الوكيل
كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...
العربية
المؤلف | ناصر بن مسفر الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ولو أرَدْنَا أن نعطي هذه الآية حقها من الشرح، ونصيبها من التفصيل، لاحتجنا -لا أقول إلى عشرات الخطب- إلى مئات الخطب، وآلاف الكلمات، فالحديث عنها حديثا وافيا شافيا كافيا هو الحديث عن الدين كله، والإسلام جميعه، بل إن ما خطبناه من الخطب، وما سوف نخطبه، لا يخرج عن فحواها، ولا يبعد عن معناها، ولا يجاوز مغزاها ..
ألفاظ أحلى من الشهد، وأرق من النسيم، كلمات تتسلل إلى القلب، وتنقدح في الفؤاد، وتسكن في الضمير؛ قد يجتهد العالم، وقد يبدع الخطيب، وقد يتأنق الواعظ، ولكن لا أقوى ولا أجمل ولا أزكى ولا أكمل من الموعظة حينما تكون من الله، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِن اللهِ حَدِيثَاً) [النساء:87].
هذه الموعظة نسمعها مرارا وتكرارا لأنها تدور على ألسنة الخطباء، ويحلو لكثير منهم أن يرددها في خطبه، ويروى أن أول من استعملها في الخطب وأمر بها عمر بن عبد العزيز- رحمه الله-، إنها آية واحدة، ولكنها جمعت الدين، ولخَّصَت الإسلام، وأوجزت الشريعة، وشملت المنهج، ووضحت المبدأ، وشرحت السلوك وبينت الأخلاق، وحددت المثل، ورسمت المعالم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
الموعظة ربانية، والخطبة قرآنية، وقد كانت هذه الآية سببا في إسلام أحد الصحابة، وتمكُّن الإيمان في قلبه، وهو عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- حيث كان بجانب النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما نزلت عليه هذه الآية، فلما قرأها عليه تمكنت من ضفاف قلبه، واستولت على فؤاده، واستقر الإيمان في نفسه، وزُرعت محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجدانه، ويقول عنها ابن مسعود -رضي الله عنه-: أجمع آية في القرآن.
وقال قتادة : ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به، ويستحسنونه، إلا أمر الله به في هذه الآية؛ وليس من خلق كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه، وقدح فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق، ومذامها.
ويقول السعدي- رحمه الله- صارت هذه الآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات، ولم يبق شيء إلا دخل فيها، فهي قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات.
قال تعالى في الآية التي سبقت هذه الآية: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل:89]، بَيَّنَ تعالى أنه أنزل كتابه تبيانا لكل شيء، فجاءت هذه الآية شرحا موجزا لما اشتمل عليه هذا الكتاب، ولما حواه ذلك التنزيل، فهو يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
ولو أردنا أن نعطي هذه الآية حقها من الشرح، ونصيبها من التفصيل، لاحتجنا -لا أقول إلى عشرات الخطب- إلى مئات الخطب، وآلاف الكلمات، فالحديث عنها حديثا وافيا شافيا كافيا هو الحديث عن الدين كله، والإسلام جميعه، بل إن ما خطبناه من الخطب، وما سوف نخطبه، لا يخرج عن فحواها، ولا يبعد عن معناها، ولا يجاوز مغزاها؛ ولكنه حديث موجز، وشرح مختصر، وبيان سريع، لنستفيد من العظة، ونقف على العظمة، ونتأمل البلاغة، وننظر إلى الفصاحة، ونرى أسرار البيان، ودلائل الإعجاز.
أمر تعالى بثلاثة أوامر، أمرين أساسيين وتكملة، ونهى عن ثلاثة أشياء، شيئين أساسيين وتكملة.
بدأت الآية بالجملة الاسمية المؤكدة إعلانا بشأنها، وتأكيدا على سموها، ثم ذكر لفظ الجلالة "الله" ليكون الأمر أقوى أثرا، وأسرع قبولا، وأجدر امتثالا؛ فلم يقل عليكم بالعدل، أو أُمرتم بالعدل، وإنما صرح بالآمر الناهي؛ ليعرف قدره، ويمتثل أمره، (إن الله يأمر)، فهو أمر وليس إخبارا أو ندبا أو بيانا لمكارم الأخلاق فقط، بل هو أمر يجب أن يطاع.
