المقيت
كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...
العربية
المؤلف | فواز بن خلف الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لا تقتصر فوائد عيادة المريض على المريض وأهله، وإنما العائد أيضاً مستفيد، فكم في عيادتنا للمريض من تذكير لنا بفقرنا وحاجتنا حين نرى المريض مستلقياً في فراشه، يتقلب ألماً، ويئن وجعاً، ونحن نرفل في لباس الصحة والعافية، فإن ما ابتلي به المريض يمكن أن نبتلي به نحن، فإن الله قادر على كل شيء، وليس أحد يمتنع...
الحمد لله المتوحد بالعظمة والجلال، المنفرد بالبقاء والكمال، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل الإنعام والإفضال، وأشهد ألا إله الله وحده لا شريك له لا إله غيره هو الكبير المتعال، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله المنقذ بإذن ربه من الضلال، والداعي إلى كريم السجايا وشريف الخصال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله تنال الدرجات، وتزكوا الأعمال، واشكروه على نعمه، فبالشكر تحفظ النعم.
أيها الإخوة في الله: في الإسلام أخلاق سامية، وأقوال وأفعال حميدة، تغرس المحبة، وتورث المودة، وتوثق الروابط؛ إنها أخلاق كريمة، وهي في ذات الوقت حقوق محفوظة، عني الإسلام بها، وحث عليها، ودعا إليها، ورسم فيها حسها، وأوضح آدابها.
ومن ذلك حق المريض وعيادته؛ فإنه حق له على أصحابه، كما بين نبي الإسلام عليه من ربه أفضل صلاة وأزكى سلام.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حق المسلم على المسلم ست" قيل: ما هن يا رسول الله قال : "إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه ".
ولقد كان من أدب السلف –رضوان الله عليهم– إذا فقدوا أحداً من إخوانهم سألوا عنه، فإن كان غائباً دعوا له، وخلفوه خيراً في أهله، وإن كان حاضراً زاروه وإن كان مريضاً عادوه.
يقول الأعمش رحمه الله: "كنا نفقد في المجلس فإذا فقدنا الرجل ثلاثة أيام سألنا عنه، فإن كان مريضاً عدناه".
وفي عيادة المريض –أيها الأخوة– ينجلي سمو الخلق، وحفظ الحق حين يكون أخوك في حالة من العجز، وفي انقطاع عن مشاركة الأصحاب حبيس المرض مقيد الفراش.
فعيادته تخفيف عنه، وتسلية وإيناس لقلبه، وإزالة لوحشته، كما أن فيها تذكير له بالصبر، وعدم الجزع على ما فاته، وإصلاح ما انهدم من نفسه، فقد يحصل مع تحطيم النفس واليأس من إلغاء تمكن للشك، ووجود تسخط على الله، وبغض لقضائه وقدره، مما قد يزيل الإيمان في نفس هذا المريض، فيخسر الدنيا والآخرة.
فيعاد ليذكر بالله تعالى، وبالصبر والاحتساب.
كما أن في عيادة المريض قيام بحقوقه، فقد يكون معيلاً لأسرة وأبناء، أو ينفق على والدين كبيرين، فمن واجب أخوة الإسلام مواساته في مصابه، بأن يقف إخوانه إلى جواره، يخففوا من آلامه وأحزانه، بتحمل شيء من متطلبات الحياة، وتكاليف المرض، ورعاية الذرية والولد.
ولا تقتصر فوائد عيادة المريض على المريض وأهله، وإنما العائد أيضاً مستفيد، فكم في عيادتنا للمريض من تذكير لنا بفقرنا وحاجتنا حين نرى المريض مستلقياً في فراشه، يتقلب ألماً، ويئن وجعاً، ونحن نرفل في لباس الصحة والعافية، فإن ما ابتلي به المريض يمكن أن نبتلي به نحن، فإن الله قادر على كل شيء، وليس أحد يمتنع عن الله وقدره وبلائه، نسأل العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة لنا ولكم ولجميع المسلمين.
معاشر الصالحين: إن في توجيهات المصطفى صلى الله عليه وسلم حث عظيم على حفظ حق المريض، ومراعاة آدابه.
ففي مسند الإمام أحمد عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم، لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" قيل: يا رسول الله، وما خرفة الجنة؟ قال: "جناها" أي ثمارها وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل يوم القيامة: "يا أبن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده" [رواه مسلم].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث صحيح-: "ما من مسلم يعود مسلماً غدوة، إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح وكان له خريف من الجنة".
