البحث

عبارات مقترحة:

الواحد

كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...

الملك

كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...

الولي

كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...

السيرة النبوية (3)

العربية

المؤلف مازن التويجري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أعلام الدعاة - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف وما لقيه فيها .
  2. دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدعية الأنبياء في المحن .
  3. رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالكافرين .
  4. الإسراء والمعراج وموقف المشركين منه .
  5. بيعة العقبة الأولى .
  6. بيعة العقبة الثانية .

اقتباس

لم يزل أولئك السفهاء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، على ثلاثة أميال من الطائف فرفع كفيه، وقال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن...

الخطبة الأولى:

ولما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من حصار الشعب الآثم، وكان ما كان من وفاة زوجه الرؤوم، وعمه الذي يحوطه ويمنعه، وأن كفار قريش لم يزالوا يحاربون الحق ودعوة الحق، يسومون المؤمنين بالعذاب أضعافًا لأهل الحق المتمسكين به، غدا ليعرض دعوته على بلاد أخرى، ورجال آخرين.

في شوال سنة عشر للنبوة، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف ماشيًا على قدميه الطاهرتين ومعه مولاه زيد بن حارثة، كلما مرَّ على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام فلم يجبه أحد، ووصل إلى الطائف فعمد إلى ثلاثة أخوة من رؤساء ثقيف، وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله ونصرة الإسلام، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة: إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدًا غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولاً لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك، فقام عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني"[رواه ابن إسحاق (2/419)].

وأقام في أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس فوقفوا له صفين وجعلوا يرمونه بالحجارة، ويسبونه ورجموا عراقيبه، حتى احتضنت نعلاه بالدماء، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، فأصابه شجاج في رأسه.

وهكذا يبقى أهل الحق في صراع مع الباطل على مرَّ العصور، في دعوته عليه السلام لأهل مكة وسيره لأهل الطائف نداء إلى كل من يحمل همَّ دينه وأمته: أن طريق الدعوة شاقٌ، طويلٌ، عسيرٌ، عقباته كؤود، وألمه شديده، ليتذكر ذلك العامل لدينه يوم يصاب في ماله، كيف بذل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دنياه كلها في سبيل دعوة الخلق إلى الحق، تذكر وأنت تدعو الناس إلى الله وقد أصابك ما أصابك من شتم يسير، أو سباب من سفيه حقير ما عرف قيمة الحياة أن إمام الأمة، وقائد الملة، وخير البشر، وأكرم الخلق، يُسب ويشتم، بل ويقال: كاهن، شاعر، مجنون، فهل رميت يومًا بمثل هذا، أو نالك من الحديث كهذا، بل أنت سالم في أهلك، معافىً في جسدك، والطاهر المطهر، المزكى من ربه ومولاه يضرب، ويرمى بالحجارة حتى يسيل دمه الطاهر، كل هذا نصرة لدين الله، ورفعًا للوائه ورايته، ولكن لا بد أن يُعلم أن درب الجهاد والدعوة جماله في عنائه، وروعته في أوجاعه، ولذته في طول طريقه، ومن لم يجد هذا ولا ذاك فليراجع إيمانه وإخلاصه، وليكن نشيدك على الدوام:

دربنا المزروع بالشوك طويل وجميل

ربما نعثر فيه ولياليـنا تـطول

ولم يزل أولئك السفهاء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، على ثلاثة أميال من الطائف فرفع كفيه، وقال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك"[رواه ابن إسحاق في السيرة. سيرة ابن هشام 2/420].

"لا إله إلا الله" أي التجاء أعظم من هذا الالتجاء يا أهل الحق، الحق منصور فلا تجزعوا، ولكن لابد للبطولة من أبطال، ولساحات الوغي من شجعان، ومن رام العلى، وسرى نحو الثريا، لا بد وأن يترفع على الثرى وغباره، ولا يُرى يلطخ عقله وجسمه في الوحل والطين.

إنه الدرس العظيم في صدق اللجوء، وعمق التعلق والتذلل، مهما بلغت الأسباب والمسببات، فلا تنفع شيئًا، إذا فارقها توفيق وتيسير مسبب الأسباب سبحانه.

ما يصيب العامل لدينه من توفيق أو عدمه، من تصديق أو تكذيب، من قبول أو عناد وكله في صالحه، ومن حسن تدبير الله له، وما يدريك ففي قبول الناس للخير الفوز والفلاح، وفي عنادهم وأذاهم تكفير وتمحيص للسيئات، وعلو ورفعة في الدرجات، يوسف -عليه السلام- بعد كل ما لاقى من عناد وعذاب يقول ويبتهل: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[يوسف: 101].

وموسى -عليه السلام- يخرج من وطنه طريدًا كسيرًا وآلامه تعتصر في قلبه، ومع ذلك ينادي ويدعو:  (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[القصص: 24].

فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما، فدعو غلامًا لهما نصرانيًا، يقال له عداس، وقالا له: خذ قطفًا من هذا العنب واذهب به إلى هذا الرجل، فلما وضعه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدّ يده إليه، وهو يقول: "بسم الله" ثم أكل، فقال عداس: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-: "من أي البلاد أنت؟" قال: أنا نصراني، من أهل نينوى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قرية الرجل الصالح: يونس بن متى، قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال: "ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي" فأكب عداس على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم- ويديه ورجليه يقبلهما[رواه ابن إسحاق في السيرة، سيرة ابن هشام 2/421].

ورجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طريقه إلى مكة؛ روى البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير أن عائشة -رضي الله عنها- حدثته أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم- هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: "لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد، ذلك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكة يحيطان بها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ، بل أرجو أن يخرج الله -عز وجل- من أصلابهم من يعبد الله -عز وجل- وحده لا يشرك به شيئًا"[رواه البخاري (3231)].

