليكم ألوان الجود والكرم، فاشكروا الله على نعمه بصرفها في طاعته، ولا تجعلوها سلماً لمعصيته، فتتعرضوا لعقوبته.
إن الله -تعالى- أنعم عليكم بصحة الأبدان، ووهبكم العقول، وأرسل إليكم الرسول، وأنزل إليه القرآن؛ لتقيموا الصلاة وتشهدوا الجمع والجماعات، وتؤدوا الحقوق والواجبات، وتقفوا عند الحدود وتستغفروا من السيئات، ووهبكم الأموال لتنفقوها على أنفسكم وذويكم مقتصدين شاكرين، وتبذلوها في نصرة الدين وتطعموا منها السائلين والمساكين، وتعينوا منها المعوزين، مبتغين وجه الله مخلصين مبتعدين عن خلق المبذرين والمسرفين.
فاشكروا نعمة الله عليكم ولا تكونوا من الغافلين الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أولئك هم الفاسقون؛ فإن ربكم سبحانه ينعم ليشكر ويحسن ليذكر، وإن شكر النعم يظهر في استعمالها في الطاعات، والنأي بها عن المحرم من الشهوات والإسراف في المباحات.
عباد الله: لقد تمادى بعض الناس في اتباع الشهوات، والإسراف في النفقات، ونسوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة ". ونسوا أنهم مسؤولون عن مالهم من أين اكتسبوه، وكيف أنفقوه، ولهذا تمادوا في الإسراف في الحفلات وبذل الكثير من الأموال عند أدنى المناسبات؛ كالزواج، وحفل عقد القرآن، وغيرهما من أنواع الحفلات التي يبذل فيها المال الوفير، وينفق فيها الجهد الكبير والوقت الكثير في غير مرضاة الله، بل فيما يسخطه ويأباه؛ مباهاة لضعفاء الإيمان من ذوي الطغيان، ورضوخاً لرأي السفهاء من النساء وأشباه الصبيان، حتى تشتمل تلك المناسبات والحفلات على ضروب المنكرات من أنواع الإسراف في النفقات، والتبذير بصرفها في الحرام؛ أجوراً للمغنين والمغنيات مع ما يقترن بذلك عند الكثيرين من اختلاط النساء بالرجال، وغير ذلك من سوء الأحوال التي يبدلون بها نعمة الله كفرا، وذكره هجراً، ويحملون أنفسهم بسببها وزراً، يمكرون الليل والنهار، ويؤسسون بيوتهم ومناسباتهم على شفا جرف هار (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [التوبة:109].
فاتقوا الله -عباد الله-، ولا تكونوا من أولئك واحذروا أسباب المهالك، فكونوا لنعم ربكم شاكرين، وله في سائر أحوالكم ذاكرين، وفي نفقاتكم مقتصدين، فلا تبذروا بإنفاق أموالكم في الحرام، ولا تسرفوا بالزيادة عن الحاجة تمقتوا من الأنام، بل كونوا كما وصف الله عباد الرحمن في محكم القرآن (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، وتوبوا إليه من المخالفات واتباع الهوى، واشكروه على نعمه تزدادوا منها وتبقى، واعلموا أن الزواج من نعمة الله العظيمة على المتزوجين وعلى ذويهما وعامة المسلمين؛ لما يحصل به من صلاح العباد، وقطع ذرائع الفساد، وتكثير العباد، ونشر الوئام والمودة بين الأنساب والأصهار، وما ينتج عن ذلك من التواصل والتعاون على الخير وطاعة الواحد القهار، إلى غير ذلك من منافعه العظيمة وعوائده الكريمة، ولذلك يُسَرُّ به كل ذي دين ومروءة، ويستبشر به إذا حضره أو سمع خبره.
لكن بعض الناس يخطئون حيث يثبطون الهمم عنه، ويحرمون الشباب والفقراء منه، ويكدرون لذته على من أقدم عليه بما يفرضونه مما أحدثوه من الإسراف في كلف المناسبات، ومجاوزة المألوف في شراء الحلي وأنواع المصاغات وكلف التأثيثات، ونحوها مما يبذل -ولو عن غير طيب نفس- من هدايا بتلك المناسبات بين الأسرتين المتصاهرتين، ونحو ذلك مما ليس في صالح الزوجين، وربما كان من أسباب فشل الزواج وعرقلة زواج الآخرين.
وهذه كلها في الواقع من التكلفات المذمومة والأعراف الحادثة المذمومة، فمن الحزم وفعل أولي العزم تكاتف العقلاء في المجتمع والوجهاء، فإن الناس لهم تبع على إنكار هذه الأمور، والحث على تيسير المهور وما يتبعه، فذلك واجب على كل غيور، حتى لا تضيع أموال المسلمين هدراً، ولا يبدل الناس نعمة الله كفراً، ولا تكون في طريقه للزواج حجر عثرة تصرف شباب الإسلام للتزوج من الفاسقات من بنات المسلمين في الأمصار المحكومة بالجاهليات، ولا تضطرهم إلى التزوج من الغربيات والوثنيات، أو البقاء على العزوبة وهي أشر الحالات وسبب المهلكات، ألا وإن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة، وإن أحرى المناسبات بالخير والبركة التي يشهدها خيار عباد الله، فيدعون لصاحبها على إحسانه، ويشكرونه، وإن شرها التي يدعى إليها الأغنياء، ويترك الفقراء، ويتحكم فيها أصناف السفهاء من ناقصي العقول والنساء، والتي يحضرها المترفون الذين لا يذكرون الله إلا هجراً.
فاتقوا الله عباد الله، ويسروا أمر الزواج على المسلمين، وخاصة المعوزين، ولا تتشبهوا بالمترفين أولي النعمة المكذبين للمرسلين، فإن من يتشبه بقوم فهو منهم. وانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زلتكم، وتمسكوا بدينكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله! (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.