وفي الموطأ والمسند والبزار وابن حيان في صحيحة عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عاد مريضاً لم يزل يخوض في الرحمة حتى يرجع، فإذا جلس اغتمس فيها ".
وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً: "من عاد مريضاً ناداه مناد من المساء: طبت وطاب ممشاك. وتبوأت من الجنة منزلاً".
وعن هارون بن أبي داود قال: أتيت أنس بن مالك فقلت: يا أب حمزة، إن المكان بعيد، ونحن يعجبنا أن نعودك فرفع رأسه فقال: سمعت رسول الله يقول: "أيما رجل يعود مريضاً فإنما يخوض في الرحمة فإذا قعد عند المريض غمرته الرحمة" قال: فقلت يا رسول الله، هذا للصحيح الذي يعود المريض، فالمريض ماله؟ قال: "تحط عنه ذنوبه".
فما أعظمه من فضل وأجر، وما أوسعه من باب للخير والتقرب إلى الله، والخوض في رحمته.
عباد الله: ولعيادة المريض آداب ينبغي أن تراعى عند زيارته منها:
أن يلتزم الزائر بالآداب العامة للزيارة، كأن يدق الباب برفق، وأن لا يبهم نفسه، وأن يغض بصره، وألا يقابل الباب عند الاستئذان.
ومن الآداب: أن تكون العيادة في وقت ملائم، فلا تكون في وقت الظهيرة صيفا، ولا في شهر رمضان نهاراً، قال المروذي: عدت مع أبي عبد الله –يعني الإمام أحمد– مريضاً في الليل، وكان في شهر رمضان، ثم قال لي: "في شهر رمضان يعاد المريض في الليل".
ومن آداب العيادة: أن يدنو العائد من المريض، ويجلس عند رأٍسه، ويضع يده على جبهته، ويسأله عن حاله، وعما يشتهيه، فإن هذا يخفف عن المريض.
قال الشافعي رحمه الله:
مرض الحبيب عن المريض | فمرضت من حذري عليه |
فأتى الحبيب يعودني | فشفيت من نظري إليه |
ومن الآداب: أن يضع يده على رأسه أو على مكان الألم، ويقول: "لا بأس طهور أن شاء الله".
فقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
وكان يعود بعض أهله ويمسح بيده اليمني تقول عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضا ًيضع يده على المكان الذي يألم، ثم يقول: بسم الله".
وينبغي أن يجتهد العائد للمريض في الدعاء؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات: اسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض" [رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني].
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء الرجل يعود مريضاً فليقل: اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدواً أو يمشي لك إلى جنازة".
وفي رواية: "أو يمشي لك إلى صلاة".
وقد عاد جبريل نبينا صلى الله عليه وسلم لما سُحر، وقال: "بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك" [رواه مسلم].
ومن الآداب المرعية: ألا يطيل الزيارة، ولا يثقل بكثرة المسألة، وإطالة الحديث، ولا يذكر للمريض ما يحزنه، أو يزيده وجعاً إلى وجعه، ولا يذكر له صديقاً بما يكره، أو عدواً له بما يحب، ولا يتحدث عن أهله وأولاده إلا بكل خير، رفقاً به وملاطفة له.
فإن في الإطالة على المريض إثقالاً عليه، ومنعاً له من تصرفات قد يحتاج إليها، فعيادة المريض خفيفة، بخلاف زيارة الصحيح فإنها قد تطول.
دخل رجل على عمر بن عبد العزيز يعوده في مرضه، فسأله عن علته فأخبره، فقال الزائر: إن هذه العلة ما شفي فيها فلان، ومات منها فلان، فقال عمر: إذا عدت مريضاً فلا تنع إليه الموتى، وإذا خرجت عنا فلا تعد إلينا أبداً!.
يقول سفيان الثوري رحمه الله: "حماقة العائد أشر على المرضى من أمراضهم، يجيئون في غير وقت، ويطيلون الجلوس".
ومن الآداب: أن تكون الزيارة غباً، أي يوماً بعد يوم، وربما اختلف الأمر باختلاف الأحوال سواء للعائد أو المريض، فإذا استدعت حالة المرض زيارته يومياً فلا بأس إذا لم يكن ذلك مثقلاً عليه، وكان يرتاح لذلك ويفرح.
لا تُضجرن عليلاً في مساءلة | إن العيادة يومٌ بين يومين |
بل سله عن حاله وادع الإله له | واجلس بقدر فواق بين حلبين |
من زار غباً أخاً دامت مودته | وكان ذاك صلاحاً للخليلين |
من الآداب: ألا يقول الزائر عن المريض إلا خيراً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: "إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون".
ومن الآداب: أن يناصح المريض، ويذكّر بالله عز وجل، وبالتوبة والاستغفار، والوصية، وينهي عما هو عليه من ظلم أو منكر ومعصية؛ لأن المريض في حال مرضه أقرب ما يكون إلى ربه، والتوبة إليه.
كان الحسن رحمه الله: "إذا دخل على مريض قد عوفي، قال له: يا هذا إن الله قد ذكرك فاذكره، وأقالك فاشكره".
وإذا يئس العائد من حال المريض: ذكّره بالله، ورغبه فيما عنده، وحسّن ظنه بربه، وإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
وأن من كان آخر كلامه: لا اله إلا الله دخل الجنة، ويفتح له أبواب الرجاء والمغفرة، ويرغبه في الذكر والقراءة، والتسبيح والاستغفار، وكل ما يقرب إلى الله.
لما طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل يألم، فقال له ابن عباس -وكان يجرعه-: يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك -يعني الموت- لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر، فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، فقال عمر: "أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه، فإنما ذاك من الله تعالى منَّ به تعالى علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه، فإنما ذلك من الله عز وجل ذكره، منَّ به علي، وأما ما ترى من جزعي، فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا، لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه" [رواه بالبخاري].
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحفظوا لإخوانكم حقوقهم، قوموا بها على وجهها، راعوا آدابها، وحققوا مقاصدها يعظم الأجر، ويصلح الشأن، ويفش الخير وتسود المودة.
اللهم أغفر ذنوب المذنبين، وتب على التائبين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين.
أقول قولي هذا.
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه، والشكر له.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن زيارة المريض مستحبة، ولو كان مغمى عليه، ولو كان من وجع بسيط، فقد زار النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه جابر بن عبد الله ووجداه مغمى عليه؛ فعن جابر رضي الله عنه: عادني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سليمة ماشيين، فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ منه، ثم رش علي فأفقت، فقال: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ )[النساء:11][رواه البخاري].
ففي مثل زيارة المغمى عليه جبر لخاطر أهله، مع ما يرجى من إجابة الدعاء.
والزيارة مستحبة للرجال والنساء والأطفال، بل حتى للأعراب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور الأعراب يتألفهم ويدعوهم ويذكرهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده قال له: "لا باس طهور إن شاء الله" قال: قلت طهور، كلا بل هي حمي تفور – أو- تثور، على شيخ كبير، تُزيره القبور. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فنعم إذاً" [رواه البخاري].
وفي البخاري أيضاً من حديث زيد بن أرقم قال: "عادني رسول الله من وجع كان بعيني".
وتجوز عيادة المسلم للكافر والمشرك والفاسق بشرط: إذا رجي من زيارته مصلحة، أو دخول في الإسلام، أما إذا لم يطمع في ذلك فلا يزار، فقد زار النبي صلى الله عليه وسلم غلاماً يهودياً مرض فدعاه إلى الإسلام، فأسلم الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار".
ثم اعلموا -أيها الإخوة- أن المريض يشعر ويتأثر بعيادة أصحابه وأقاربه، وقد يفتقدهم فيتألم لذلك، وقد يسأل عن إخوانه وأحبابه إذا لم يعوده، فهذا قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنها مرض فاستبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم، فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: "أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة" ثم أمر منادياً ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل، فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه؛ لكثرة من عاده، فالمريض يفرح بالزيارة، ويأنس بها ولا يدرك.
ومما ينبه إليه في هذا المقام: أن بعض الناس يثقلون على أنفسهم، فيحملون إلى المريض هدايا وغيرها، وهي إن كانت حسنة وطيبة إلا أن بعض الناس إن لم يتيسر له الهدية لم يزر مريضا.
وقد يحملون أموراً من عادات غير أهل الإسلام؛ كالزهور ونحوها، وهذا البعض ليس من آداب الزيارة، بل هو تكلف ظاهر، ومجاملات ثقيلة، وتقليد أعمى، بل قد يدفع هذا الفعل من لا قدرة لهم إلى التقاعس عن الزيارة الشرعية التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وحاجة المريض إلى الدعاء، والتصبير، والكلمات الطيبة أولى من هذه المحمولات، فالتزموا هدي نبيكم، فهو أقوم وأكمل وأسلم نهج.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات..
دعاء.