الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن المجتمع الإسلامي يُشَرِّبُ أبناءه القيم الحقَّةَ عن طريق القدوة، بدء من الأسرة التي هي لَبِنَتُه، فلا يمكن لولد رأى أباه مستمرئاً الكذب أن ينشأ صادقاً، ولا لولد رأى أمه تغش أباه أو تغشه هو أن ينشأ أميناً، ولا لمن رأى أمه مستهترة أن يتعلم الفضيلة، ولا لمن نشأ في جوٍّ من القسوة أن يتعلم الرحمة والتعاون...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً.
أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وقدوة لجميع الخلائق على علم وبصيرة، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعينا عمياً، وآذانا صماً، وقلوباً غلفاً، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه حتى أتاه اليقين من ربه، صلى عليه وعلى آله وسلم تسليماً.
أما بعد:
عباد الله: إننا لنحمد الله -عز وجل- أن جعل لنا أسوة حسنة لا تزال بيننا حية، حية خالدة بسيرتها العاطرة، وأحاديثها الساحرة، وروحانياتها الغامرة؛ قال الله -عز وجل-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب : 21]. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- نور متلألئٌ وضَّاء، يكشف عن سبيل الحق، فلا يتخبط فيه سائر، ولا يتعثر فيه عاثر.
وهو-صلى الله عليه وسلم- آية من آيات الله، وعجيبة من عجائبه، إذ إن ما أسداه للإنسانية، أشد رسوخاً وأبقى، وأعظم أثرا, وأربى مما أسداه لها المصلحون مجتمعين, ولم يكن ليفعل كل ذلك لو لم يكن من الله مؤيداً، وبه مُسدَّداً, ولم يكن ليفعل كل ذلك لو لم يكن الله -عز وجل- هو الذي أدّبه، فأحسن تأديبه، ورباه، فأحكم تربيته, وهو وإن بلغ من صفات العَالَمِ الإنساني تمامها إلا أنه منا نحن البشر.
وليس على الله بمستغرب أن يجمع العالم في واحد
إنه من أنفسنا، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : 128]؛ فعلينا أن نقتبس منه ونقتدي به، كل بحسب حاله ومجاله، وبقدر طاقته واحتماله، فقد اجتمعت في شخصه الكريم شخوص متفرقة، في تناسق واتزان واتفاق، فقد كان المعلم المربي، والحكيم المتفرس، والقائد العسكري المتمرس، والجندي الشجاع، الذي يتقي به الشجعان إذا اشتد البأس واحْمَرَّت الحِدَق، كما روى البراء بن عازب وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-.
وهو رجل الدولة الذي رسم سياساتها الاجتماعية والاقتصادية والقانونية, ومع هذا كله؛ فقد كان رب أسرة رفيقاً، وصديقا حانيا رقيقاً؛ فضلاً عن أنه كان أعبد الناس لله -عز وجل-, ولقد صنع الله تعالى به أمة من فتات متناثر، فصارت طَوْداً راسخاً باذخاً شامخاً.
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المثال الذي به يُحْتَذَى، والقدوة التي بها يُقْتَدَى، وما فعل أصحابه الكرام الأعاجيب، وما صنعوا التاريخ إلا حينما رأوا القرآن الكريم حياً متمثلاً شاخصاً أمامهم في شخصه.
ولقد قالت عائشة -رضي الله عنها-ـ لما سئلت عن أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان خلقه القرآن" [أحمد (25939) ], عبارة وجيزة بليغة, بينت لنا تحول نور القرآن الكريم إلى نور بشري، (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة 15: 16] (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : 157], ولما اقتدى به الصحابة -رضوان الله عليهم- نشروا الحق والعدل في أرجاء الأرض، التي كانت غابة؛ القوي فيها آكل، والضعيف مأكول، فصارت جنة فسيحة رحبة، يعيش المرء فيها بين نفوس وقلوب، لا بين مخالب ونيوب:
إن الرسول لَنورٌ يُسْتَضاءُ به | مُهَنَّدٌ من سُيوف الله مسلولُ |
زالوا، فما زال أنْكاسٌ ولا كُشُفٌ | عند اللقاء، ولا مِيلٌ مَعازيل |
لقد كانت قراءة سيرته العاطرة سبباً للاقتداء به والاهتداء بهديه من قبل الكثيرين للإسلام، منهم الأستاذ الجامعي، والطبيب، والمؤرخ، وحتى أولئك الذين لم يسلموا لله من الأفذاذ المُشَهَّورين، كبرنارد شو، وجوته، أعلنوها صريحة مدوية: "إن أعظم شخصية عرفتها الدنيا هي شخصية محمد، ولو أن العالم اليوم احتكم إلى الإسلام لصار في أحسن حال" هكذا قالوا، وهكذا ينبغي أن يقولوا.
وإنه لمن دواعي الألم والحزن أن أمتنا -نحن المسلمين-، التي اختارها الله تعالى لتكون قدوة للأمم، ونبراسا للشعوب، قد ارتكست وانتكست، فبدلاً من أن تقود الأمم وتخرجها إلى الخير والهدى والنور، طمعوا هم في جرها نحو الشر والضلالة والظلمات؛ وبدلا من أن نجعلهم يتأسون بنا، ويقتبسون من نورنا، الذي نستمده من كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، صنعوا لنا قدوات من أهل اللهو واللعب يتبعها منا كل ذي عقل فارغ، وقلب خاوٍ، حتى أصبح كثير من الناس رِعاءً رِعاعاً، تستفزهم أي فكرة مهما كانت ذات رعونة، ومهما انطوت عليه من عفونة.
