القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصلاة |
العابد حقاً والمتقرب لربه صدقاً، هو الذي تحقق في قلبه صدق الإمتثال للأوامر على وجهها، وابتعد عن المخالفات بجميع وجوهها، يجمع بين الإخلاص والحب والخوف وحسن الطاعة ..
الخطبة الأولى:
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واعبدوه حق عبادته، وأخلصوا له، تقربوا إليه خوفاً وطمعاً.
أيها المسلمون: العبادات والقربات تتفاضل عند الله بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة والخشية والخشوع والإنابة.
والعابد حقاً والمتقرب لربه صدقاً هو الذي تحقق في قلبه صدق الامتثال للأوامر على وجهها، وابتعد عن المخالفات بجميع وجوهها، يجمع بين الإخلاص والحب والخوف وحسن الطاعة.
ومن أجل تبين هذا التفاضل وإدراك هذا التمايز، هذه وقفة مع أعظم فرائض الإسلام بعد الشهادتين؛ مع الصلاة عماد الدين.
صفات المؤمنين المفلحين مبدوءة بها، واستحقاقية ميراث الفردوس مختتمة بالمحافظة عليها: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون:1-11].
وفي استعراض آخر من كتاب الله للمكرمين من أهل الجنة تأتي المداومة على الصلاة في أول الصفات، وتأتي المحافظة عليها في خاتمتها (إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ) إلى قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ) [المعارج:19-35].
أيها الإخوة: إنه ثناء على هؤلاء المصلين ما بعده ثناء، وإغراء ما بعده إغراء، لكن هذه الصلاة التي أقاموها صلاة خاصة، ذات صفات خاصة، صلاة تامة كاملة، صلاة خاشعة في هيئة دائمة، ومحافظة شاملة.
إنها صفات وعناصر إذا حصل خللٌ فيها أو نقصٌ فقد حصل في صلاة العبد نقصٌ بقدر ذلك القصور، بل قد يتحول الوعد إلى وعيد، وينقلب رجاء الثواب إلى عرضة للعقاب، اقرءوا إن شئتم: (فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون:4-5]. واقرءوا في صفات المنافقين: (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء:142]. (... وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى..) [التوبة:54].
أيها الإخوة: إن روح الصلاة ولبها هو الخشوع وحضور القلب، حتى قال بعض أهل العلم: صلاة بلا خشوع ولا حضور جثة هامدة بلا روح.
إن الخشوع -أيها الأحبة- حالة في القلب تنبع من أعماقه مهابةً لله وتوقيراً، وتواضعاً في النفس وتذللاً. لينٌ في القلب، ورقة تورث انكساراً وحرقة.
وإذا خشع القلب خشع السمع والبصر، والوجه والجبين، وسائر الأعضاء والحواس. إذا سكن القلب وخشع، خشعت الجوارح والحركات، حتى الصوت والكلام: (وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً) [طه:108].
وقد كان من ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في ركوعه: "خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي وعصبي" وفي رواية لأحمد: "وما استقلَّت به قدمي لله رب العالمين".
وحينما رأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة قال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه".
ويبين علي -رضي الله عنه- خشوع الصلاة فيقول: "هو خشوع القلب، ولا تلتفت في صلاتك، وتلين كنفك للمرء المسلم". يعني: حتى وأنت تسوي الصفوف مع إخوانك، ينبغي أن يعلوَك الخشوع.
ويصف الحسن رحمه الله حال السلف بقوله: "كان الخشوع في قلوبهم، فغضوا له البصر في الصلاة".
عباد الله: إن القلب إذا خشع، سكنت خواطره، وترفعت عن الإرادات الدنيئة همته، وتجرد عن اتباع الهوى مسلكه، ينكسر ويخضع لله، ويزول ما فيه من التعاظم والترفع والتعالي والتكبر.
الخشوع سكون واستكانة، وعزوف عن التوجه إلى العصيان والمخالفة. والخاشعون والخاشعات هم الذين ذللوا أنفسهم، وكسروا حدتها، وعودوها أن تطمئنَّ إلى أمر الله وذكره، وتطلب حسن العاقبة، ووعد الآخرة، ولا تغتر بما تزينه الشهوات الحاضرة، والملذات العابرة.
إذا خشع قلب المصلي استشعر الوقوف بين يدي خالقه، وعظمت عنده مناجاته، فمن قدَرَ الأمر حق قدره، واستقرَّ في جنانه عظمة الله وجلاله، وامتلأ بالخوف قلبه، خشع في صلاته، وأقبل عليها، ولم يشتغل بسواها، وسكنت جوارحه فيها، واستحق المديح القرآني (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:1-2].
رُوي عن مجاهد -رحمه الله- في قوله تعالى: (وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238]. قال: "القنوت: الركون والخشوع، وغض البصر، وخفض الجناح". قال: "وكان العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن -عزَّ وجلَّ- عن أن يشد نظره، أو يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا ما دام في الصلاة".
بالخشوع الحق، يكون المصلون مخبتين لربهم، منكسرين لعظمته خاضعين لكبريائه، خاشعين لجلاله: (إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ) [الأنبياء:90].
ولتعلموا -رحمكم الله- أن الخشوع يتفاوت في القلوب بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، وبحسب مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع. وبمقدار هذا التفاوت يكون تفاضل الناس، في القبول والثواب، وفي رفع الدرجات، وحط السيئات. عن عبد الله الصنابحي -رضي الله عنه- قال: أشهد أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "خمس صلوات افترضهن الله تعالى، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن؛ كان له على الله عهدٌ أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه".
