المقدم
كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...
العربية
المؤلف | عبدالله بن صالح القصير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، واهتموا بآجلها حين اهتم غيرهم بعاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا منها ما علموا أنه سيتركهم.
فما اعترض لهم من نائلها عارض إلا رفضوه، ولا خدعهم من رفعتها خادع إلا وضعوه، قد اخلولقت الدنيا عندهم فما يجددونها، وخربت بينهم فما يعمرونها، وماتت في صدورهم فما يحيونها ..
الحمد لله اللطيف الخبير، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيءٍ بصير، وله الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الذي نزّل الكتاب، وهو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وأسوة المؤمنون، وسيد الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون، صلاة وسلاماً دائمين كاملين إلى يوم يُبعثون.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق تقواه، واستمسكوا بدينه وهُداه، ولا تكونوا ممن نسي الله فنسيه الله فتمادى في غيّه وعماه.
أيها المسلمون: أقبلوا على ما كلفتموه من إصلاح آخرتكم، ولا يشغلنكم عنه ما ضمن لكم من أمر دنياكم، ولا تستعملوا جوارح غذّيت بنعم الله في التعرض لسخطه بمعصيته، واصرفوا هممكم في التقرب إليه بطاعته والتماس مغفرته، فإن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هم أقوام تميزوا عن سائر الأنام ببعد النظر، والاهتمام بإصلاح دار المستقر.
نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، واهتموا بآجلها حين اهتم غيرهم بعاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا منها ما علموا أنه سيتركهم.
فما اعترض لهم من نائلها عارض إلا رفضوه، ولا خدعهم من رفعتها خادع إلا وضعوه، قد اخلولقت الدنيا عندهم فما يجددونها، وخربت بينهم فما يعمرونها، وماتت في صدورهم فما يحيونها.
بل يهدمون دنياهم فيبنون بها آخرتهم، ويبيعون ما يفنى فيشترون به ما يبقى لهم، نظروا إلى أهلها المفتونين بها فإذا هم صرعى من أجلها، قد حلت بهم المثلات فأصبحوا لغيرهم من جملة العبر والعظات؛ فأقبلوا على الله مخلصين له على طريق هداه، واستعانوا به على بلوغ المقصود وحصول المأمول؛ لعلمهم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولذلك فازوا بالسبق للخيرات، والثناء عليهم في القرآن بجميل الصفات.
أيها المسلمون: لقد وجه الله تعالى أنظار أولي الألباب في محكم الكتاب إلى نهج عباده المؤمنين ومسلك أوليائه البررة الصالحين؛ ليكون للمخاطبين واللاحقين مثالاً يحتذى، ونهجاً يقتفى، وتأملوا ما ختم الله به سورة الفرقان من الثناء على عباد الرحمن بالأحوال الرشيدة، والأخلاق الحميدة، والأقوال السديدة. يقول سبحانه: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63].
فأثنى عليهم ربهم بجمال الهيئة؛ إذ يمشون وعليهم السكينة والوقار، وبالتجاوز عن زلاَّت الجاهلين وطيش الأغرار، فهم -كما قال الحسن البصري رحمه الله-: " قوم ذلت منهم الأسماع والأبصار والجوارح، يحسبهم الجاهل مرضى وما بالقوم من مرض، ولكن دخلهم من الخوف -يعني من الله- ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم في الدنيا علمهم بالآخرة ".
ذلكم -يا عباد الله- وصف نهارهم وصحبتهم للناس، وأما وصف ليلهم فما ينامون من الليل إلا قليلاً، وما بهم من بأس (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [الفرقان:64-66].
(لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران:190-191]. ويتضرعون قائلين: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران:191-192].
فذكر النار أفزعهم وأطار نومهم وأدام خوفهم، وذكر الجنة برحمة الله أطمعهم، وإلى طاعته دفعهم، وعن معصيته منعهم (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:15-17].
أيها المسلمون: أما وصف معيشهم، وإنفاقهم على أنفسهم وأهليهم ومن تحت أيديهم وذويهم، فلم يكونوا بالمبذرين الذين ينفقون أموالهم في الحرام، ولا بالمسرفين في الحلال الذين يتظاهرون بالإنفاق فوق الحاجة بذخاً واستخفافاً بالإنعام، كما يفعله بعض المترفين اليوم الذين يتجاوزون الإنفاق المشروع، فيقعون في الممنوع، حتى يستخفوا بالنعم، وتفتر عن الخير منهم الهمم، حتى يرموا النعم في الشوارع ومواضع النفايات، وأحسنهم حالاً من يرميها في البراري والفلوات، بل نهج عباد الرحمن وسط بين أهل الشح وإخوان الشيطان، فلا يسرفون في الحلال زيادة على الحاجة مبالغة في الإكرام، ولا ينفقون شيئاً من أموالهم في الحرام، وإنما يبذلون المال في وجهه على ما توجبه شريعة الإسلام (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67].
أيها المسلمون: ومما أثنى الله به على عباده المؤمنين أنهم يعبدون الله مخلصين له الدين، بعيدين عن أوحال الشرك وإسفاف المبطلين؛ بل يخلصون لله الدعاء في حال الشدة والرخاء، ولا يلتفتون في سائر الأحوال إلى غير ذي الكرم والجلال، فلا يطلبون المدد والغوث والعون إلا من الله وحده دون من سواه؛ لعلمهم باطلاعه على الحال، ومحبته للسؤال، وكمال كرمه وغناه، وقد خاب عبد أنزل حاجته بغير ربه ومولاه.
أيها المسلمون: وعباد الرحمن كذلك ارتفعوا بأنفسهم عن الفساد في الأرض باستباحة دماء الأبرياء، أو الجناية على الناس في أعراضهم بارتكاب جريمة الزنا، فاجتنبوا هذه العظائم من الذنوب لكمال خوفهم من علام الغيوب (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) [الفرقان:68-69].
فأثنى سبحانه على عباده باجتناب هذه العظائم، فإنها أمهات الجرائم، وموجبات الإهانة في العذاب الدائم (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) [الفرقان:70-71].
فمن تاب تاب الله عليه ومن أحسن أحسن الله إليه؛ فيغفر له سالف السيئات، بل يتفضل عليه فيبدل سيئاته حسنات.
ذلكم -يا عباد الله- مسلك عباد الله الصالحين، وأوليائه المؤمنين المتقين، قول سديد وخلق حميد، وعمل صالح في مزيد (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد:17].
فما أعظم ما خصهم به مولاهم: شهد بفضلهم، وخلد ذكرهم، ورفع قدرهم، وأصلح حالهم، وأكرم مآلهم.
فاتقوا الله -عباد الله-، واقتفوا أثرهم (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام:90].
ففي اقتفاء آثار الصالحين صلاح، وفي السير على منهاجهم رشد وفلاح، وقد قام الدليل ووضح السبيل فاطلبوا أحسن المقيل (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء:69-70].
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.