المتين
كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن التربية بالأحداث مهمة جداً لتخليص النفوس من الأدران، وإعدادها للسير وفق منهج الرحمن، ولقد حرص الإسلام غاية الحرص، على أن يربي الناس بالأحداث، وكان الهدف أن تخلص النفوس لله -عز وجل-، وتظل مرتبطة به -سبحانه وتعالى- دائماً وأبداً...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، جل ثناؤه، وعظم جاهه، ولا إله غيره، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: إن الحياة كدٌّ ونصَب، وكدحٌ ووصَب، تتتابع فيها الحادثات، وتتدافع في وسطها النازلات، أحداث عظام تقهر الإنسان، وتصهر الوجدان, وتقلب الميزان، وعلى المربي البارع أن يربي الناس بالأحداث، ويستغلَّ هذا الانفعال الوجداني، والطرق على الحديد وهو ساخن، فيجعل له أثراً على النفس البشرية في تربيتها وتقويمها.
إن التربية بالأحداث مهمة جداً لتخليص النفوس من الأدران، وإعدادها للسير وفق منهج الرحمن، ولقد حرص الإسلام غاية الحرص، على أن يربي الناس بالأحداث، وكان الهدف أن تخلص النفوس لله -عز وجل-، وتظل مرتبطة به -سبحانه وتعالى- دائماً وأبداً.
ولهذا أنزل الله -جل وعلا- القرآن العظيم منجماً ومفرقاً بحسب الأحداث التي تحدث والوقائع التي تقع؛ حتى يربيهم بأحداثها ووقائعها, مع أنه -سبحانه وتعالى- قادرٌ أن يُنّزله جملة واحدة, ولكنه أراد أن يربي النفوس بآياته المطابقة للأحداث والوقائع التي كانت تقع على الأرض. (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) [الفرقان : 32].
وإذا نظرنا للمسلمين في عهديهم المكي ثم المدني، نجد أن الأحداث قد صقلتهم، وهذَّبت نفوسهم وشذَّبتها؛ فعندما كانوا يُعذَّبون ويُنكَّلُ بهم، كان باستطاعتهم دفع الأذى عن أنفسهم بأيِّ شكل كان، فالعرب كانوا أهل نخوة وعزة، يأبون الضيم، ولو جادوا بأنفسهم أجمعين, وكانوا أهل ثارات، فلقد كان بإمكان المسلمين أن يُقيموا الأحلاف، ويَقوموا باستغلال العصبية والقبلية المتجذرة في النفوس آنذاك، لكن الإسلام نهاهم عن كل ذلك، نهاهم عن القتال، ولم يأمرهم، إزاء كل هذا، إلاَّ بالصبر والاحتساب, وكيف لا يأمرهم بذلك وهو قد أتى لاستئصال الحمية القبلية والعنجهية العصبية؟.
لقد أتى الإسلام ليصهر النفوس بالأحداث لتنقاد النفوس لله وحده، فهل كانت ستكون غضبتهم تلك لله -عز وجل-، أم لدفع الأذى وردِّ الاعتبار؟ وهل سيميز أكثر الناس عقلا ماهية تلك الحرب لو قامت، أتكون حربا إلهية أم حمية وعصبية؟.
لقد أراد الله -عز وجل- أن يمحو منهم آثار الجاهلية، التي كان يقولها شاعرهم:
وهل أنا إلاَّ من غزيَّةَ؟ إنْ غوَتْ | غوَيْتُ وإنْ تًرْشَدْ غزَيَّةُ أرشَدِ |
ثم إنهم لمَّا علموا يقيناً أنهم مَنهِيُّون عن القتال، واشتدَّ بهم الأذى، رجوا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يستنصر لهم، يقول خباب بن الأرت -رضي الله عنه-: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" [البخاري (3612) ].
هكذا ربتهم الأحداث وعركتهم الوقائع وصقلتهم الأيام والليالي, فكانوا ذلك الجيل الفريد والقوم الذين لا يساويهم أحد, ولن ينال فضلهم ومرتبتهم أحد.
لقد أمرهم الله بالصلاة التي هي الصلة بينهم وبينه, وقرن ذلك بأمرهم بالصبر على أحداث هذه الحياة ووقائعها؛ ليتربوا على الصبر والمصابرة على أحداث الحياة ووقائعها: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة : 45]. ويقول -جل وعلا- مبيناً حالهم: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المزمل : 20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد :
عباد الله: لقد انتصر المسلمون في أول معركة -معركة بدر- انتصارا بيِّناً؛ إذ لا تزال التربية بالأحداث تدفعهم دفعا مستمراً نحو التجرد لله وحده، (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) [الأنفال : 7].
لم يكونوا يودون ملاقاة الطائفة القوية، ولكن الله -عز وجل- جعلها لهم ذلك ليربيهم بهذا الحدث العظيم، فذاقوا حلاوة الانتصار والطاعة، وأذاقوا أعداء الدين مرارة الانهزام والمعصية:
أَطَعْنَا رَبَّنَا، وَعَصَاهُ قَوْمٌ فَذُقْنَا طَعْمَ طَاعَتِنَا، وَذَاقُوا
وفي المعركة التالية لها، معركة أحد، كادوا أن ينهزموا لمخالفتهم أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فعلَّمَهم هذا الدرس البليغ طاعة الله ورسوله طاعة مطلَقة، وعلمهم أن الخذلان هو النتيجة الأكيدة للعصيان، (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : 152].
وتتوالى الأحداث، وتتوالى الدروس, فلما عادت نفوسهم لوضع حسابٍ للقوى المادية يوم حُنَيْن، وقالوا:(لن نُغْلَبَ اليوم من قلة)، كادوا أن يذوقوا الهزيمة، وأن يجنوا مرارة قولهم ذاك (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة : 25].
ثم كانت التربية بالأحداث للذين تخلفوا عن القتال في غزوة تبوك، (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة 81: 82].
وبعد هذه الطرقات العنيفة على الحديد ساخنا انطبع الأثر، وما عاد يتخلف أحد عن القتال. وهكذا، لم يعد الواحد منهم يحارب إلا لله، ولا يعتصم إلا بالله، ولا يستمد قوته إلا من الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يقوم ويقاتل إلا بأمر الله، ولا ينتقم إلا لله, لنتأمل هذا المشهد:
عندما سلّ علي -رضي الله عنه- سيفه لقتل عدوه، بصق ذلك العدو في وجهه، فما كان منه إلا أن أعاد سيفه، فلما قيل له في ذلك، قال: "خشيت أن أنتقم لنفسي"!. لأجل هذا فقد نصرهم الله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد : 7]، أي: إن تنصروا الله على أنفسكم، ينصركم على أعدائكم، ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج : 40], لقد نصرهم الله وأعزَّهم، وأنجز ما وعدهم، فتبوأوا في الدنيا أعظم الدرجات (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [النحل : 41].
كان هذا الكلام الذي تنزل بمكة حلما فتحقق، إذ صاروا حكاما للأرض، كل الأرض، فأقاموا دولة الحق، التي قوامها التحرُّرُ من عبودية العباد، والعدالةُ الاجتماعية التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا, ولم يكونوا ليُقيموا تلك الدولة الفاضلة لو لم يكونوا هم قد صاروا فاضلين، ربتهم الأحداث بمكة، ثم بالمدينة.
فعلينا، نحن المسلمين، أن نعي حكمة التربية بالأحداث، حتى لا تفلت حادثة بلا عبرة مستفادة، أو أثر ينطبع في النفوس.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران : 8].
(رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الممتحنة : 5].
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة : 201].