المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | عبد الله اليابس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الحج |
لما كان الله -سبحانه وتعالى- قد فطر قلوب عباده على حب بيته, وليس كل أحد قادرًا على زيارته كل عام, فرض الله -تعالى- على المستطيع الحج مرة واحدة في العمر, وقد شرع الله -تعالى- أعمالاً من قام بها مستحضرًا صالح النية ،كتب له من الأجر ما يماثل أجر الحاج والمعتمر.. وفي هذه الخطبة -بإذن الله تعالى- نتناول شيئًا من هذه الأعمال التي ينال بها فاعلها أجر الحج أو العمرة.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: سبحان من جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمنًا, يترددون إليه, ويرجعون عنه, ولا يرون أنهم قضوا منه وطرًا.
لقد أضاف الله -تعالى- البيت لنفسه.. (بيت الله).. فتعلقت قلوب المحبين ببيت محبوبهم, فكلما ذكر ذلك البيت حنّوا, وكلما تذكروا بعدهم عنه أنّوا.
يحق لمن رأى الواصلين وهو منقطع أن يقلق, ولمن شاهد السائرين إلى دار الحبيب وهو قاعد أن يحزن.
ألا قل لزوار دار الحبيب | هنيئًا لكم في الجنان الخلودُ |
أفيضوا علينا من الماء فيضًا | فنحن عطاش وأنتم ورودُ |
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. لما كان الله -سبحانه وتعالى- قد فطر قلوب عباده على حب بيته, وليس كل أحد قادرًا على زيارته كل عام, فرض الله -تعالى- على المستطيع الحج مرة واحدة في العمر, وقد شرع الله -تعالى- أعمالاً من قام بها مستحضرًا صالح النية ،كتب له من الأجر ما يماثل أجر الحاج والمعتمر.
وفي هذه الخطبة -بإذن الله تعالى- نتناول شيئًا من هذه الأعمال التي ينال بها فاعلها أجر الحج أو العمرة.
فأول هذه الأعمال ما رواه الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء الفقراءُ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقالوا : ذهب أهلُ الدُّثورِ منَ الأموالِ بالدرجاتِ العُلا والنعيمِ المقيمِ؛ يُصلّون كما نُصلّي، ويصومونَ كما نصومُ، ولهم فضلٌ من أموالٍ يحجُّونَ بها ويعتمِرونَ، ويُجاهدونَ ويتصدَّقونَ".
قال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أُحدِّثُكمْ بأمرٍ إن أخذتُمْ بهِ، أدركْتُم مَن سبقَكمْ، ولمْ يدرككُمْ أحدٌ بعدَكُم، وكنتُمْ خيرَ مَنْ أنتمْ بينَ ظهرانَيهِ، إلا مَن عملَ مثلَهُ؟ تُسبِّحونَ وتحمدونَ وتكبِرونَ، خلفَ كلِّ صلاةٍ، ثلاثًا وثلاثينَ".
قال أبو هريرة: فاختلفْنا بيننا، فقال بعضُنا: نسبحُ ثلاثًا وثلاثينَ، ونحمدُ ثلاثًا وثلاثينَ، ونكبِّرُ أربعًا وثلاثينَ، فرجعْتُ إليهِ، فقال: "تقولُ سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، واللهُ أكبرُ، حتى يكون منهنَّ كلُّهنَّ ثلاثًا وثلاثينَ".
نعم.. هكذا لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- تأسف فقراء الصحابة وحزنهم على ما فاتهم من إنفاق إخوانهم الأغنياء أموالهم في سبيل الله وابتغاء مرضاته, فطيّب النبي -صلى الله عليه وسلم- قلوبهم, ودلّهم على عمل يسير يدركون به مَن سبقهم, لا يلحقهم أحد بعدهم إلا مَن عمل مثل عملهم, ألا وهو الذكر بعد الصلاة من التسبيح والتكبير والتحميد.
لكن سمع الأغنياء بذلك ففعلوا مثله, فتساوى حينئذ الفقراء والأغنياء في هذا الذِّكر, فرجع الفقراء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: "سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله" -وكأنهم يريدون شيئًا آخر يختصون به-ـ, فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".
تأمل يا محب .. كيف جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- أجر قائل هذا الذِّكر المواظب عليه ينال به أجر مَن له مال يحج به ويعتمر, ويجاهد ويتصدق.. إنه ذكر الله تعالى, (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب: 41- 42].
جاء في الحديث عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذِكر الله", قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "ما شيء أنجى من عذاب الله من ذِكر الله".
ذكرتك يا سؤلي وغاية مقصدي | وأنت لنا يا سيدي خير ذاكر |
فجد بقبول منك أرجو به المنى | فذكرك في قلبي وسري وخاطري |
لقد جعل الله -تعالى- لمن يكثر من ذكر الله -تعالى- عظيم الأجر (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35], وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله -تعالى- فيها".
بذكر الله ترتاح القلوب | ودنيانا بذكراه تطيب |
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. ومن الأعمال التي ينال بها أجر الحج والعمرة صلاة الضحى. فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس, ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة".
وقد سُئل جابر بن سمرة -رضي الله عنه-: "أكنتَ تجالس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم كثيرًا، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس, فإذا طلعت الشمس قام, وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم".
فلا تنس تسبيح الضحى إن يوسفًا | دعا ربه فاختاره حين سبّحا |
ومن الأعمال التي يلحق فاعلها بالحاج والمعتمر المشي إلى المساجد:
روى أبو داود عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من خرج من بيته متطهرًا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم, ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا يُنصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر".
إن خروج المسلمين متطهرين من بيوتهم إلى بيت الله -تعالى- لأداء صلاة الجماعة في وقت واحد, يشبه خروج الحجيج من بيوتهم متوجهين بأبدانهم وقلوبهم إلى البيت العتيق لأداء مناسك الحج, وهؤلاء وهؤلاء ضيوف الله -تعالى- ووفده, روى عمرو بن ميمون الأزدي قال: أدركت أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقولون: "إن المساجد بيوت الله في الأرض, وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها".
لله قوم شروا لله أنفسهم | فأتعبوها بذكر الله أزمانا |
أما النهار فقد وافوا صيامهم | وفي الظلام تراهم فيه رهبانا |
أبدانهم أَتعبت في الله أنفسهم | وأنفسٌ أَتعبت في الله أبدانا |
ذابت لحومهمُ خوف العذاب غدًا | وقطعوا الليل تسبيحًا وقرآنا |
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض, وجعل الظلمات والنور, ثم الذين كفروا بربهم يعدلون, أحمده -تعالى- وأشكره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, بعثه الله رحمةً للعالمين, بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا, فبلغ الرسالةَ أحسنَ البلاغ, وأدى الأمانة أتم الأداء, وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين, فصلى الله عليه وسلم, وعلى آله وأصحابه, وعلى سائر عباد الله الصالحين.
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ -تعالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. ومن الأعمال التي يلحق فاعلها بالحاج والمعتمر: بر الوالدين.
فقد جاء في الحديث عن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قال: أتى رجل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه, فقال -صلى الله عليه وسلم-: "هل بقي من والديك أحد؟" قال: أمي, فقال -صلى الله عليه وسلم-: "قابل الله في برها, فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد" أورده المنذري في الترغيب والترهيب وإسناده جيد.
الله أكبر .. حاج ومعتمر ومجاهد مَن يَبَرُّ والديه, فيا مَن لا تستطيع الحج والعمرة؛ إن برّك بوالديك يوصلك -بإذن الله- إلى ثواب مَن خرج إلى الحج والعمرة.
إن بر الوالدين سببٌ من أسباب زيادة الرزق وذهاب الفقر, وكذلك الحج فإنه سبب من أسباب ذهاب الفقر وزيادة الرزق, فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من سره أن يمد له في عمره, ويزاد له في رزقه, فليبر والديه, وليصل رحمه".
وفي الحج يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "تابعوا بين الحج والعمرة, فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة, وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة".
إن الله -تعالى- يقول: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الأنعام: 151], فقرن الله -تعالى- حقه بحق الوالدين, ليدل على عظيم حقهم، وأنه يأتي بعد حقه -سبحانه وتعالى-.
وجاء في الحديث الصحيح عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟" قالوا: بلى يا رسول الله, قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين".
أيها الحبيب.. والداك هما جنتك ونارك, فإن أطعتهما كانا سببًا في دخولك الجنة, وإن عصيتهما كانا سببًا في دخولك النار.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. يقول ابن رجب الحنبلي -رحمه الله تعالى-: "إخواني.. إن حُبستم العام عن الحج فارجعوا إلى جهاد النفوس فهو الجهاد الأكبر, أو حُصرتم عن أداء المناسك فأريقوا على تخلفكم الدموع ما تيسر, فإن إراقة الدماء لازمة للمُحصَر, ولا تحلقوا رءوس دينكم بالذنوب, فإن الذنوب حالقة الدين ليست حالقة الشعر, ومن كان قد بَعُدَ عن حرم الله فلا يبعد نفسه بالذنوب عن رحمة الله, فإن رحمه الله قريب ممن تاب إليه واستغفر, ومن عجز عن حج البيت أو البيتُ منه بعيد, فليقصد رب البيت فإنه ممن دعاه ورجاه أقرب من حبل الوريد, ومن فاته في هذا العام القيام بعرفة, فليقم بحق الله الذي عرفه, ومن عجز عن المبيت بمزدلفة, فليبيت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه, ومن لم يقدر على ذبح هديه بمنى, فليذبح هواه هنا وقد بلغ المنى", أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:21].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. اعلموا أن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فاللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك, وهيء لهم البطانة الصالحة الناصحة, واصرف عنهم بطانة السوء والفساد والإفساد يا رب العالمين.
اللهم صلّ وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين .
عباد الله .. (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90], فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.