الباسط
كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
ومن هذا عميت بصائر الكفار والمنافقين؛ فلم يعتبروا بهذه الآيات، ولم ينظروا فيها إلا النظرة البهيمية المقصورة على التمتع بها في هذه الحياة والانتفاع بخصائصها الانتفاع العاجل الزائل، وكفروا بخالقها، وجحدوا نعمته، وظنوا أنهم حصلوا على ما حصلوا عليه من التقنيات الحديثة والصناعات المختلفة بحولهم وقوتهم وتفكيرهم، فاغتروا بما توصلوا إليه من الاختراعات، واستكبروا في الأرض بغير الحق
الحمد لله رب العالمين، الذي أحسن كل سيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، وأمر بالتفكر في مخلوقاته ليُسْتدلَ بها على قدرة خالقها وعظيم صفاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أنزل عليه الذكر ليبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون، فبلغ البلاغ المبين، وبين ما نزل إليه من ربه غاية التبيين، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته والتابعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله وتفكروا في مخلوقاته وتدبروا آياته فقد أثنى الله على المتفكرين: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، وذم -سبحانه- المعرضين الذين لا يتفكرون فقال سبحانه: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ).
ولهذا كان السلف الصالح يتفكرون في مخلوقات الله ويتدبرون آياته ويحثون على ذلك. قال أبو الدراء رضي الله عنه: "تفكُّر ساعةٍ خير من قيام ليلة"، وقال وهب بن منبه رحمه الله: "ما طلت فكرة امرئ قط إلا فهم، وما فهم إلا علم، وما علم، إلا عمل". وقال بشر الحافي: "لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه".
وذلك أن التفكر في عجائب الخلق وأسراره يثمر تعظيم الخالق ومخافته (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ).
إذا نظر الناس اليوم إلى تلك المخترعات العصرية بهرتهم بدقة صنعتها ووفرة منجزاتها فأعجبوا بمخترعيها وصانعيها، وهي جزئيات صغيرة من أسرار الكون الذي خلقه الله وسخره، وأطلع عباده على بعض أسراره وألهمهم معرفة استخدامه: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) فهذه المخترعات ومخترعوها خلق الله تعالى.
وقد وجه الله عباده في آيات كثيرة من كتابه إلى التفكر في هذه المخلوقات كما في قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ) وقال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) فدعا الإنسان إلى التفكر في مبدأ خلقه ووسطه وآخره؛ لأن في ذلك أعظم الدلالة على خالقه؛ ففي خلق الإنسان من العجائب ما تنقضي الأعمار دون الإحاطة به؛ فانظر إلى النطفة وهي قطرة من ماء مهين مستقذر كيف استخرجها رب الأرباب من بين الصلب والترائب، وساقها إلى مستقرها؛ فلو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا لها سمعاً أو بصراً أو عقلاً أو روحاً أو عظماً - لعجزوا عن ذلك؛ لأن ذلك (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ).
ثم انظر في ملكوت السموات وعلوها وسعتها وحسن بنائها وعجائب شمسها وقمرها وكواكبها فهي أعظم من خلق الإنسان كما قال تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) وقال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
وإذا نظرت إلى الأرض رأيتها من أعظم آيات الله، حيث جعلها فراشاً ومهاداً لعباده وذللها لهم وجعل فيها من المعادن المختلفة والنباتات المتنوعة، والمخلوقات ذوات الأرواح من الناس والبهائم الأليفة والمتوحشة والحشرات، ومن البحار والأنهار والجبال والرمال، وما بين السماء والأرض من الرياح والسحاب المسخر والطيور السابحة في الهواء (صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ).
وانظر إلى الليل والنهار وتعاقبهما وتقارضهما الزيادة والنقصان بينهما (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً) وكل هذه المخلوقات مسخرة بأمر الله تؤدي وظائفها الكونية وتنتج ثمراتها المطلوبة وهي تسبح بحمد ربها وتنزهه بلسان المقال ولسان الحال عن أن يكون له شريك: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التغابن:1] (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ).
ومن هذا عميت بصائر الكفار والمنافقين؛ فلم يعتبروا بهذه الآيات، ولم ينظروا فيها إلا النظرة البهيمية المقصورة على التمتع بها في هذه الحياة والانتفاع بخصائصها الانتفاع العاجل الزائل، وكفروا بخالقها، وجحدوا نعمته، وظنوا أنهم حصلوا على ما حصلوا عليه من التقنيات الحديثة والصناعات المختلفة بحولهم وقوتهم وتفكيرهم، فاغتروا بما توصلوا إليه من الاختراعات، واستكبروا في الأرض بغير الحق؛ كما قال تعالى (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) ولم يعتبروا بمصير من سبقهم من الملاحدة والجبابرة والأمم الكافرة (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ)؛ نسأل الله عز وجل أن يرزقنا التفكر في آياته والعمل بطاعته، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)، إلى قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)، إلى قوله تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:54-56].