الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
والناسُ على ثلاثة أقسام: أصحابُ حسنات فقط، وليس لهم سيئاتٌ، وهؤلاءِ في الجنة. وأصحابُ سيئات فقط، وليسَ لهم حسناتٌ، وهؤلاء في النار. وأصحابُ سيئات وحسنات، وهؤلاء قسمان: من رَجَحَتْ حسناتُهُ، فهذا من أهلِ الجنة. ومن رَجَحَت سيئاتُهُ، وهذا من ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، يقبلُ التوبةَ من عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، وأشهدُ أَنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، يعلَمُ ما كان وما يكون، وما تُسرون وما تُعلنون، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله الصادقُ المأمون، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خيرِ القرون، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعدُ:
أيُّها الناسُ: اتقوا الله -تعالى-، وأكثروا من الحسنات، فإنها طريقُ النجاة، وتوبوا من السيئاتِ قبلَ الممات، فإنَّها طريقُ الهلكات، يقولُ الله -تعالى-: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النمل:89-90].
ففي هذه الآية الكريمة: حثٌّ على فعل الحسنات، وأنَّ الله قد وَعَدَ فاعلَها بوعدين كريمين:
الأول: أن يَجْزِيَهُ خيراً، وذلك بمضاعفتها إلى عشرِ حسنات، وإلى أضعافٍ كثيرة، كما قال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام:160].
والوعد الثاني: أنَّ الله يؤمِّنُهِ مِنَ الفَزَعِ الأكبر يوم القيامة، كما قال تعالى: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء:103].
وفي هذا أكبر حافز على فعل الحسنات، والإِكثار منها.
وفي الآية الكريمة: التحذيرُ من السيئات، وأنَّ مَنْ جاء بالسيئة كُبَّ وجهُهُ في النار، وهذا وعيدٌ شديد وبيانٌ أنَّ السيئات طريق إلى النار، وذلك مما يوجبُ الحَذَرَ من السيئات، والابتعادَ عنها، ومَنْ وَقَعَ في شيءٍ منها، فإنه يجبُ عليه المبادرة بالتوبة منها.
والناسُ على ثلاثة أقسام:
أصحابُ حسنات فقط، وليس لهم سيئاتٌ، وهؤلاءِ في الجنة.
وأصحابُ سيئات فقط، وليسَ لهم حسناتٌ، وهؤلاء في النار.
وأصحابُ سيئات وحسنات، وهؤلاء قسمان:
من رَجَحَتْ حسناتُهُ، فهذا من أهلِ الجنة.
ومن رَجَحَت سيئاتُهُ، وهذا من أهل النار، قال تعالى: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) [المؤمنون:102-104].
والحسناتُ أقسامٌ، والسيئات أقسام: فأعظمُ أقسام الحسنات، حسنةُ التوحيد، وقد قال بعضُ المفسرين: إنَّها هي المعنيةُ بهذه الآية: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) [النمل:89].
قال قتادة: "مَنْ جاء بالإِخلاص".
وقال زينُ العابدين: "من جاء بلا إلهَ إلا الله".
وفي الصحيحين من حديث عتبان: "فإنَّ الله حرَّمَ على النار مَنْ قال: لا إلهَ إلا الله، يبتغى بذلك وجهَ الله".
وعن معاذِ بن جبل قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لَقِيَ الله لا يشركُ به شيئاً دَخَلَ الجنة".
وهذه الحسنة قد يُكَفِّرُ الله بها جميعَ السيئات، كما روى الترمذيُّ عن أنس سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قالَ الله -تعالى- يا ابنَ آدم، لو أتيتَني بقُرابِ الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تشركُ بي شيئاً لأَتَيْتُكَ بقُرابِها مغفرةً".
قال العلامة ابنُ القيم في معنى هذا الحديث: ويُعْفَى لأهلِ التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشركِ ما لا يُعْفَى لِمَنْ ليسَ كذلك، فلو لقيَ الموحِّدُ الذي لم يشركْ بالله شيئاً ألبتةَ رَبَّه بقُرابِ الأرض خطايا أتاه بقرابِها مغفرةً، ولا يحصُلُ هذا لمن نقص توحيده، فإنَّ التوحيدَ الخالص الذي لا يشوبه شركٌ لا يبقى معه ذَنْبٌ؛ لأنه يتضمَّنُ من محبةِ الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه، ما يوجبُ غسلَ الذنوب ولو كانت قُرابَ الأرض، فالنجاسةُ عارضةٌ والدافع لها قويٌّ.
القسم الثاني بعد حسنة التوحيد: الحسنات المفروضة، كالصلواتِ الخمس، والزكاة، وصومِ رمضانَ، وحَجِّ بيتِ الله الحرام، وسائر الحسنات الواجبة، كبِرِّ الوالدين، وصلةِ الأرحام، وإكرام الضيفِ، والجارِ، إلى غير ذلك، من فعلِ ما أَمَرَ الله ورسولُه.