(بالعدل)، فهو روح الحياة، وقوام الدنيا، وأساس الدين؛ والله تعالى حكم عدل، والسماوات والأرض قامتا على العدل، (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقَاً وَعَدْلَاً) [الأنعام:115]. والعدل : هو إعطاء الحق إلى صاحبه، وهو بمعنى المساواة والإنصاف.
وأعدل العدل عدل الإنسان مع ربه جل وعلا، بأن يعبده حق عبادته، ويوحده، ولا يجعل له ندا، ولا يرتضي له شريكا، فهو الخالق الرازق، المنعم المتفضل، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، فمن أشرك معه غيره، فقد خالف مقتضى العدل، ومال إلى الظلم والجور والطغيان، فالإنسان مطالب بالعدل مع نفسه: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة:195]، ومع ربه، ومع الخلق.
فالعدل صفة كمال وجمال، ولا بد أن تقوم حياة المسلم على العدل في كل أفعاله وأحواله، وأحكامه وأقواله، عدل في الأقوال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام:152]، وعدل في الكتابة: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْلِ) [البقرة:282]، وعدل في الأحكام : (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء:58]، وعدل مع الأعداء: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة:8]، وعدل في الصلح بين المسلمين: (فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات:9]، وعدل مع النساء: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) [النساء:3]، وعدل مع الأبناء: "اتقوا الله، واعدلوا بين أبنائكم" متفق عليه.
فالعدل هو الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالود والبغض، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب، والقريب والبعيد، والغني والفقير، والقوة والضعف، إنما تمضي قاعدة العدل في طريقها، وتطبق على كل الناس والأجناس، وتكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان عادل للكل، فكم من دول تدعي أنها راعية العدل، ورائدة المساواة، وهي تكيل بمكيالين، وتنظر بنظرين، وتتعامل بأسلوبين، عدل مع من تحب وتهوى أو تجد متاعها عنده، وظلم مع من تكره وتبغض، أو من يخالف هواها، ويحيد عن رضاها، أو من قالت له: هيت لك، فقال: معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي.
وإن الله تعالى ينصر الدولة العادلة حتى لو كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة حتى ولو كانت مسلمة، وكم من ولاة يدعون العدل مع شعوبهم، وهم فجَرة ظلَمة، سفاكون باطشون مصاصو دماء، يمتصون عرق الناس، ويبتزون حقوق الضعفة، ويُعملون أسواط الظلم والجور والبغي في عباد الله؛ وكم من أناس يدعون العدل في إداراتهم ومؤسساتهم وشركاتهم وطلابهم وزوجاتهم وأبنائهم، والعدل بريء منهم براءة الذئب من دم قميص يوسف.
ولكن أين هؤلاء جميعا من الحكَم العَدْل -جل شأنه، وعظم سلطانه- الذي إذا ارتفعت إليه دعوة المظلوم قال: "وعزتي وجلالي لأنصرنَّكَ! ولو بعد حين"، والذي يقول: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]. إن الله -جل وعلا- أمر بالعدل، فويل لمن خالف أمره، وتنكب هديه، وتمرد على شرعه! .
ولما أمر تعالى بالعدل، بيَّن أن هنالك مرتبة أسمى ودرجة أعلى، وهي الإحسان، فالعدل هو المساواة في المكافأة إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه، والشر بأقل منه؛
ولذلك ذكر الإحسان بعد العدل، تذكيرا به، وتنويها بشأنه، فهو يلطف حدة العدل الصارم الجازم أحيانا، وهو يدع الباب مفتوحا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه طلبا للأجر، وطمعا في المغفرة، وإيثارا لود القلوب، ورأبا لصدع النفوس، وشفاء لغل الصدور.
والإحسان باب يلجه من أراد أن يأتي بما فوق العدل الواجد، وأعظم من الإنصاف المتحتم؛ ليكسب فضلا، أو يداوي جرحا؛ ولذلك يقول تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل:126]، هذا هو العدل، (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [النحل:126]، هذا هو الإحسان. ويقول تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى:40]، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134].
فالإحسان فوق العدل منزلة، وأسمى منه خلقا، والإحسان يختلف معناه باختلاف السياق الذي يرد فيه، فإن ورد مقترنا بالإيمان والإسلام كان المراد به الإشارة إلى المراقبة والتقوى وحسن الطاعة، وذلك مثل جوابه -صلى الله عليه وسلم- لجبريل حينما سأله عن الإحسان، قال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"؛ وإذا ورد الإحسان مطلقا فالمراد به فعل كل ما هو حسن، وكل ما هو حسن يرجع إلى القاعدة الأولى، وهي أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإذا أحسن المسلم في أمر من الأمور فهو ممتثل لتلك القاعدة، وهو من المحسنين.
