الجميل
كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - الأديان والفرق |
لا يزالُ اليهودُ همُ اليهودُ .. فهم لا يَملُّونَ ولا يَضجرونَ ولا يَسأمونَ من المفاوضاتِ والمماطلةِ .. فهم خُبراءُ في نقضِ العُهودِ، وهم أعظمُ عدوٍ لأهلِ الإيمانِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ .. وهم من أفسدِ عبادِ اللهِ –تعالى- في الأرضِ، وَيَسْعَوْنَ سعياً حثيثاً سريعاً نشيطاً مُستمراً في الفسادِ في الأرضِ .. وهم أسرعُ البَشَرِ خيانةً، وخِداعُهم في قضيةِ فلسطينَ واضحٌ كوضوحِ الشَّمسِ، وقصةُ البقرةِ تكشفُ لنا طبيعةَ هؤلاءِ القومِ، ولذلكَ لا يجوزُ لمسلمٍ أن يغتَّرَ بهم..
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الكريمِ المنَّانِ، الذي أكرمَنا بالقرآنِ وجعلَه ربيعَ قلوبِ أهلِ الإيمانِ، وحفظَه من الزيادةِ والنُّقصانِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له شهادةً يُنالُ بها الغُفرانَ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه كانَ خُلُقه القرآنَ، فمدَحَه اللهُ تعالى بقولِه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4] في آياتِ الفُرقانِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلمَ تسليماً كثيراً.
أُوصيكم ونفسي بوصيةِ اللهِ تعالى للأولينَ والآخرينَ كما قالَ سبحانَه: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131] ..
أما بعد: فإذا علمتَ أيها المُباركُ فضلَ سورةِ البقرةِ .. وأنها تشفعُ لصاحبِها يومَ القيامةِ .. وتجادلُ عنه وتُخاصمُ له في يومٍ لَا تَجْزِي نَفْس عَن نفْس شَيْئًا .. كما قالَ أبو أُمَامَةَ البَاهِلِيّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَقُولُ: "اقْرَؤُوا القُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعاً لأصْحَابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: البَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ كَأنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أصْحَابِهِمَا، اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فَإِنَّ أخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلا تَسْتَطِيعُهَا البَطَلَةُ".
فكلُّها خيرٌ وأمانٌ .. ولا يستطيعُها ساحرٌ ولا شيطانٌ .. ولذلك جاءَ في الحديثِ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ".
وإذا علمتَ .. أنَّ "مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ" .. "وَلا يُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ" .. وأنك "لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلا أُعْطِيتَهُ" .. ففيها دعاءٌ عظيمٌ .. يستجيبُ له الربُّ الكريمُ.
بل وفيها أعظمُ آيةٍ في كتابِ اللهِ تعالى .. كما قالَ رَسُولُ الله -صلى اللهُ عليه وسلمَ- لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "يَا أبَا المُنْذِرِ، أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ الله مَعَكَ أعْظَمُ؟"، قال قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قال: "يَا أبَا المُنْذِرِ، أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ الله مَعَكَ أعْظَمُ؟"، قال قُلْتُ: اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ، قال: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: "لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبَا المُنْذِرِ" .. و "مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، إِلا الْمَوْتُ" .. ومن قرأها حينَ يأوي إلى فراشِه لا يزالُ عليه من اللهِ حافظٌ .. ولم يقربْه شيطانٌ حتى يُصبحَ.
وإذا علمتَ أنَّ ابنَ عمرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُما- أقامَ على حفظِ سورةِ البقرةِ ثماني سنينَ لتدبرِه لها وفهمِه لمعانيها وتطبيقِ أحكامِها .. وأنَّ أنسَ بنَ مالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قالَ: "كانَ الرَّجلُ مِنَّا إذا حفظَ البقرةَ وآلَ عمرانَ جَلَّ في أعينِنا" أيْ: عَظُمَ قدرُه.
وإذا رأيتَ في هذه السُّورةِ التوحيدَ والأحكامَ والقصصَ والأمثالَ وأصنافَ النَّاسِ والوعدَ والوعيدَ وحقيقةَ اليهودِ.
فللقارئ المُتدبِّرِ للقرآنِ بعدَ ذلك أن يسألَ نفسَه وهو يتنقَّلُ بينَ آياتِ سورةِ البقرةِ .. لماذا سُميَّتْ هذه السورةُ العظيمةُ بقصةِ بقرةِ بني إسرائيلَ؟!
فتعالوا أولاً لنرى ما هي قِصةُ هذه البقرةِ..
بدأتْ القِصةُ بأُسلوبٍ تشويقيٍ مُثيرٍ، (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) [البقرة: 67]، فيبدأُ السَّامعُ يتساءلُ: ما الخبرُ؟، ولماذا أمرَهم اللهُ بذبحِ هذه البَّقرةِ؟، فيأتي في آخرِ الآياتِ ما يرفعُ العَجَبَ .. ويبيِّنُ السببَ .. كما قالَ سبحانَه: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة: 72]، فهناكَ جريمةُ قتلٍ قد وقعتْ فتخاصمَ النَّاسُ في القاتلِ واختلفوا، ثُمَّ إلى نبيَّ اللهِ موسى -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- احتكموا .. فرجعَ إليهم بقولِه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)، قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللهُ عَنهُما-: "فَلَوِ اعْتَرَضُوا بَقَرَةً فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا وَتَعَنَّتُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ".
