البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
إن جيوش الغربِ المنهزمةِ عسكريًا غيرت استراتيجياتها في حرب المسلمين، كما يقول المؤرخ المسيحي "جوانفيل" الذي رافق ملك فرنسا "لويس التاسع" فقال: "إن خلوة لويس في معتقله بالمنصورة أتاحت له فرصة هادئة ليفكر بعمق في السياسة التي كان أجدر بالغرب أن يتبعها إزاء المسلمين، وقد انتهى تفكيره إلى ضرورة تحويل الحملاتِ العسكريةِ إلى حملاتٍ صليبيةٍ سلميةٍ تستهدفُ ذاتَ الغرض ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله قدَّر المقاديرَ فأحاطَ بها علمًا، وخلقَ الخلائقَ فأحكمَها خلقًا، لا إله إلا هو أماتَ وأحيَا، وأضحكَ وأبكَى، وأسعدَ وأشقَى، أشكرُه على نعمائِه لا أُحصِي لها عدًّا، وأحمدُه على آلائِه لا أقضِي له بالحمد حقًّا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادةَ حقٍّ ويقينٍ تعبُّدًا ورِقًّا، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه هو الأخشَى لربِّه والأتقَى، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الأطهار، وأصحابِه الغُرِّ الميامين الأخيار، حازُوا المكارِم شرفًا، ونالُوا العُلَا سبقًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما بلغَ هذا الدينُ مبلغَ الليل والنهار، وما رفرفَت أعلامُه غربًا وشرقًا، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: من المنن التي منّ الله -سبحانه وتعالى- بها على عباده في هذا الزمان نعمة التواصل، وانفتاح الناس بعضهم على بعض، وتقارب الزمان، حتى أصبح كل بلد لا يكاد توجد بينه وبين البلد الآخر أية حواجز أو حدود.
وهذه نعمة لو أنها استغلت في جانب الخير وتفعيل الجوانب الايجابية، ولكن المصيبة عندما يغدو الانفتاح بين الناس مدخلاً للشرور وفتحاً لأبواب الجحيم، وهذا عين ما نعانيه اليوم في هذا الزمان، وخاصة ما يسمى بالانفتاح الثقافي.
عباد الله: إن المصيبة تكمن في أن أكثر أمم العالم وأعراقها يعتزون بقيمهم، ويحافظون على أصولهم وأصالتهم، ويحذرون أتباعهم وأبناءهم من التزحزح عن هذه الثوابت والأصول. ولكن لو نظرنا في حالنا -نحن المسلمين- لوجدنا أن واقعنا عكس ذلك تماماً إلا من رحم الله، فكثير من شبابنا وفتياتنا معجبون بالآخرين من غير أمة الإسلام، ومنبهرون بهم، ويرون أفضليتهم عليهم في النواحي الثقافية والاجتماعية.
وهذا هو البلاء عندما يستحقر المرء ثقافته وأصوله وثوابته، ويرى أن قيم غيره أفضل من قيمه، وما عند الآخرين من ثقافة هي خير مما عنده، ولهذا فلا يرى أية غضاضة في الانفتاح عليهم، وتقبل ما عندهم، والنهل من مشاربهم.
بعكس الآخرين الذين يرون أن انفتاح أبنائهم على ثقافة غيرهم يعد مخالفة شنيعة، وهدماً للقيم، وإلغاء للأصول، وعدم الاعتراف بالفضل للنفس والمجتمع والقيم، وإلغاء لروح الانتماء، ومحاربة اللغة الأم التي يتكلمون بها؛ لأن الصراع في نظرهم صراع على الهوية، بحيث يكونون أو لا يكونون.
لقد أمرنا ربنا -جل جلاله وعز كماله- بالاعتزاز بالدين، والشعور بعظمته، وعدم الالتفات إلى غيره، حتى لا تضيع قيمنا، وننفتح على غيرنا، فتضيع هويتنا ونصبح لا نعرف شيئاً عن ثقافتنا وأخلاقنا، وهذا ما وقعنا اليوم فيه والله المستعان، يقول الله -جل وعلا-: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8].
فهؤلاء المنافقون حينما اعتزوا بغير دين الله وطلبوا العزة في غير منهج الله، ولم يفهموا المعنى الصحيح للعزة وأهلها، فاعتقدوا أنهم هم الأعزة وأن المسلمين الأذلة رد الله عليهم وأخبرهم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.
أيها المسلمون: إن ديننا الإسلامي الحنيف قد أغلق باب الانفتاح الثقافي، ومنع مِن وُلوجه وحذَّر منه، ومن ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهانا عن الإقامة بين ظهراني غير المسلمين؛ لأن إقامة المسلم بينهم تشعره بالوحدة والضعف، وتربي فيه روح الاستخذاء والاستكانة، وقد تدعوه إلى المحاسنة ثم المتابعة والملاينة لهم.
إن الإسلام يريد للمسلم أن يمتلئ قوة وعزة وأن يكون متبوعاً لا تابعاً، وأن يكون ذا سلطان ليس فوقه إلا سلطان الله، لذلك حرم الإسلام على المسلم أن يقيم في بلد لا سلطان للإسلام فيه إلا إذا استطاع أن يظهر إسلامه ويعمل وفقاً لعقيدته دون أن يخشى الفتنة على نفسه، وإلا فعليه أن يهجر هذا البلد إلى بلد يعلو فيه سلطان الإسلام، فإن لم يفعل فالإسلام بريء منه ما دام قادراً على الهجرة. وفي ذلك كله يقول الله –سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [سورة النساء:97-99].
ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَالَ: لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا" [الترمذي (1604) ] وروى أبوداود عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه-، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ" [أبو داود:2787].
عباد الله: لقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذين الحديثين عن مجرد الاقتراب منهم أو معايشتهم، أو الاختلاط بهم، ولو أن يستضيء المؤمن بنارهم، بل عليه أن يهجرهم ويبتعد عنهم، كل ذلك حتى لا ينفتح المسلم عليهم فيتأثر بهم، أو يقتدي بما عندهم، أو يأخذ من طباعهم وثقافاتهم، وهذا ما أكده الله بالتحذير فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران:118].
فالحذر الحذر والابتعاد الابتعاد من أية ثقافة غير ثقافة الإسلام وأصوله وقيمه، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، لا إله بحقٍّ غيرُه يُعبَد، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحِدُ الأحد، الفردُ الصمدُ، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه أهل الفضل والشرَف والسُّؤدَد، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وبعد:
أيها المسلمون: إذا كان الإسلام قد حذر من مجرد الاقتراب من الكفار فكيف بمن يأخذ من ثقافتهم، وينفتح انفتاحاً هائلاً عليهم، ويرى ضرورة ذلك ويشجع عليه، ويتغاضى عن أهله وأبنائه عندما يرى فيهم شيئاً من آثار ذلك الانفتاح، بل ربما يشجعهم على السفر إلى بلاد الكفر لغير ضرورة وحاجة ماسة؟!!.
ربما يقول البعض لا عذر لنا اليوم من الانفتاح الثقافي والفكري على غيرنا في كل شيء، وهذا كلام باطل وقول غير صحيح؛ فلماذا فقط -نحن المسلمين- لا عذر لنا من الانفتاح على ثقافة غيرنا، وغيرنا من الأمم محافظة أشد المحافظة على قيمهم وثقافتهم، ويعتزون بها، وينهون أبناءهم عن الانفتاح على ثقافة غيرهم، أو التحدث بغير لغتهم، أو تقليد الآخرين في أي شيء من خصائصهم؟.
إنه الشعور بالنقص والضعف والاحساس بالانهزامية جعل بعضاً منا ينادي بضرورة الانفتاح على الغير والأخذ من ثقافة الآخرين، مع أن ثقافتنا هي الأصيلة، وهي الأعلى من كل ثقافة لو عرفنا قدر أنفسنا وقيمة ثقافتنا، ولكن للأسف جهلُنا بأنفسنا وقيمنا جعل بعضنا ينادي بضرورة الانفتاح على الآخرين!!.
صحيح قد تكون هناك ضرورات أو أمور نافعة عند الغير، أو أشياء فيها مصالح مشتركة بين البشر، أو غير ذلك، ولكن هذه أمور لها حدودها ولها ضوابطها، وليس معنى ذلك أن ننفتح على غيرنا بشكل كامل، أو نتقبل كل ما عندهم من ثقافة بعجرها وبجرها، أو نكون كالإمعة الذي يمتص كل شيء ويتقبل من الآخر كل غث وسمين. يقول عبد الله بْن مَسْعُود -رضي الله عنه-: "لَا يكن أحدكم إمعة يَقُول أنا مَعَ النَّاس ليوطن أحدكم نَفسه على أن يُؤمن وَلَو كفر النَّاس" [المعجم الكبير:8765].
إذا كان هناك حاجة وضرورة لدى بعضنا للتعرف على ثقافات غيرنا فليكن ولكن بحذرٍ شديدٍ، وعلى حسب الحاجة وقدر الضرورة، فإن جيوش الغربِ المنهزمةِ عسكريًا غيرت استراتيجياتها في حرب المسلمين، كما يقول المؤرخ المسيحي "جوانفيل" الذي رافق ملك فرنسا "لويس التاسع" فقال: "إن خلوة لويس في معتقله بالمنصورة أتاحت له فرصة هادئة ليفكر بعمق في السياسة التي كان أجدر بالغرب أن يتبعها إزاء المسلمين، وقد انتهى تفكيره إلى ضرورة تحويل الحملاتِ العسكريةِ إلى حملاتٍ صليبيةٍ سلميةٍ تستهدفُ ذاتَ الغرض".
فعلينا الانتباه والحذر من أعدائنا، فإنهم حريصون على إضلالنا، وتحريف معتقداتنا، وتخريب ثقافتنا، وهدم قيمنا، وإن لم نأخذ حذرنا فإننا سنقع فيما وقعوا فيه من التيه والضلال، وضياع الهوية، وغياب الأصول، وانحراف الثوابت والقيم، وسنتيه كما تاهوا، وننحرف -والعياذ بالله- كما انحرفوا، وفي النهاية لا نحن من ثقافتنا وقيمنا ولا نحن من هؤلاء ولا من هؤلاء، (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) [النساء:143].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على خير مربي وأعظم قائد، من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللهم اعزنا بدينك، واجعلنا معتزين به، محافظين عليه، مستمسكين بقيمه وثوابته وأصالته وثقافته.