الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إن مما يذهب بأمن الناس: انتشار المفاهيم الخاطئة حيال نصوص القرآن والسنة، وعدم فهمهما بفهم السلف الصالح، وهل كُفِّر الناسُ وأُريقت الدماء وقُتل الأبرياء وخُفرت الذمم بقتل المستأمنين وفُجِّرت البقاع إلا بهذه المفاهيم المنكوسة؟! فيا شباب الإسلام إياكم وهذه الدعوات الخطيرة التي تدعو إلى التكفير والتفجير.
الخطبة الأولى:
أما بعد، فيا أيها المؤمنون: إن نعم الله تعالى على خلقه لا يمكن حصرها ولا شكرها الشكر الواجب في حقها، كما قال سبحانه: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم: 34] .
ونعم الله كلها نعم عظيمة، لا يستغني عنها العبد طرفة عين، فنعمة الصحة من أعظم النعم، وبدونها لا يحس الإنسان بلذة الحياة ولا طعمها، ونعمة العقل مثلها، ونعمة الإسلام أعظم من ذلك، ونعمة الأهل والأولاد عظيمة، يعرفها من فقد ذلك، وغيرها من النعم التي لا تُحصَى، غير أن هنالك نعمة عظيمة كفَرها كثير من الخلق ولم يعرفوا قدرها إلا بعد فقدها، ألا وهي نعمة الأمن في الأوطان، التي فُقدت للأسف في كثير من بلدان المسلمين هذه الأيام، ولهذا سنتطرق -بإذن الله- إلى أهمية هذه النعمة في الحياة، وإلى سبل جلبها والمحافظة عليها.
معاشر المؤمنين: كيف هي حال إخواننا في بلاد الشام والعراق، لما نُزع الأمن منهم، ضاعت معه كل النعم، فضاعت الدنيا، وقل تطبيق الدين، وتشرد الناس، وفقدوا أموالهم وأولادهم، بل فقدوا كل معاني الحياة، لما فقدوا الأمن، وليس هذا فقط في الشام والعراق، بل في كل بلد يُنزَع منه الأمن، ومن تتبع نصوص الكتاب والسنة عرف كيف حرص الشرع على المحافظة على الأمن، فبدونه يصعب تطبيق الشرع والدعوة إليه، أقول هذا وأنا أرى من يحاول زعزعة الأمن في بلده، ولم يستفد من حال الدول حوله كيف حصل فيها الهرج والمرج، لما فقدوا الأمن.
معاشر المسلمين: إن الأمن مقدم على كل نعمة؛ لأنها لا تحصل إلا به، فإبراهيم -عليه السلام- يدعو الله أن يجعل بلده آمناً (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم: 35]، فطلب الأمن وقدمه على نفي الشرك.
ويوسف -عليه السلام- يطلب من والديه دخول مصر مخبراً باستتباب الأمن بها (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ) [يوسف: 99].
ولمَّا لقي موسى ربه، وألقى عصاه فكانت كالحية العظيمة، خاف موسى أعلمه ربه أنه من الآمنين ليهدأ رَوْعه، وتسكن نفسه، ويستطيعَ فهم الرسالة، (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) [القصص: 31].
ولما رحم النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل مكة بعد فتحها ذكّرهم بما ينالون به الأمن؛ مما يدل على أهميته لدى المؤمنين والكافرين، فقال: «من دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقَى السّلاحَ فهو آمن، ومن دخل المسجدَ فهو آمن» رواه مسلم.
أيها المؤمنون: إن العبادة لا يمكن فعلها على وجهها إلا بالأمن، فالصلاة قال الله عنها: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 238-239]. فالناس إذا خافوا صلوا صلاة الخوف، ونقصت صفتها وأركانها .
وإن انتشار الدعوة الإسلامية المباركة يكون في وقت الأمن أكثرَ من غيره من الأوقات..
قال الله –تعالى- عن موسى -عليه السلام-: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) [يونس: 83].
ولكن لما أغرق الله فرعون ودمَّر ما كان يصنعه وقومه دخل كثير من الناس في دين الله، ففي الحديث المتفق عليه من حديث ابن عباس وهو حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامه سواداً عظيماً قال: «وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ، فَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي، فَقِيلَ: هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ» رواه البخاري ومسلم.
