الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | عبدالله بن حسن القعود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
هناك خصلتان ذميمتان خطيرتان على من لم يحذرهما, تلاحقان الإنسان ملاحقة شديدة حتى في الأحوال التي تشيب فيها منه اللمة, وتضعف الهمة, ويدني فيها من انتهاء العمر وزيارة القبر، خافهما صلى الله عليه وسلم على أمته, وحذرها منهما بأسلوب الإخبار المتضمن للإنذار...
الخطبة الأولى:
الحمد لله
أيها الأخوة المؤمنون: هناك خصلتان ذميمتان خطيرتان على من لم يحذرهما, تلاحقان الإنسان ملاحقة شديدة حتى في الأحوال التي تشيب فيها منه اللمة, وتضعف الهمة, ويدني فيها من انتهاء العمر وزيارة القبر، خافهما صلى الله عليه وسلم على أمته, وحذرها منهما بأسلوب الإخبار المتضمن للإنذار, ألا وهما الحرص وطول الأمل. الحرص على المال والحرص على العمر والحرص على الشرف, الحرص المفقر لأهله مهما ملكوا من أمر أو جمعوا من حطام، والأمل المتعب لهم والسارح بهم في خيالات يكون الأجل إليهم فيها أقرب من تحقق الأمل. يقول صلى الله عليه وسلم: "يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان: الحرص على المال, والحرص على العمر" رواه مسلم. ويقول: "يهرم ابن آدم ويبقى معه اثنتان: الحرص والأمل" رواه أحمد. ويقول: "ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم, بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" رواه أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان.
ومدار هذه الإخبارات بجانب ما تقرره من صدق صاحب الرسالة -صلوات الله وسلامه عليه- مخاطبة ذوي القلوب الواعية, والنفوس والآمال المتطلعة إلى ما عند الله أن يبذلوا جهدهم في تحرير عقولهم, ورسل نفوسهم من هذه الأدواء الفتاكة، داء الحرص على المال والشرف الذي يطوق الرقاب ويسترق الألباب، وقديماً قيل: "أذل الحرص أعناق الرجال" وداء طول الأمل السراب المبلقع الذي طالما قطع الطريق على أهله وحال بينهم وبين ما يشتهون.
ومثل هذا الأسلوب الراقي في بلاغته وعظته ومخاطبته للقلوب قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم" قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟" أخرجاه واللفظ لمسلم. وما ورد في معناه مما يتضمن الإخبار والإنذار، الإخبار بوقوع هذه الأشياء والإنذار من الوقوع فيها عندما يتداعى إليها ضعفاء الأبصار والبصائر تداعي الفراش على النار.
وبتأمل نصوص الشريعة الغراء نجد أنها نهت عن التركيز على الحرص على الدنيا وما فيها من وجاهة أو رئاسة أو تطلع لكثرة مال أو طول عمر، وذكرت ما ينبغي للمسلم أن يحرص عليه ويهتم به ويستكثر منه ويبادر إليه, خذوا مثلاً قول الله سبحانه وتعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:14-15]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع" رواه البخاري.
كما نهت عن طول الأمل ولا سيما المتضمن لتأخير الأعمال الصالحة وضياع الحقوق الواجبة, بذكر وتصور حال من وقعوا في هذا الأمر, فندموا حين لا ينفع الندم. قال تعالى: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر:56-58]. وقال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون:99-100] وقال: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) [المنافقون:10-11] وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- في بيان حال من سبقه ويسبقه الأجل قبل الوصول للأمل, ما رواه البخاري وغيره عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: خط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطاً مربعاً وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خطوطاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط فقال: "هذا الإنسان وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطوط الصغار الأعراض, فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا". وفي رواية: وخط آخر بعيداً عنه وقال: "هذا الأمل فبينما هو كذلك إذ جاءه الأقرب".
وإن ما تعالج به الأمور في النفوس ويعين على التخلص منها أن يتذكر الإنسان دوماً قول الله سبحانه: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان:34]، وقوله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف:34] وقوله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا ذكر هادم اللذات: الموت" رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان، وقوله: "ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" وأن يكون لهذا التذكر أثرا يتحقق به ما أمرنا الله ورسوله به, من المبادرة بالأعمال الصالحة والمسارعة والمسابقة بها والتنافس فيها لقوله: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة:148] وقوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133] وقوله صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم, يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، ويبيع دينه بعرض من الدنيا" رواه مسلم. وقوله: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك. وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" رواه الحاكم. وقال: صحيح على شرطهما. وقوله لابن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب, أو عابر سبيل" وكان ابن عمر -رضي الله عنه- يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لسقمك ومن حياتك لموتك".
وأن يكون المرء على حال يجب أن يلقى الله عليها فيما لو وافته المنية في لحظته تلك. قال ابن عمر -رضي الله عنه-: "ما مضت عليّ ليلتان بعد أن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: : "ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" ألا ووصيتي مكتوبة عندي.
ولما تولى عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- وخطب خطبة الخلافة ذهب يتبوأ مقيلاً فأتاه ابنه عبد الملك، فقال: "يا أمير المؤمنين، من لك أن تعيش إلى الظهر، قال: "ادنُ مني أي بنيّ, فدنا منه فالتزمه وقبّل بين عينيه، وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني"، فخرج ولم يقل وأمر منادياً له أن ينادي: "ألا من كانت له مظلمة فليرفعها".
فيا أخوة الإسلام, ويا شباب الإسلام: انهجوا نهج من تلقوا الكتاب والسنة بقلوب واعية, وعزائم صادقة وآمال وأعمال, تؤهل أهلها -بفضل الله- أن يكونوا ممن قال الله فيهم: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل:32].