وقد يكونُ الأمرُ بذبحِ البقرةِ لأنها من جنسِ العِجلِ الذي عبَدوه .. فأرادَ اللهُ –تعالى- أن يختبرَ توبتَهم، وهل بقيَ شيءٌ من تعظيمِ العجلِ في قلوبِهم .. فما كانَ منهم إلا أن (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) [البقرة: 67].. أنسألُكَ عن القاتلِ .. فتأمرُنا أن نذبحَ بقرةً .. فما هو الرابطُ بينَ الأمرينِ؟
وفي هذا الكلامِ من سوءِ الأدبِ مع أنبياءِ اللهِ –تعالى- ما لا يخفى على عاقلٍ .. فالأمرُ من اللهِ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ) .. والمتكلمُ نبيٌّ من أولي العزمِ من الرُّسلِ .. فأجابَهم موسى -عليه السَّلامُ- :(قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [البقرة: 67].. فإنَّ الجاهلَ هو الذي يتكلمُ بالكلامِ الذي لا فائدةَ فيه، وهو الذي يستهزئُ بالنَّاسِ، وأما العاقلُ فيرى أن من أكبرِ العيوبِ المُزريةِ بالدِّينِ والعقلِ استهزاءُه بمن هو آدميٌ مثلُه.
فلما قالَ لهم موسى ذلك .. علموا صِدقَ حديثِه فقالوا: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) .. كأنهم يقولونَ: ربَّك أنتَ وليسَ بربِّنا نحنُ، وهذا يَدلُّ على سوءِ أدبِهم مع اللهِ تعالى أيضاً .. فهؤلاءِ هم اليهودُ مع أنبياءِهم ومع ربِّهم، لمن أرادَ أن يَعرفَ حقيقتَهم.
قالوا: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ) [البقرة: 68] أي: ما سنُّها؟، (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ) أي: ليستْ كبيرةً، (وَلَا بِكْرٌ) ولا صغيرةً، وإنما هي (عَوَانٌ) وسطٌ (بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) [البقرة: 68].. واتركوا التَّشديدَ والتَّعنُّتَ.
ولكنهم لم يستجيبوا للأمرِ .. (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) [البقرة: 69].. تُعجبُ النَّاظرينَ في مَنظرِها وهيئتِها، وقد قيَّدَها اللهُ تعالى بهذا اللَّونِ النَّادرِ الوجودِ لعدمِ استجابتِهم لأمرِه.
ثمَّ رجعوا إليه .. (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) [البقرة: 70].. اشْتَبَه الأمرُ علينا فلم نهتدِ إلى هذه البقرةِ التي أُمرْنا بذبحِها .. وهكذا كلُّ من يُجادلُ في الأمرِ والنَّهي .. ويُعارضُ شرعَ اللهِ –تعالى-.. يُبتلى بتشابِه الأمورِ وعدمِ وضوحِ الحقِّ إليه .. ثُمَّ قالوا: (وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) [البقرة: 70].. ولو لم يقولوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ما اهتدوا إليها أبداً.
(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) .. غيرُ مُذللةِ لحرثِ الأرضِ .. (وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ) .. ولا لسقي الحرثِ .. (مُسَلَّمَةٌ) .. سليمةٌ من العيوبِ .. (لَا شِيَةَ فِيهَا) .. لا يخالطُ لونَها لونٌ آخرٌ .. (قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) .. وهذه سوءُ أدبٍ آخَرُ مع نبيِّهم الكريمِ .. وإلا فقد جاءهم بالحقِّ أولَ مرةٍ ..(فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة: 71].
(فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [البقرة: 72].. فضربوه بجُزءٍ منها فأحياهُ اللهُ -تعالى- وأخبرَ عن القاتلِ .. آيةً من آياتِ اللهِ العزيزِ الحكيمِ .. ومُعجزةٍ من معجزاتِ موسى الكليمِ.
فماذا كانت النتيجةُ بعدما رأى بنو إسرائيلَ هذه الآيةَ العظيمةَ؟ .. (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 74].
ولا يزالُ اليهودُ همُ اليهودُ .. فهم لا يَملُّونَ ولا يَضجرونَ ولا يَسأمونَ من المفاوضاتِ والمماطلةِ .. فهم خُبراءُ في نقضِ العُهودِ (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [البقرة: 100]، وهم أعظمُ عدوٍ لأهلِ الإيمانِ .. في كلِّ زمانٍ ومكانٍ (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ) [المائدة: 82] .. وهم من أفسدِ عبادِ اللهِ تعالى في الأرضِ (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) [المائدة: 64] .. سبحانَ اللهِ .. (وَيَسْعَوْنَ)، سعياً حثيثاً سريعاً نشيطاً مُستمراً في الفسادِ في الأرضِ ..