وفي خبر آخر عنه -صلى الله عليه وسلم- أخرجه مسلم وغيره قال: "ما من امرئٍ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فأحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله".
وعن عثمان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "...من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه بشيء؛ غفر له ما تقدم من ذنبه".
الصلاة الخاشعة هي الراحة الدائمة للنفوس المطمئنة الواثقة بوعد ربها المؤمنة بلقائه.
أين هذا من نفوس استحوذ عليها الهوى والشيطان؟! فلا ترى من صلاتها إلا أجساداً تهوي إلى الأرض خفضاً ورفعاً. أما قلوبها فخاوية، وأرواحها فبالدنيا متعلقة، ونفوسها بالأموال والأهلين مشغولة.
لما سمع بعض السلف قوله تعالى: (لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) [النساء:43] قال: كم من مصل لم يشرب خمراً.. هو في صلاته لا يعلم ما يقول، وقد أسكرته الدنيا بهمومها.
أيها الإخوة: وهناك نوع من الخشوع حذر منه السلف، وأنذروا وسموه: خشوع النفاق. فقالوا: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قالوا: أن ترى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع. ولقد نظر عمر -رضي الله عنه- إلى شاب قد نكس رأسه فقال له: يا هذا، ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر خشوعاً على ما في قلبه فإنما هو نفاق على نفاق.
وقال الحسن: إن أقواماً جعلوا التواضع في لباسهم، والكبر في قلوبهم، ولبسوا مداعج الصوف أي: الصوف الأسود واللهِ لأَحدُهم أشدُّ كبراً بمدرعته من صاحب السرير بسريره، وصاحب الديباج في ديباجه.
فاتقوا الله - رحمكم الله- واحفظوا صلاتكم، وحافظوا عليها، واستعيذوا بالله من قلب لا يخشع، فقد كان من دعاء نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة:45، 46].
الخطبة الثانية:
الحمد لله المتفرد بالعظمة والجلال، المتفضل على خلقه بجزيل النوال. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وهو الكبير المتعال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى الحق، والمنقذ بإذن ربه من الضلال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآلٍ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد:
أيها المسلمون: يذكر أهل العلم وجوهاً عدة، يتبين فيها حضور القلب، ويتحقق فيها حال الخشوع، وحقيقة التعبد.
من هذه الوجوه: الاجتهاد في تفريغ القلب للعبادة، والانصراف عما سواها، ويقوى ذلك ويضعف بحسب قوة الإيمان بالله واليوم الآخر، والوعد والوعيد. ومنها: التفهم والتدبر لما تشتمل عليه الصلاة من قراءة وذكر ومناجاة؛ لأن حضور القلب والتخشع والسكون من غير فهم للمعاني لا يحقق المقصود.
ومنها: الاجتهاد بدفع الخواطر النفسية، والبعد عن الصوارف الشاغلة. وهذه الصوارف والشواغل عند أهل العلم نوعان: صوارف ظاهرة وهي ما يشغل السمع والبصر، وهذه تعالَج باقتراب المصلي من سترته وقبلته ونظره إلى موضع سجوده، والابتعاد عن المواقع المزخرفة والمنقوشة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما صلى في خميصة لها أعلام وخطوط نزعها وقال: "إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي" متفق عليه من حديث عائشة.
والنوع الثاني: صوراف باطنة من تشعب الفكر في هموم الدنيا وانشغال الذهن بأودية الحياة، ومعالجة ذلك بشدة والتفكر والتدبر لما يَقرأ ويَذكر ويُناجي.
ومما يعين على حضور القلب، وصدق التخشع؛ تعظيم المولى جل وعلا في القلب، وهيبته في النفس، ولا يكون ذلك إلا بالمعرفة الحقة بالله عزَّ شأنه، ومعرفة حقارة النفس وقلة حيلتها، وحينئذٍ تتولد الاستكانة والخشوع والذل والإنابة.
أمرٌ آخر -أيها الإخوة- يحسن التنبيه إليه، وهو دال على نوع من الانصراف والتشاغل، مع ما جاء من عظم الوعيد عليه، وخطر التهاون فيه، ذلكم هو مسابقة الإمام في الصلاة، فما جعل الإمام إلا ليؤتم به، فلا تتقدموا عليه، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار" متفق عليه من حديث أبي هريرة. وفي رواية: " أو صورة كلب" وانظروا إلى حال الصحابة رضوان الله عليهم مع نبيهم وإمامهم محمد -صلى الله عليه وسلم- ، يقول البراء بن عازب: "كان خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان إذا انحط من قيامه للسجود، لا يحني أحد منا ظهره حتى يضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبهته على الأرض ويكبر، وكان يستوي قائماً وهم لا يزالون سجوداً بعد". ورأى ابن مسعود - -رضي الله عنه- - رجلاً يسابق إمامه فقال له: "لا وحدك صليت، ولا أنت بإمامك اقتديت".
فاتقوا الله -رحمكم الله- وأحسنوا صلاتكم، وأتموا ركوعها وسجودها، وحافظوا على أذكارها، وحسن المناجاة فيها، رزقنا الله وإياكم الفقه في الدين وحسن العمل.