والقسمُ الثالث: الحسنات المستحبة، من فعل نوافل العبادات، فإنَّها تكمُلُ بها الواجباتُ، وتُرفَعُ بها الدرجاتُ.
وكما أنَّ الحسنات أقسامٌ، فالسيئات أقسام كذلك: وأعظمُ أقسام السيئات، سيئةُ الشرك، وقد قال بعض المفسرين في هذه الآية: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [النمل:90].
إنَّ المراد بها سيئةُ الشرك، كما قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) [المائدة : 72].
وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء:48].
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ ماتَ وهو يدعو مِنْ دونِ الله نِدَّاً دَخَلَ"[رواه البخاري].
فدلَّ ذلك على أنَّ الشركَ أعظم الذنوب؛ لأنَّ الله -تعالى- أخبر أنه لا يغفرُه لِمَنْ لم يتُبْ منه، وأنَّ الله حرَّمَ الجنة على المشرك، وجعَلَ النار مأواه، ومصيره خالداً فيها، وذلك مما يوجب على المسلم شدةَ الخوف من الوقوع في الشرك.
وبعضُ الناسِ قد يقعُ في الشرك لتحصيل بعض الأغراض، كأنْ يذبَحَ للجِنِّ، أو يفعلَ شيئاً من أنواع السحر لأجل العلاج وشفاءِ المرض، أو يسألَ الكُهَّانَ عن بعض الأشياء الغائبة، ويُصَدِّقَهم فيما يقولون.
ومن المنتسبين إلى الإِسلام: مَنْ يستغيثُ بالأموات، ويطلُبُ منهم قضاءَ الحاجات، وتفريجَ الكُرُبات، وهؤلاء قد أتوا بما يخرجهم من الإِسلام، ويُلحقهم بعبدة الأصنام، وأتَوْا بالسيئةِ التي لا تنفَعُ معها طاعةٌ، ولا تَصِحُّ معها عبادة، إلا أن يتوبوا إلى الله -تعالى-.
القسمُ الثاني من أقسام السيئة: سيئةُ الكفر، وهو الجحود، والخروج من الدين.
وهو نوعان:
كفر أصليٌّ: وهو الذي لا يدينُ صاحبهُ بدينٍ صحيح..
وكفرُ رِدَّةٍ: وهو الذي كان صاحبُه على دينِ الإِسلام، ثُمَّ خَرَجَ منه بارتكابِ ناقضٍ من نواقضِ الإِسلام، كأَنْ يستهزئَ بالدين أو بالرسول، أو يسُبَّ الدين أو الرسول، أو يتعلَّمَ السحر أو يعلِّمَه، أو يدَّعيَ علمَ الغيب، أو يصدِّقَ من يدَّعي ذلك، أو يدَّعيَ النبوةَ، أو يصدِّقَ مَنْ يدَّعيها، أو يَرَى أَنَّ حكمَ غيرِ الله أحسنُ من حكم الله، أو غير ذلك من أسباب الردة.
القسمُ الثالث من أقسام السيئة: سيئةُ الفسوق، وهو المعاصي التي دونَ الشِّركِ والكُفرِ، وذلك بفعل شيءٍ من كبائر الذنوب، كالزنى، والسرقةِ، وشُربِ المسكرات، وتَعاطي المخدِّرات، وقَذْفِ المُحْصَنات، وغير ذلك مما رُتِّب عليه حدٌّ في الدنيا، أو وعيدٌ في الآخرةِ، أو لُعِنَ فاعلُه، أو تُوُعِّدَ بالغضبِ أو النار.
والكبائرُ كثيرة؛ ومنها: الغِيبةُ والنَّميمةُ، وشهادةُ الزُّور، وأكلُ الربا، وأكلُ مالِ اليتيم، وعقوقُ الوالدين، وقَطيعةُ الرحمِ.
والقسم الرابع: من أقسام السيئة: سيئةُ المعاصي التي هي دون الكبائر، وهيَ ما يُسَمَّى: بالصغائر، ويُسَمَّى: باللَّمَم.
وهي خطيرةٌ؛ لأنَّ الإِنسانَ قد يتساهلُ فيها، وهي إذا اجتمعت على الإِنسان تُهلكه.
وفي الحديث: "إيَّاكُم ومُحقراتِ الذُّنوبِ، فإنَّ لها من الله طالباً".
وقد قال بعضُ السلف: "إنَّ الإِصرارَ على الصغيرةِ يُصيِّرُها كبيرةً".
وقالوا: "لا كبيرةَ مع استغفار، ولا صغيرةَ مع إِصرارٍ".