"الله أكبر" هكذا كانت إجابة الحليم الحكيم، هكذا كانت إجابة الرؤوف الرحيم بأمته مع كل ما قابله من تكذيب وتحريش وإغراء ومع ذلك، يقول: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا.

لا غرو ولا غرابة فهو الرحمة المهداة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107].

هذه الكلمات الصادقة الحانية، رسالة إلى كل داعية ومعلم خير، أنت تبلغ دين الله، وشرع الله، فليكن عَرضك مقبولاً، وقولك طيبًا، وفعلك محمودًا، واعرض ما عندك، كما يعرض التاجر اللبيب بضاعته، وبعد ذلك إن لم تجد عونًا ووجدت صدًا وتجريحًا، فارفع يدك وادع: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي)[طه: 25 - 27].

اللهم اهدني واهد بي.

وبينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه المرحلة التي كانت دعوته تشق طريقها بين النجاح والاضطهاد، وقع حادث عجيب مهم ألا وهو حادث الإسراء والمعراج، وقد اختلف في وقوعه، قيل: في رمضان من السنة 12 من النبوة.

وقيل: في المحرم أو ربيع الأول من السنة 13 للنبوة.

وقد روى أهل السنن والمسانيد والصحاح في كتبهم هذه الوقعة.

قال ابن القيم -رحمه الله-: أسرى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبًا على البراق، صحبه جبريل -عليه السلام- فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إمامًا، وربط البراق بحلقة باب المسجد، ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل، ففتح له، فرأى هناك آدم أبا البشر، فسلم عليه ورحب به، ورد عليه السلام وأقر بنبوته، وأراه الله أرواح الشهداء عن يمينه، وأراح الأشقياء على يساره.

ثم عرج به إلى السماء الثانية فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون بن عمران، وفي السادسة موسى بن عمران، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك، فقال: أبكي لأن غلامًا بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم عرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم -عليه السلام أجمعين-، ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع إلى البيت المعمور، ثم عرج إلى الجبار -جل جلاله-، فدنا منه حتى كان: (قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)[النجم: 9- 10].

ثم كان فرض الصلاة على ما جاء، وعرض عليه في مسراه لبن وخمر، فاختار اللبن، فقيل: هديت للفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك، ورأى أربعة أنهار في الجنة، نهران ظاهران، ونهران باطنان، والظاهران هما النيل والفرات.

ومعنى ذلك: أن رسالته ستتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات، وسيكون أهلها حملة الإسلام جيلاً بعد جيل، وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة.

ورأى مالك خازن النار، وهو لا يضحك، وليس على وجهه بشر وبشاشة، وكذلك رأى الجنة والنار، ورأى أكلة أموال اليتامى ظلمًا لهم مشافر كمشافر الإبل يقذفون في أفواههم قطعًا من نار كالأنهار فتخرج من أدبارهم، ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة، لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار، ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين، ورأى النساء اللاتي يُدخلن على الرجال من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بأثداهن، ورأى عيرًا من أهل مكة في الإياب والذهاب، وقد دلهم على بعير ندّ لهم، وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون ثم ترك الإناء مغطى، وقد صار ذلك ليلاً على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء.

فلما أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قومه أخبرهم بما أراه الله -عز وجل- من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم وضراوتهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس فجلاه الله له، حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها، وكان الأمر كما قال فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا، وذكر ذلك لأبي بكر، فقال: إن كان قال فقد صدق، ولذلك سمي صديقًا. ا. هـ باختصار من كلام ابن القيم -رحمه الله-.

الخطبة الثانية:

وفي موسم الحج للسنة الثانية عشرة من النبوة اتصل اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم- عند العقبة بمنى فبايعوه، وهي ما تسمى ببيعة العقبة الأولى.

روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله، فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه" قال: فبايعته، وفي نسخة فبايعناه على ذلك[رواه البخاري (3892)].

وبعد البيعة بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم أول سفير إلى يثرب يدعو الناس ويعلمهم أمر دينهم، وهو مصعب بن عمر العبدري -رضي الله عنه- وكان من السابقين إلى الإسلام، ونزل مصعب على أسعد بن زرارة، وأخذا يبثان الإسلام في أهل يثرب حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا دارين فقط، وقبل حلول الحج من السنة الثالثة عشرة من النبوة، أي بعد سنة فقط من بيعة العقبة الأولى عاد مصعب إلى مكة يحمل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشائر الفوز والقبول.

وفي موسم الحج لهذه السنة قدم من يثرب نحو من ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتان من المسلمين، وقد تساءلوا فيما بينهم وهم لم يزالوا في طريقهم حتى متى نترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-  لقاءات أدت إلى الاتفاق أن يجتمعوا في أواسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى.

قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا أي من حجاج المشركين حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، وتوثق له وكان أول متكلم، فقال: يا معشر الخزرج إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده.

قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.

روى أحمد عن جابر قال: قلنا: يا رسول الله على ما نبايعك؟ قال: "على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة"[رواه أحمد (14047)].

وفي رواية ابن إسحاق: "فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع أزرنا منه، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابر عن كابر.

قال: فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها  -يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟

قال: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم"[رواه أحمد (1537) وابن إسحاق (2/442)].

قال العباس بن عبادة بن نضلة هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: "الجنة" قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه".

قال جابر: فقمنا إليه رجلاً رجلاً فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة، أما المرأتان فكانت بيعتهما قولاً، ما صافح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأة أجنبية قط[رواه ابن إسحاق (2/446)].