إذا كان الغرابُ دليلَ قومٍ | يحُومُ بهم على جِيَفِ الكِلابِ! |
ولكأني بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد تحقق: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ" [ البخاري (3456) مسلم (2669)] .
إن إعجابنا بشخص نبينا الكريم لا ينبغي أن يكون إعجاباً سالباً، بل ينبغي علينا المسارعة في الاقتباس من نوره الكريم، إذا أردنا أن نخرج من هذا الدرك السحيق، ونحتل مكاننا المرموق السامي الذي قدره الله تعالى لنا (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران : 110].
إن الإسلام لم ينتشر في كثير من بقاع المعمورة بسيف سلط على الرقاب، بل بقدوات صالحة، إذ رأى الناس الصدق والخير في المسلمين، فسلكوا سبيلهم، فكان المسلمون النبراس الذي أضاء طريق أولئك، نبراس استمد نوره من نور الرسول -صلى الله عليه وسلم -.
إن إعجابنا بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وحبنا له، ينبغي أن يتمثل في طاعته، واتباع سنته، وقديما قالوا :إن المحب لمن يحب مطيع, وبهذا يملك الشخص زمام نفسه، ويتحول لقدوة، ولنور ساطع يهتدي به من حوله
إن مَن ساق نفسه لهداها | لَبَعيدٌ حَقَّاً عن الشيطانِ |
وسيدْعُو لِلدِّين منه سُلوكٌ | وَلَئنْ لم يكن له مِن لسان |
فعلى كل منا أن يضع نصب عينيه حقيقة أنه ينبغي أن يكون قدوة لغيره، حسب مكانه وقواه، قدوة لأبنائه، وطلابه، ومن حوله, أن يجاهد نفسه ليكون ريحانة يتنسَّم مَن حوله عبيرها، ونسمة لطيفة رقيقة تروِّح عنهم، ويصير كأنه المعني بقول الشاعر:
لقد كان كالشمس المضيئة إذ له | ضياء ودفء للورى حين يشرق |
لقد كان كالدوح الظليل به لنا | عطاء ورَوح حين يزهو ويونق |
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [الممتحنة : 6]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.أما بعد:
أيها الناس: إن المجتمع الإسلامي يُشَرِّبُ أبناءه القيم الحقَّةَ عن طريق القدوة، بدء من الأسرة التي هي لَبِنَتُه، فلا يمكن لولد رأى أباه مستمرئاً الكذب أن ينشأ صادقاً، ولا لولد رأى أمه تغش أباه أو تغشه هو أن ينشأ أميناً، ولا لمن رأى أمه مستهترة أن يتعلم الفضيلة، ولا لمن نشأ في جوٍّ من القسوة أن يتعلم الرحمة والتعاون, ومن ثَمَّ ينبغي أن تكون الأسرة نظيفة مسلمة، حتى ينشأ جيل نظيف مسلم، أخذ مبادئ الإسلام بالقدوة المباشرة، التي استمدها أبواه من قدوة رسولنا الكريم، -صلى الله عليه وسلم-.
هل سمعتم بقصة الطاووس المختال:
مَشَى الطَّاووسُ يَوْماً باخْتِيالٍ | فَقَلَّدَ شَكْلَ مِشْيَتِهِ بَنُوهُ |
عَلامَ تَخْتَالونَ؟ قالوا | بدَأتَ به ونحن مُقَلِّدُوه |
فخالِفْ سَيْرَكَ المُخْتال واعْدِلْ | فإنَّا إنْ عَدَلْتَ، مُعَدِّلُوه |
وَيَنْشَأُ ناشِئُ الفِتْيَانِ مِنَّا | على ما كان عوَّدَه أبُوه |
لقد حاجَّ هؤلاء الفتيان أباهم، لأن النفوس توَّاقة إلى الاقتداء، ميَّالة إلى التأسي بالغير، لهذا وجب على كل ناصح أن يبدأ بنفسه، مترجماً قوله إلى سلوك، وأن يحول أفكاره إلى عمل، وإلاّ لظل فكره سطوراً تكتب، وأحاديث تروى، بل قد يتشكك العوام والدهماء، فيظنون أن الحق مستحيل التطبيق.
ويصبح الأمر كارثة حقيقية، وطامة كبرى، إذا خالف قولُ الناصح فعلَه:
والعلم ما لم تَكْتَنِفْهُ شمائلٌ | تُعْلِيهِ كان نهايةَ الإملاقِ |
فإذا نهى امرؤ الناس عن أمر، ثم خالفهم إلى ما نهاهم عنه، ألصق بنفسه شناراً مقيماً، وألحق بها عاراً عظيماً.
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثْلَهُ | عارٌ عليك، إذا فعَلْتَ، عظيمُ |
إنه لجدير بنا أن نشكر لربنا، وأن نتفكر في نعمه الضخام، وآلائه العظام، إذ اختارنا له عبيداً، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران : 110].
لقد أكرمنا الله -نحن المسلمين- بأن جعلنا للناس قدوة، وجعلنا أمة وسطاً عدولاً ( لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) [البقرة : 143] هذا ما ينبغي أن نكون عليه، فالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، تركنا على محجة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولم يزل -صلى الله عليه وسلم- حيا بيننا بسنته وهديه. يقول الله -عز وجل-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب : 21].
فعلينا إذا أردنا أن نحقق فلاحا، أو أن نصيب نجاحا، أن نستمسك بسنته، ونقتدي به، ونتشبه بأخلاقه وسمته -صلى الله عليه وسلم-. (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران : 164]. (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) [الأحزاب : 43].
اللهم صل وسلم وبارك على رسولك الذي أرسلته رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.