والإحسان من أفضل منازل العبودية، لأنه لب الإيمان، وروح الإسلام، وكمال الشريعة، وهو يدخل في سائر الأقوال والأفعال والأحوال، وأعظم درجات الإحسان هي الإحسان مع الله -جل وعلا-، ثم إحسان المرء مع نفسه وأهله وسائر المخلوقين، حتى يشمل البهائم والعجماوات، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح" أخرجه مسلم.وقد ورد في الحديث الصحيح: "أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حارٍّ يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها" رواه مسلم.
وكل أصول وفروع المعاشرة وآدابها، وكل قوانين التعامل، ترجع إلى الإحسان، فهو يشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعا، بل وعلاقاته بسائر المخلوقات.
والمحسن محبوب من المخلوقين، ومحبوب من الخالق، ولذلك كانت مرتبة المحسنين عند الله تعالى عظيمة، ومرتبتهم كبيرة، ودرجاتهم عالية، قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن:60]، أي ليس من جزاء لإنعامي عليكم بالإيمان والتوحيد إلا الجنة، وبين تعالى أنه مع المحسنين بتوفيقه وحفظه وتأييده، فقال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل:128]، وأعلن -جل وعلا- محبته للمحسنين في أكثر من آية فقال: (واللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) [آل عمران:134]، وأخبر تعالى أن رحمته قريبة من المحسنين، فقال: (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِن الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56]، وطَمْأَنَ المحسنين بأن إحسانهم محفوظ، وعملهم مشكور، وفعلهم مبرور، فقال: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [هود:115]ـ، بل أدخل السرور عليهم، وأعلن البشارة لهم، فقال في آيات كثيرة: (وَبَشِّرِ المحْسِنينَ) [الحج:37 وغيرها].
ثم بين جل وعلا نوعا من أنواع الإحسان، وهو إيتاء ذي القربى، وهو داخل في مضمون الإحسان، ولكن ذكره الله تعالى تنبيها عليه، وتذكيرا به، وإعلاء لشأنه، فإن البذل والعطاء والفضل والإحسان يجب أن ينطلق من القريب، ثم يتسع بعد ذلك ليشمل البعيد، (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) [الإسراء:26]، وقد خص الله تعالى ذا القربى لأن الإحسان إليه مما تكثر الغفلة عنه، ويتهاون الناس به، فيهتمون بالبعيد وينسون القريب؛ لاعتبارات كثيرة، ولقد كان من خلق الجاهلين أنهم يقصدون بوصاياهم وأموالهم أصحابهم من وجوه القوم، وعِليَة الناس؛ لاجتلاب المحمدة، وحسن الذكر، والتباهي، فذكر الله العدل والإحسان، وبيَّن أن من بين جنس العدل والإحسان ومن أتمه الإحسان إلى ذي القربى، تنبيها للمؤمنين بأن القريب أحق بالإنصاف من غيره، وأولى بالإحسان من سواه.
(وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [النحل:90]. إذا نهَى الله تعالى عن أمر من الأمور فإنه يجب الانتهاء عنه، وقد جمع أسباب الشر، ودواعي الردى، وأخلاق السوء في هذه الآية، ناهيا عنها، ومحذرا منها.
ومن ذلك الفحشاء، وهي اسم جامع لكل عمل أو قول تستفظعه النفوس لفساده، (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) [الأعراف:33]، وقال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) [الأنعام:151]؛ فكل أمر عظم قبحه، وكبر فساده، هو من الفواحش، ومما خص بالفحشاء في الغالب، فاحشة الاعتداء على العرض، لأنه فعل فاحش، فيه تجاوز للحد، فإذا أطلقت الفاحشة، فالمقصود بها الزنا والعياذ بالله، وقد حذر الله تعالى منه، وبين سوء عاقبته، فقال: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) [الإسراء:32].
والمنكر : هو كل فعل تنكره الفطرة السليمة، والنفوس القويمة، وتنكره الشريعة، فالشريعة هي شريعة الفطرة والحق، والخير والجمال والكمال.