وهم أسرعُ البَشَرِ خيانةً (وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ) [المائدة: 13]، وخِداعُهم في قضيةِ فلسطينَ واضحٌ كوضوحِ الشَّمسِ، وقصةُ البقرةِ تكشفُ لنا طبيعةَ هؤلاءِ القومِ، ولذلكَ لا يجوزُ لمسلمٍ أن يغتَّرَ بهم، ولا يَظُّنُ لحظةً واحدةً أنهم يحرصونَ على خيرٍ لنا، أو أنهم يُريدون أن يَحلُّوا مُشكلةً، فإنَّ اللهَ -سبحانَه وتعالى- قد فضحَهم في كتابِه، وبيَّنَ لنا طبيعتَهم، ونَسألُ اللهَ تعالى أن يجنَّبَنا شُرورَهم ومكرَهم وأن ينصرَنا عليهم، ويُخلِّصَ المسلمينَ من شرِّهم.
اللهم اجعلنا ممن يتدبرُ القرآنَ ويعملُ بما جاءَ فيه .. اللهم اجعلنا له تَالينَ وبه عاملينَ، وعليه مُقبلينَ .. اللهم اجعلنا من أهلكِ أهلِ القرآنِ، يا ربَّ العالمينَ .. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سَيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه ..
أما بعد: فيا عبادَ اللهِ ..لقد جاءَ صريحاً في الأحاديثِ الكثيرةِ ذكرُ سورةِ البقرةِ باسمِها .. وهذا يدلُّ على أن تسميَّتَها كان بالوحيِّ من اللهِ تعالى .. ولذلكَ نعودُ إلى سؤالِنا الأولِ: لماذا سميَّتْ هذه السورةُ الطويلةُ الجليلةُ .. باسمِ سورةِ البقرةِ؟
الجوابُ واللهُ أعلمُ: أنَّ سورةَ البقرةِ نزلتْ في المدينةِ بكثيرٍ من الأوامرِ والنواهي .. حتى قالَ ابنُ العربي -رحمَه اللهُ-: "سمعتُ بعضَ أشياخي يقولُ: فيها ألفُ أمرٍ وألفُ نهيٍ، وألفُ حُكمٍ وألفُ خبرٍ .. فيحتاجُ المُسلمُ لتطبيقِ هذه الأوامرِ والنواهي الكثيرةِ إلى طاعةٍ خالصةٍ .. واستجابةٍ بالغةٍ .. وتسليمٍ صادقٍ للهِ تعالى ولرسولِه -صلى اللهُ عليه وسلمَ- .. فناسبَ تنبيهُ هذه الأمةِ ألَّا يكونوا في موقفِهم من أوامرِ سورةِ البقرةِ .. كأصحابِ البقرةِ الذين تعنَّتوا وماطلوا وتأخروا حتى ذمَّهم اللهُ تعالى بقولِه: (قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [البقرة: 93] .. وكانت العاقبةُ (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة: 74].
ولقد تجاوزَ الصَّحابةُ الكِرامُ -رضيَ اللهُ عنهم- هذا الاختبارَ بجدارةٍ في مواقفَ عديدةٍ مشهودةٍ في التسليمِ لأمرِ اللهِ –تعالى- والاستجابةِ لرسولِه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- .. حتى زكَّاهم اللهُ –سبحانَه- بقولِه: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285].
وأنتَ أيها المؤمنُ .. فكلما مرَّ بك أمرٌ أو نهيٌ في كتابِ اللهِ –تعالى- ورأيتَ في نفسِك ترددٍ .. فتذَّكرْ أصحابَ البقرةِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ أَرِنَا الحَقَّ حقَّاً وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا البَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَينَا الإيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهِ إلَينَا الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ، اللَّهُمَّ يَا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ، وَأَجْوَدَ مَنْ أَعْطَى، وَأَكْرَمَ مَنْ عَفَا، وَأَعْظَمَ مَنْ غَفَرَ، وَأَعْدَلَ مَنْ حَكَمَ، وَأَوْفَى مَنْ وَعَدَ، وَأَبْصَرَ مَنْ رَاقَبَ، وَأَسْرَعَ مَنْ حَاسَبَ، وَأَرْحَمَ مَنْ عَاقَبَ، وَأَحْسَنَ مَنْ خَلَقَ، وَأَحْكَمَ مَنْ شَرَعَ، وَأَحَقَّ مَنْ عُبِدَ، وَأَوْلَى مَنْ دُعِيَ، وَأَبَرَّ مَنْ أَجَابَ.
اللَّهُمَّ كُنْ لِلْمُسْلِمينَ وَالمُسْتَضْعَفِينَ فِي كُلَّ مَكَانٍ، فَرِّجْ هَمَّهُم، وَنَفِّسْ كَرْبَهُم، وَأَقِلْ عَثْرَتَهُم وَتَوَلَّ بِنَفْسِكَ أَمْرَهُم، اللَّهُمَّ ارْفَعْ رَايَتَهُم، وَاكْبِتْ عَدُوَّهُمْ، اللَّهُمَّ وَحِّدْ صَفَّهُم، وَاجْمَعْ كَلِمَتَهُم، وَرُدَّهُم إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلاً .. رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَيءٍ قَدِيرٌ.