وانظروا كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خرج إلى الحديبية كان معه خمسمائة وألف من أصحابه، فلمَّا انعقد الصُّلح وكان من بنوده: وقف الحرب عشر سنوات يأمن فيها الناس، دخل كثير منهم في دين الله، فبعد عامين وبضعة أشهر خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- لفتح مكة عشرة آلاف من المسلمين.
فمع الأمن تحصل البركة، ويعم الخير، ويعبدُ اللهُ على الوجه المطلوب شرعًا.
ولأهمية الأمن أكرم الله به أولياءه في دار كرامته؛ لأنه لو فُقد فُقِد النعيم، قال رب العالمين: (ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ) [الحجر: 46]، وقال: (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) [الدخان: 55]، وقال: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ: 37].
اللهم آمنا في دورنا وأوطاننا، أقول قولي هذا ...،
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها المؤمنون: فنعمة الأمن في الأوطان، يجب حفظها وصونها، ولها وسائل تعمل ليحصل الأمن، ويثبت، وله أسبابا بها يزول الأمن، ويحل الخوف والرعب، وهي أسباب متعاكسة..
فمن وسائل حفظ الأمن:
1/ شكر الله عليها وإدامة ذلك؛ فالنعم تثبت بالشكر وتذهب بالجحود، وفي القرآن الكريم حكاية ما قاله موسى الكليم -عليه الصلاة والتسليم- لقومه: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
وقال سبحانه: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل: 112]، قال القرطبي -رحمه الله-: "سماه لباساً؛ لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس".
وكفرهم بنعمة الله كان بعدم شكرها، واستخدامها في غير طاعة الله.
2/ ومن أسباب حصول الآمن، واستقراره: تحقيق توحيد الله تعالى:
فالتوحيد أمن في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55].
فلا أمن إلا بإقامة العبادة الخالية من شوائب الشرك؛ فلا يُدعى غير الله، ولا يُستغاث إلا بالله، ولا تُشيد الأضرحة، ولا يُطاف بها، ولا يُتبرك بترابها ... وغير ذلك من صور الشرك الأكبر المخرج عن دين الإسلام والبدع التي ما أنزل الله لها من برهان.
وأما في الآخرة فقد قال الله تعالى: (الذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، مهتدون في الدنيا، آمنون في الآخرة.
3/ ومن أسباب حصول الآمن، واستقراره: تطبيق الحدود:
فإقامة حد الحرابة والقتل أمن من إراقة الدماء، وإقامة حد الزِّنا، أمنٌ من انتهاك الأعراض، وقطع اليد أمن من انتشار السرقات فيأمن الناس على أموالهم، وحد القذف يمنع من الوقيعة بالباطل في أعراض المسلمين، فيأمن المسلم على عرضه أن يلغ فيه أحد، وحد شرب الخمر أمن من فساد المفسدين ... وهكذا.
وقد دلت السنة النبوية على ارتباط الأمن بإقامة الحدود، وتحكيم أحكام الله في عباد الله، كما أخرج ابن ماجه في سننه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ»، فيرتفع الأمن بذلك، وصدق الله إذ يقول: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [سورة الملك: 14].
4/ ومن أسباب حصول الآمن، واستقراره: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41].
5/ ومن أسباب حصول الآمن، واستقراره: نشر فهم السلف الصالح:
فإن مما يذهب بأمن الناس: انتشارُ المفاهيم الخاطئة حيال نصوص القرآن والسنة، وعدم فهمهما بفهم السلف الصالح، وهل كُفِّر الناسُ وأُريقت الدماء وقُتل الأبرياء وخُفرت الذمم بقتل المستأمنين وفُجِّرت البقاع إلا بهذه المفاهيم المنكوسة.
يا شباب الإسلام إياكم وهذه الدعوات الخطيرة التي تدعو إلى التكفير والتفجير، واعلموا أن من أعظم الواجبات الرجوع لأهل العلم الموثوق بعلمهم فيما يُشكل عليكم؛ لأن الله جعلهم هداة مهتدين.. نسأل الله أن يجتث هذه الأفكار الدخيلة من بيننا.
6/ ومن أسباب حصول الآمن، واستقراره: معاملة الحاكم بمنهج السلف، فلا يُخرج عليه، ولا يُنصح من على المنابر؛ ولا يُهمل نصحه، ولا يُترك لبطانة السوء، بل يُنصح سرًّا، فإن ترك ذلك سبب لحرمان الناس من الأمن، وإراقة الدماء، ووقوع البلابل والفتن، وأكبر شاهد لصحة هذا السبب ما نعيشه من الواقع.
اللهم وفقنا لهداك ...