وبعد أن ذكر الله تعالى الفحشاء والمنكر، خص بالذكر نوعا من أنواع الفحشاء والمنكر، وهو البغي، لأنه مما تنساق النفوس إليه، وتغفل عن قبحه وعاقبته، وهو الاعتداء في المعاملة، إما بغير ذنب، وإما بوجود ذنب يقابل بعقاب جائر مفرط، فالبغي هو الظلم والجور، وتجاوز الحق، وتنكب العدل، وهو يشمل كل اعتداء على الخلق في الدين، والدماء، والأموال، والأعراض، وغيرها.
وما من مجتمع يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي، وما من مجتمع تشيع فيه الفاحشة ثم يقوم أو يكتب له الفلاح.
وإن الفطرة البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة، والمنكرات المقيتة، مهما بلغت قوتها، ومهما يستخدم من الوسائل لحمايتها؛ وانظر إلى الغرب الذي وصل إلى الحضيض، وغاص في أوحال الفواحش والمنكرات، بدأ الناس الآن يضجون بذلك، ويبحثون عن المخرج، ويفتشون عن النجاة، ويتطلعون إلى مجتمع شريف عفيف، تقي نقي، بعد أن اكتووا بنار الفواحش، واصطلوا بجحيم المنكرات، وفشت فيهم الأمراض الفتاكة، وشاعت فيهم الأخلاق المقيتة، وخربت نفوسهم وأظلمت قلوبهم، وضاقت صدورهم، وفسدت حياتهم.
إن هذه الآية موعظة صادقة للمؤمنين، وتذكرة ناصحة للمسلمين، (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
ومما في هذه الآية من ضروب البلاغة ما يلي:
أولا: الإيجاز الذي بلغ حد الإعجاز، حيث جمعت المعاني الكثيرة تحت الألفاظ القليلة، وهذا إيجاز بالمعنى، وفيها إيجاز بالحذف، في مثل قوله : (وينهى)، فلم يقل وإن الله ينهى، وقوله : (يعظكم) فلم يقل : إن الله يعظكم.
ثانيا: استعمال أداة التعريف "أل" في كل الكلمات : العدل، الإحسان، الفحشاء، المنكر، البغي، إلا الإيتاء؛ لأنه خصصه وعرفه بأنه إيتاء ذي القربى، وهذا التعريف يدل على العموم والاستغراق، فلم يقل يأمر بعدل أو إحسان، إنما بالعدل كل العدل، والإحسان كل الإحسان، وينهى عن الفحشاء كل الفحشاء، والمنكر كل المنكر، والبغي كل البغي.
ثالثا: استعمال الفعل المضارع الذي يدل على التجدد والحدوث والاستمرار، فلم يقل أمر أو نهى، بل يأمر، وينهى، ويعظ.
رابعا: ما يعرف في البلاغة بالطباق، وهي هنا في قوله : يأمر، وينهى. وما يعرف بالمقابلة، وهي هنا بين ثلاثة أوامر، وثلاثة نواه.
خامسا :الترتيب والتسلسل المنطقي البديع، فلما أمر بالعدل، بيَّن أن فوقه مرتبة، ودعا إليها ضمنا، وهي: الإحسان؛ ولما ذكر الإحسان بين نوعا من أهم أنواعه يغفل عنه الناس، وهو الإحسان لذي القربى. ولما نهى عن الفحشاء، دفع ما قد يتوهمه بعض الناس من أن النهي فقط عن فاحشة الزنا فبين أن النهي يشمل جميع المنكرات، ولما نهى عن المنكر أشار إلى منكر من أعظم المنكرات، قد يغفل عنه الناس وهو البغي والظلم، والتجاوز، فبدأ الأوامر بالعدل وختمها بالنهي عن الظلم والطغيان.
سادسا: حسن النسق، وجمال الترتيب، وعطف الجمل بعضها على بعض، والبدء بالأمر بالمحبوبات، ثم العطف عليه بالنهي عن المكروهات؛ ولم يتأخر في الكلام ما يجب تقديمه، ولم يتقدم ما يجب تأخيره.
ثم ختم ذلك كله بعبارة مستحسنة، وجملة لطيفة، وخاتمة طريفة، (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاحتوت الآية على ضروب من المحاسن والقضايا، وأشتات من الأوامر والنواهي والمواعظ والوصايا، مما لو بُث في أسفار عديدة ما كفتها.
فسبحان من ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته، وكلامه وأحكامه! وتبارك من جعَل كلامه هدى وشفاء، ونورا وفرقانا وبيانا، (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر:23].