العالم
كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
أدبُ المرء عنوان سعادته وفلاحِه، وقلةُ أدبه عنوان شقاوته وبَوارِه. فما استُجلب خيرُ الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استُجلب حرمانها بمثل قلة الأدب.. كان العلماء ولا زالوا يُعلّمون الناس الأدب والأخلاق قبل العلم, لكنَّ بعضًا من العلماءِ وطلاب العلمِ لم يُراعوا هذا الجانب, فقلّ نفعُهم وخيرُهم, بل حصل من بعضِهم فسادٌ عظيم, فجعلوا العلم وسيلةً لتجريح من يُخالفهم, ولمز من يجتهدُ اجتهادًا لا يُوافق آراءَهم, ووالله لو تعلموا الأدب كما تعلموا العلم, لَمَا رأينا إلا الخير والمودّة بينهم. فالأدب والمروءةُ مِن أهمّ ما يتجمل بِه الإنسان, وأحرى ألا يستهين بِه عاقلٌ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, واعملوا أنّ من أعظم ما يتحلَّى به العاقل: الأدب والمروءة, فبهما يكسِب كلّ خيرٍ وبرّ, ويدفع بهما سُبل الغوايةِ والشرّ.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأدبُ المرء عنوان سعادته وفلاحِه، وقلةُ أدبه عنوان شقاوته وبَوارِه. فما استُجلب خيرُ الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب". ا.هـ
وقال عبد الله بن المبَارك -رحمه الله-: "كاد الأدب يكون ثُلثَي الدِّين".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "بل الأدب هو الدين كله".
نعم, هو الدين كلُّه, فدينُنا مبنيُّ على الأدب مع الخالق –سبحانه-, بعباداته وحده وتعظيمِه, ومع الناس باحترامهم ومُعاملتِهم بأحسن معاملة. فالذي يُخلّ بالأدب إنما يُخلّ بالدين, ولو كان من أعبد العابدين, وأعلم الناسِ أجمعين.
وقد كان مَن مضى من علمائنا وسلفنا, يعتنون بالأدب اعتناءً شديدًا, يقول الزهري -رحمه الله-: "كنا نأتي العالِمَ, فما نتعلم من أدبه أحبُّ إلينا مِن علمه".
وقال الإمامُ مالكُ بنُ أنس -رحمه الله- ناصحًا أحدَ طلاَّبه: "تَعَلَّمِ الأدب قبل أن تتعلم العلم".
وقال ابن وَهب-رحمه الله-: "ما نَقَلْنَا مِن أدب مالكٍ أكثرُ مِمَّاَ تعلَّمنا من علمه".
وهذا الإمامُ أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-, يقول عنه الذهبي -رحمه الله-: "كان يجتمعُ في مجلسِه زُهاءَ خمسةِ آلافٍ أو يزيدون. نحوِ خمسِمائةٍ يكتبون، والباقون يتعلَّمون منه حُسْنَ الأدب والسَّمْت".
هكذا كان العلماء ولا زالوا, يُعلمون الناس الأدب والأخلاق قبل العلم, لكنَّ بعضًا من العلماءِ وطلاب العلمِ لم يُراعوا هذا الجانب, فقلّ نفعُهم وخيرُهم, بل حصل من بعضِهم فسادٌ عظيم, فجعلوا العلم وسيلةً لتجريح من يُخالفهم, ولمز من يجتهدُ اجتهادًا لا يُوافق آراءَهم, ووالله لو تعلموا الأدب كما تعلموا العلم, لَمَا رأينا إلا الخير والمودّة بينهم.
فالأدب والمروءةُ مِن أهمّ ما يتجمل بِه الإنسان, وأحرى ألا يستهين بِه عاقلٌ, وسأقف مع بعضِ الآداب المهمة, وإنما هي للتذكير فحسب.
فمن أعظم الآداب والمروءات: الانضباط والالتزام في مواعيد الناس.
ما أكثر ما يستهين كثيرٌ من الناس في وُعُودِهم ومواعيدهم.
