القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
إنَّ لله -تبارك وتعالى- عبادًا شرَّفهم الله -تبارك وتعالى- بحُسن العبودية، وكمَّلهم بطِيب التقرب وجمال الطاعة لله -تبارك وتعالى-، أضافهم الله -جل وعلا- إلى نفسه تشريفًا لهم وتعليةً لمقامهم وبيانًا لعظيم مثوبتهم وجزيل أجرهم عند الله -جل وعلا-؛ وذلك يا معاشر المؤمنين في آيات عظيمات في أواخر سورة الفرقان صُدِّرت بقول الله -جل وعلا-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ)، ثم ذُكِرت نعوتهم الجميلة وصفاتهم العظيمة وأخلاقهم الكريمة، ثم أُتبع ذلك ببيان ما أعد الله -تبارك وتعالى- لهم من عظيم الثواب وكريم المآب.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، وأمينه على وحيه، ومبلِّغ الناس شرعه، ما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذَّرها منه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله؛ فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
أيها المؤمنون عباد الله: إنَّ لله -تبارك وتعالى- عبادًا شرَّفهم الله -تبارك وتعالى- بحُسن العبودية، وكمَّلهم بطِيب التقرب وجمال الطاعة لله -تبارك وتعالى-، أضافهم الله -جل وعلا- إلى نفسه تشريفًا لهم وتعليةً لمقامهم وبيانًا لعظيم مثوبتهم وجزيل أجرهم عند الله -جل وعلا-؛ وذلك يا معاشر المؤمنين في آيات عظيمات في أواخر سورة الفرقان صُدِّرت بقول الله -جل وعلا-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ)، ثم ذُكِرت نعوتهم الجميلة وصفاتهم العظيمة وأخلاقهم الكريمة، ثم أُتبع ذلك ببيان ما أعد الله -تبارك وتعالى- لهم من عظيم الثواب وكريم المآب.
أيها المؤمنون: ذُكرت صفات هؤلاء العظيمة ونعوتهم الجليلة في مواضع ثمانية من هذا السياق المبارك، كل موضعٍ منها مصدَّرٌ بقول ربنا (وَالَّذِينَ) ثم تُذكر نعوتهم وصفاتهم.
وجدير بكل مؤمن أن يتأمل في تلك الأوصاف العظيمة تأمل محاسبةٍ للنفس؛ فإذا كان مقصرًا أو مفرطًا أو عنده شيء من الخطأ والزلل فليبادر بتكميل نفسه قبل مجيء الأجل.
أيها المؤمنون عباد الله: وأول نعوت هؤلاء في هذا السياق المبارك العظيم أنْ وصفهم الله -جل وعلا- بالوقار والسكينة والتواضع لله ولعباده والإعراض عن سفه الجاهلين ودفْعِهم بالتي هي أحسن، قال الله -تعالى-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63].
وذكر -جل وعلا- في أوصافهم: العناية بقيام الليل مع الإخلاص لله خضوعًا وخشوعا، ركوعًا وسجودا، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) [الفرقان: 64].
وذكر الله -تبارك وتعالى- من أوصافهم: أنهم مع أعمالهم الجليلة وأوصافهم النبيلة مشفقون من النار، خائفون من عقوبة الجبار جل في علاه؛ ولهذا فإنهم يلجئون إليه بالضراعة والدعاء أن يقيهم من النار ومن جميع الأسباب المفضية إليها، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [الفرقان: 65- 66].
وذكر الله -جل وعلا- من أوصافهم العظيمة بذل النفقات الواجبة والمستحبة مع التوسط والاعتدال بين الإسراف والتقتير والتجاوز والتقصير، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67].
وذكر -جل وعلا- من أوصافهم: بُعدهم عن كبائر الذنوب وعظائم الآثام، وخُصَّ منها بالذكر الشرك بالله وقتل النفس المعصومة والزنا لأن هذه الثلاثة أعظم الذنوب وأكبر الموبقات، مع بيان حرص هؤلاء على المبادرة إلى التوبة عند الوقوع في شيء من ذلك مع الاستكثار من الأعمال الصالحات، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) [الفرقان: 68- 71].
وذكر الله -جل وعلا- من أوصافهم العظيمة: بُعدهم عن مجالس المنكر والغفلة والباطل والضلال، وإذا مروا بشيءٍ من تلك المجالس مروا مرورًا يكرمون فيه أنفسهم وينزِّهونها عن مجالس اللغو والباطل، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [الفرقان: 72].
وذكَر الله -تبارك وتعالى- من أوصافهم العظيمة: تعظيمهم لآيات الله وعدم مقابلة شيء منها بالصدود والإعراض، بل يقابلونها بحسن الاستماع وكمال الانتفاع، قال الله -تبارك وتعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) [الفرقان: 73].
وذكر الله -جل وعلا- في آخر ما وصفهم به في هذا السياق المبارك من نعوت عظيمةٍ وخصالٍ جليلة: حُسن توجههم إلى الله تعالى بأكمل الدعاء وعظيمه لأنفسهم ولأهليهم وذراريهم بما يتحقق به قرة العين وسعادة الدارين، قال الله تعالى:(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74].
ثم ختم -جل وعلا- هذا الساق المبارك الذي ذكر فيه -جل وعلا- أوصاف هؤلاء العالية وخصالهم الرفيعة بأنَّ الله عز وجل يجزيهم من جنس صنيعهم وفعالهم بعلوِّ الدرجات ورفيع المنازل يوم القيامة، فقال جل شأنه: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا –أي: في الجنة- تَحِيَّةً وَسَلَامًا) [الفرقان: 75]؛ تتلقاهم ملائكة الرحمن بالتحيات الطيبات، ولهم في الجنة السلامة الكاملة من المنغصات والآفات.
ألا ما أعظمها -عباد الله- من خصال وما أجلَّها من نعوت، وحري بكل مسلم أن يعرض نفسه وأعماله في ضوء هذه الآيات الكريمات من سورة الفرقان ويحاسب نفسه محاسبةً دقيقة ويجاهد نفسه على الترقي إلى الكمال والبُعد عن سيء الخصال مستعينًا بربه ذي الكمال والجلال، والتوفيق بيده وحده لا شريك له.
نسأله جل في علاه أن يوفقنا أجمعين وأن يصلح لنا شأننا كله وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، نسأله -جل وعلا- بمنِّه وكرمه وجوده وجميع أسمائه وصفاته أن يتفضل علينا منًّا منه وتكرما بأن يجعلنا من هؤلاء عباد الرحمن؛ إن ربي لسميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله تعالى وراقبوه في السر والعلانية والغيب والشهادة مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه.
أيها المؤمنون عباد الله: نستقبل في أيامنا القريبة يومًا عظيمًا شريفًا فاضلاً من أيام الله؛ ألا وهو يوم عاشوراء، صامه نبينا -عليه الصلاة والسلام- ورغَّب في صيامه شكرًا لله -جل وعلا- على عظيم نعمائه ووافر منِّه وعطائه، ففي الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قدِم المدينة وجد أن اليهود يصومون هذا اليوم فسُئلوا عن صيامه فقالوا: «هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ»، فقال نبينا -عليه الصلاة والسلام- "نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ"؛ فَصَامَهُ -عليه الصلاة والسلام- وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
وجاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ" أي: مع العاشر مخالفةً لليهود.
وثبت في صحيح مسلم في بيان فضل صيام يوم عاشوراء من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؛ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ".
ثم يا معاشر المؤمنين إن الاستكثار من الصيام في شهر الله المحرم جاء في السنة ما يدل على الترغيب فيه والحث عليه، بل على بيان أنه أعظم الصيام وأفضله بعد صيام شهر رمضان؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ".
وإنا لنسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا أجمعين لحسن الاغتنام للأوقات المباركات والأزمنة الفاضلات، وأن يعيننا أجمعين على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-. اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصرًا ومُعِينا، وحافظًا ومؤيدا، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم يا رب العالمين، وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك أنت الغفور الرحيم. ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.