البحث

عبارات مقترحة:

الحق

كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...

المقدم

كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...

القدوس

كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...

شرعية المداراة وحرمة المداهنة والمجاملة

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. تعريف المداراة .
  2. المداراة فن يحتاجه الناس .
  3. مشروعية المدارة من الكتاب والسنة .
  4. مفهوم المداهنة ومعناه   .
  5. الفرق بين المداراة والمداهنة .
  6. أمثلة تبين الفرق بين المداراة والمداهنة .

اقتباس

فالمداراة هي التلطف مع الإنسان حتى تستخرج منه الحق أو ترده عن الباطل، وأما المداهنة فهي التلطف معه لإقراره على ذنب، أو مجاملته في باطل، أو تركه يمشي على هواه دون نكير. ومن هنا يتبين أن المداراة صفة مدح يتحلى بها أهل الإيمان، والمداهنة صفة ذم يتصف بها أهل النفاق ...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الرحيم الرحمن، أرسل رسوله بالهدى والإيمان، وأمره باللين والمداراة والرفق والإحسان، ونهاه عن المداهنة والمجاملة والكفران، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أُولي الفضل والعرفان.

أما بعد:

عباد الله: هناك مسألة مهمة قلّ من يتفطن لها ويسأل عنها أو يبحث عن حكمها، مع أن البعض منا يستخدمها، ولكنه يستخدمها دون أن يعرف حدودها وتفاصيل حكمها، والفرق بينها وبين ما يشبهها، إنها مسألة المداراة والفرق بينها وبين المجاملة والمداهنة.

لقد شرع لنا الشارع الحكيم المداراة وأجازها، والمداراة هي ملاينة الخصم والتلطف معه، وعدم الإغلاظ عليه في القول، والدفع ضده برفق وعلم وحكمة. إن المداراة فن لا يستخدمه إلا العقلاء، ولا يتعامل به إلا الحكماء، ولا ينضبط بضوابطه إلا رزناء الرجال وأولوا الأحلام والنُهى منهم.

وذلك لأن الشخص إذا كان كلّما رأى من أحد زلّة رفضه لزلّته فإنه سيبقى وحيداً لا صديق له، ولن يجد من يعاشره، وإنما عليه أن يغض الطرف عن الأخ الصّادق ويقيل عثرته ويسامحه في زلته، ولا يناقش الصّديق السيئ على عثراته وهفواته فربما ردّ عليه بما هو أكبر، وأخطأ عليك بما هو أعظم.

عباد الله: إن ربنا -سبحانه وتعالى- خلقنا لنعيش في وسط المجتمع، وجعلنا اجتماعيين بالطبع، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- أمرنا بمخالطة الناس والصبر على أذاهم، وهذا يتطلب من الإنسان أن يكون واسع البال، سمح المعاشرة، يداري الناس ويوادهم، ويعرف كيف يتصرف معهم؟ لأن الناس قد ركّبت فيهم أهواء مختلفة وطبائع متباينة، ومن لم يدار صديق السّوء كما يداري صديق الصّدق فليس بحازم.

تجنّب صديق السّوء واصرم حباله

وإن لم تجد عنه محيصا فداره

وأحبب حبيب الصّدق واحذر مراءه

تنل منه صفو الودّ ما لم تماره

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ" [ابن ماجة (4032)].

أيها الناس: لقد وردت في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدلة واضحة تدل على جواز المداراة، والإشارة إلى الفرق بينها بين المجاملة والمداهنة. ومن هذه الأدلة التي تدل على جواز المداراة: قول الله -سبحانه وتعالى-: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) [هود : 84].

إن شعيباً -عليه السلام- أمر قومه بالحق، وعبادة الله وحده، وعدم الإشراك به، ونهاهم عن تطفيف الكيل ونقص الميزان، ثم قال لهم بعد بيان الحق لهم: إني أراكم بخير أي: في معيشتكم ورزقكم، فأخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه من الخير بانتهاككم لمحارم الله.

وهذا لاشك أنه من باب المداراة والملاطفة وإلا فالقوم في الحقيقة ليسوا بخير من الناحية الدينية الشرعية، فهم مشركون ظلمة، ولكنه -عليه السلام- يقصد أنهم بخير من الناحية الدنيوية المادية، فلماذا يطففون الكيل وينقصونه وهم في سعة من المال وبسطة من الرزق وحالهم خير حال؟.

ومن الأدلة الواضحة التي تدل على شرعية المداراة: قوله تعالى لموسى وهارون -عليهما السلام-: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه 43: 44]. إنه طغى وتجبر وتكبر، ولكن مع ذلك كله قولا له قولاً ليناً من باب المداراة وإيصال الحق إليه بالأسلوب الجميل والطريقة الأفضل.

ومن المداراة: قول سيدنا إبراهيم -عليه السلام-: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا * يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا * يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا * قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ) [مريم 42: 47].