بعضُهم يتَّفِقُ مع صديقه على موعدٍ في الساعة الفلانية, فيتأخر بعدها بعشر دقائقَ أو أكثر, وصاحبُه على أحرَّ مِن الجمر ينتظره, وحينما يحضر كأنَّ شيئاً لم يكن!
وبعضُهم يعِدك بأمرٍ أو قضاءِ حاجةٍ ثم يُماطل ويُؤخِّر, ويتساهلُ ويتعذَّر!
وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ, وعدَّ منها: "وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ". (متفق عليه).
ومن الآداب: وضع الحذاء في مكانِه الخاص به, وعدمُ وضعِه أمام مداخل البيوت والمساجد, فكثيرٌ من الناس لا يُبالي أين يضع حذاءه, ولو كان في طريق المارّة, ومِن أعظم مَن يجد الحرج من هذا الفعل المشين: أصحابُ العربات, فكثيرٌ منهم لا يستطيع أنْ يَتَخطَّى هذه الأحذيةَ من كثرتها, فيضطر إلى إبعادها بيده.
ومن الآداب أيضًا: عدمُ اسْتعمال اليد اليمنى فيما يُسْتقذر, كتنظيف الأنف والأذن ونحو ذلك, فكم من إنسانٍ يُباشر مثل ذلك, ثم يمدّ يده للسلام عليك.
ومن الآداب أيضًا: عدمُ تَخَطِّي الناسِ عندما يصطفّون, إمَّا للسلام أو للشراء أو نحوِ ذلك.
كم همُ الذين يرون أنفسهم فوق الجميع, فيرون أنه من النقص عليهم أنْ يصطفوا مع بقية الناس, فيتخطون الصفوف تحت مرأى منهم.
وتُبصِرُ أناساً في أكملِ هيئةٍ وأفخم زيٍ, لا يحترمون وقوفُ الرجال أمامهم, فَيَتَجاوَزُنَك وأنت قد سَبَقْتَهُم, وأنت تَنظُرُ مُتألماً لِهذه الأخلاق والآداب.
ومن الآداب أيضًا: عدمُ الحديث والفم مليءٌ بالطعام, فبعضُ الناس لا يُبالي بالكلام واللقمةُ في فمه, فيخرج كلامُه سمجًا ثقيلاً, وربما تطاير شيءٌ من الطعام, جرَّاء الهواء الذي يخرج أثناء حديثه, فيُؤذي الآكلين, ويُثقل على السامعين.
ومن الآداب أيضًا: البعدُ عن حبّ الاستطلاع, وقد قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ».
فكلُّ أحدٍ له خُصوصيَّاتٌ لا يرضى لأحدٍ بأن يطَّلع عليها, أو يُدخلَ نفسه فيها.
وبعضُ الناس لا يَهْنَأُ له بال, ولا يقرُّ له قرارٌ, حتَّى يعلم عن تفاصيل حياةِ صديقِه أو قريبِه, ويعلمَ أينْ ذَهَبَ, ومع مَن ذَهَبَ!
ومن الآداب كذلك: أنْ يُكرم الإنسان من يُكرمه أو يُسدي له معروفًا, فبعضُ الناس يدعوه أصدقاؤُه ويُكرمونه, ويُبادرون دائمًا في دعوته للنزهةِ أو الطعام, أو السفر على سياراتهم, ثم لا نراه مرّةً واحدةً, يُبادر أصدقاءه بأيّ شيءٍ, وهذا من نقص المروءَة, ورداءة النفس.
ومن الآداب أيضًا: الاعتناءُ برائحةِ الفم والجسم, فصاحب الْمُرُوءةِ والأدب الجمّ: لا يرضى أنْ تصدر منه رائحةٌ تُؤذي الآخرين, بل لا تشمّ منه إذا قابلتَه إلا رائحةً زكيّةً طيبة, تُدخل السرور على نفسك, ولو حادثك سرًّا ما وجدّت رائحةً كريهةً تخرج من فمه, لاعتنائه بتنظيف أسنانه ولثّته, إما بالسواك وإما بالفرشاة.