ويتضمَّنُ هذه الأقسامَ الثلاثة، قولُهُ تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) [الحجرات:7].
فالمؤمنُ يكره السيئةَ بجميعِ أنواعها.
وفي الحديث: "مَنْ سرَّتْه حسنتُه، وساءَتْه سيئتُهُ، فهو مؤمنٌ".
فالمؤمنُ تَسُرُّهُ الحسنة؛ لأنَّها محبوبةٌ لله -تعالى-: والمؤمن يُحِبُّ ما يُحبُّه ربُّه، ولأنَّها تُقرِّبُه من الله فيُكثر من الحسناتِ، ويكرَهُ السيئةَ؛ لأنَّ الله يكَرهُها، والمؤمنُ يكره ما يكرهُه الله.
ولأنَّ السيئة تُبعدُه عن الله، وإذا كَرِهَ السيئة حملَه ذلك على تَرْكِها، والتوبةِ منها، وهذا بخلافِ الكافر والمنافق، فإنَّ كلاًّ منهما يكرَهُ الطاعة، ويفرحُ بالمعصية، كما قال تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [فاطر:8].
وكما قال تعالى: (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ) [التوبة:37].
فاتَّقوا الله -عبادَ الله-، وأكثروا من الحسناتِ، وتوُبوا من جميع السيئات لعلَّكم تُرحمون.
أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيم: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأنعام:160].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، يُحِبُّ المحسنين، ويقبلُ توبةَ المسيئين، ويغفرُ للمذنبين، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسولُه، صَلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتَّقُوا الله -تعالى-، وانظروا في أعمالِكم، وسَدِّدُوا أقوالَكم، فإنَّها تُحْصى وتُكتَبُ عليكم، وتحاسَبُون بها، وتجازَوْن عليها، قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله كتبَ الحسناتِ والسيئات، ثم بَيَّنَ ذلك، فمَنْ هَمَّ بحسنةٍ، فلم يعمَلْها كتبَها الله عنده حسنةً كاملة، وإنْ هَمَّ بها فعَمِلَها كتبَها الله عنده عشرَ حسنات إلى سبع مائةِ ضعفٍ إلى أضعاف كثيرة، وإن هَمَّ بسيئةٍ فلم يعْمَلْها كتبَها الله عنده حسنةً كاملة، وإنْ هَمَّ بها فعملَها كتبَها الله سيئةً واحدة"[رواه البخاري ومسلم].
وقد دلَّ هذا الحديث على: أنَّ عملَ العبد يُكْتَبُ خيرُه وشره، ويستوي في ذلك ما عَزَمَ عليه في قلبِهِ ولم يعمَلْه، وما عَزَمَ عليه وعَمِلَه، لكن ما عَزَمَ عليه من الخير، ولم يتمكَّن من عمله يُكْتَبُ له حسنة.
وما عَزَمَ عليه، وعمله يُكْتَبُ: الحسنةُ بعشرِ حسنات إلى سبع مئةِ ضِعْفٍ، إلى أضعاف كثيرة، لا يعلَمُها إلا الله.
وما هَمَّ به من السيئاتِ، وتركَه خوفاً من الله كتبَه الله له حسنةً كاملة، وما هَمَّ به وعمله كتبَه الله سيئةً واحدة.
قال الإِمام ابنُ كثير -رحمه الله-: "اعلَمْ أنَّ ترَّاكَ السيئة على ثلاثة أقسام:
تارةً يترُكُها لله، فهذا تُكْتَبُ له حسنةٌ على كَفِّه عنها لله -تعالى-، وهذا عملٌ ونيةٌ، كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح: "فإنَّها يترُكُها من جَرائي" أي: من أجلي.
وتارةً يترُكُها نسياناً، وذهولاً عنها، فهذا لا له ولا عليه؛ لأنَّه لم يَنْوِ خيراً، ولا فعلَ شرّاً.
وتارة يترُكُها عجزاً وكسلاً عنها، بعد السعي في أسبابِها، والتلبُّسِ بما يُقَرِّبُ منها، فهذا بمنزلة فاعِلها، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قالَ: "إذا التقَى المُسلمانِ بسيفيهما، فالقاتلُ والمقتولُ في النار" قالوا: يا رسولَ الله، هذا القاتلُ، فما بالُ المقتول؟ قال: "إِنَّه كانَ حريصاً على قَتْلِ صاحبه".
فاتقوا الله -عبادَ الله- وأحسنوا نِيَّاتِكم وأعمالكم يضاعِفِ الله لَكُم أجورَكُم، ويُكَفِّرْ عنكم سيئاتِكم.
واعلَمُوا أنَّ خيرَ الحديث كتاب الله | إلخ |