فهذه الملاطفات كلها يا أبتي يا أبتي، ولكنها ملاطفة يأتي بعدها بيان الحق وتوضيحه له، (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ )، (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) وحينما رآه بعد هذا معانداً له، ومصراً على ضلاله وكفره، استمر إبراهيم -عليه السلام- في مداراته فقال له: (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ).

وأمرنا الله -تبارك وتعالى- بملاطفة الوالدين ومداراتهم إن كانا كافرين فقال: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان : 15]. أي لا تطعهما في الكفر بالله والشرك به، وعليك بمصاحبتهم بالمعروف، والإحسان إليهم بالقول والفعل في غير معصية الله.

وأما في السنة فقد وردت أحاديث كثيرة تجيز المداراة وتبين شرعيتها، فعَنِ السَّائِبِ قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَىَّ وَيَذْكُرُونِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَا أَعْلَمُكُمْ يَعْنِى بِهِ. قُلْتُ صَدَقْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي كُنْتَ شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ لاَ تُدَارِى وَلاَ تُمَارِى" [أبو داود (4838)]. فهذا الرجل المشرك كان شريكاً للنبي -عليه الصلاة والسلام- فلما جاء أثنى الناس عليه، فأخبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أعلم الناس به لأنه كان شريكه، فسر الرجل بكلام النبي وقال: "صَدَقْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي كُنْتَ شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ لاَ تُدَارِى وَلاَ تُمَارِى" أي لا تدفع بالشدة والغلظة، ولا تحب المراء والجدال.

وروى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عَائِشَةُ -رضي الله عنها-، أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "ائْذَنُوا لَهُ، فَلَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، أَوْ بِئْسَ رَجُلُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ قُلْتَ لَهُ الَّذِي قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ؟ قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ وَدَعَهُ، أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ" [ البخاري (6032) مسلم (2591)].

إن هذا الرجل أظهر الإسلام فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبين حاله ليعرفه الناس، ولا يغتر به من لم يعرف حاله، وإنما ألان له النبي -صلى الله عليه وسلم- القول تألفا له ولأمثاله على الإسلام.

قلت ما سمعتم واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

أيها المسلمون: تكلمنا عن شرعية المداراة وجوازها، ولكن ربما يقول قائل: إن هذا معناه جواز مجاملة الناس ومداهنتهم ولو في الأمور الدينية. ولكن من تأمل في النصوص السابقة وفقه معناها وعرف مغزاها يتبين له الفرق البيّن بين المداراة والمداهنة.

فالمداراة هي التلطف مع الإنسان حتى تستخرج منه الحق أو ترده عن الباطل، وأما المداهنة  فهي التلطف معه لإقراره على ذنب، أو مجاملته في باطل، أو تركه يمشي  على هواه دون نكير. ومن هنا يتبين أن المداراة صفة مدح يتحلى بها أهل الإيمان، والمداهنة صفة ذم يتصف بها أهل النفاق، لأن المداهن يظهر خلاف ما يضمر، ويتصنع أموراً لا حقيقة لها في الواقع.

فمن أمثلة المداراة: أن يرى الإنسان شخصاً واقعاً في منكرين أحدهما أشد وأغلظ من الآخر، فينهاه عن المنكر الأشد ويحذره منه، ولا يكّلمه عن المنكر الآخر، مداراة له وتريثاً معه، حتى يكف عن المنكر الأعظم والشر الأكبر.

ومن أمثلتها أيضاً أن تأتيك زوجتك بطعام لم يعجبك فتجاملها وتداري خاطرها، فهذه مداراة محمودة ومطلوبة، وليست من المداهنة في شيء.

وأما المداهنة كأن يسألك عن حكم شيء محرم فتقول له: لابأس به، أو تجيزه له مداهنة ومجاملة، أو تراه على منكر فتسكت عنه، ولو كان شخصاً آخر لأنكرت عليه وأغلظت له.

إذاً فالمداراة غير المداهنة لأن المداهنة: ترك ما يجب لله من الغيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتغافل عن ذلك، لغرض دنيوي، أو لمصلحة شخصية وهوى نفساني.

وأما المداراة: فهي درء الشر ودفعه بالقول اللين، وترك الغلظة على مرتكب الشر لمصلحة دينية، أو الإعراض عنه، إذا خيف شره، أو حصل منه من المنكر أكبر مما هو واقع فيه، كما هو حال بعض أهل الفحش والعناد الذين يتقيهم الناس ويبتعدون عنهم بعداً من شرهم وغطرستهم، وهؤلاء هم من عناهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ وَدَعَهُ، أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ" [ البخاري (6032) مسلم (2591)].

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

اللهم اجعلنا من الوقافين عند حدودك، المؤتمرين بأمرك، المنتهين عن نهيك، المتحلين بالمداراة من أجلك، المبتعدين عن المداهنة في دينك.