وينبغي التخلُّصُ من رائحة العرق المؤذي, فبعض الناس يمكث أيامًا لم تمسَّ بَشَرَتُه الماء, فيؤذي الناسَ أذىً شديداً.
ومن الروائح الكريهة التي تُؤذي الناس: الروائح التي تنبعث من الشراب إذا طال لُبْسُه.
ومن الآداب أيضًا: عدمُ رميِ الْمُخلّفات في الطرقات, فَكَمْ يستاءُ المسلم حينما يرى أبناء المسلمين, يرمون القاذورات والأوساخ في الشوارِع, وأماكنِ النزهة والطرقات, وهمُ الذين رضعوا وشربوا من تعاليم الإسلام العظيمة, التي تمنع وتُحذر من إلقاء المخلفات في الطرقات.
ومن الآداب أيضًا: الصبرُ وعدمُ العجلة عند الإشارات المرورية, فبعضُ الناس وخاصةً الشباب, لا يحتمل من الذي أمامه تأخرًا بغير إرادته, كأنْ تَكون أمامه سيَّاراتٌ كثيرة.
بل وصل الأمر إلى أعظمَ من ذلك, حيث يُزعج الواقفين عند الإشارة, ولا زلت الإشارة حمراء, فبمجرّد إحْساسِه بقرب فتح الإشارة, إذا به يُؤذي الناسَ بِصوتِ الْمِزمار, وهذا من السَّفه وعدمِ احترام الآخرين.
ومن الآداب كذلك: خفضُ الصوتِ أثناءَ العطاس بقدر الإمكان, ووضعُ اليد اليُسرى على الفَمِ, ولا ينبغي وضعُ اليد الْيُمنى دون حائل أو غَسْلِهَا, وخاصةً عند الْمُصافحةِ أو أكلِ طعامٍ ونحوِ ذلك.
ومن أهم الآداب: اللبس الساتر والمحتشم للشباب والفتيات, فكم هي التي يلبسُها بعضُ الشباب والفتيات, وهي مُخلّةٌ بالأدب والمروءة, وتدعوا لنزع الحياء, وإنَّ الإنسان ليستحي أنْ ينظر إليهم في هذا اللبس المشين, فكيف لا يستحون وهم يلبسونها أمام الجميع!
ويدخل في ذلك قصات الشعر العجيبة والغريبة, والتي شوّهت أشكالهم, وأضرتْ بأخلاقهم وقِيمهم.
نسأل الله –تعالى- أنْ يُجمّلنا بأحسن الأخلاق والآداب, وأنْ يُثيبنا عليها عظيمَ الأجر والثواب, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه, وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: معاشر المسلمين: من المظاهر التي باتت تنتشر وتَتَّسِع: المباهاةُ والتفاخر, ولها صورٌ كثيرةٌ منها:
التفاخر والمباهاة في الأعراس, وذلك بِتَكليفِ الناسِ والتأكيدِ عليهم في الحضور, فبعضُ الناس يَتَكلف تكلُّفًا لا نظير له, في التأكيد على زملائه وأقربائه وغيرهم, على الحضور والمجيء, فيُوقع المشغول في حرجٍ شديد, فكأنه يقول حينما يُلحّ في التأكيد: لن أعذُرك مهما كان ظرفُك وشغلك.
والعاقل: يدعو الناس ويقبل أعذار المتخلفين, ولا يُلحّ في الدعوة ويُكثر منها.
ويُؤدي هذا إلى المبالغةِ في صنع الطعام, فربما وقع في الإسراف والتبذير.
ومن مظاهر المباهاة والتفاخر, التنافسُ في السفر إلى بلدان العالم, وقد أدّى مرضُ التفاخر هذا إلى بذل الآلاف في ذلك, بل والسفرِ إلى ديارِ الكفرِ والفجور والعري.
والواجبُ ألا ننساق وراء هذه المظاهر, وأنْ نعلم أنَّ النفس مهما أُعْطيَتْ ما تُحب, فإنها لن تقنع أبدًا, بل ستطمع في المزيد, كما قال الشاعر:
والنفسُ كالطفلِ إنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ على | حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم |