الجواد
كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...
العربية
المؤلف | عبدالباري بن عواض الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
هذه نماذج خاطفة، وإشارات عابرة، لأناس امتلأت قلوبهم من محبة الله، فقرت أعينهم، وسكت نفوسهم، واطمأنت جوارحهم، فصارت خطرات المحبة مكان خطرات المعصية، وإرادة التقرب إليه مكان إرادة معاصيه ومساخطه، وحركات اللسان والجوارح بالطاعات، مكان حركاتها بالمعاصي. أين هؤلاء ممن لا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الخلق للطاعة والعبادة، أحمده سبحانه وأشكره، يسر أسباب السعادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد المؤمنين الحسنى وزيادة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، حث على كل خير وحذر من الضلال والغواية، صلى الله عليه صلاة دائمة إلى يوم القيامة.
أما بعد:
فأوصيكم –ونفسي- بتقوى الله، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
يقول الحسن البصري -رحمه الله تعالى- واصفاً اجتهاد السلف في العبادة: "لقد أدركت أقواماً، وصحبت طوائف، فما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل، ولا يحزنون على شيء أدبر، وكانت في أعينهم أهون من التراب الذي يطؤون عليه، وكانوا عاملين بكتاب ربهم وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا إذا جن الليل قاموا على أقدامهم، وافترشوا وجوههم، وجرت دموعهم على خدودهم".
وكان ابن عمر: إذا فاتته صلاة الجماعة صام يوماً، وأحيا ليلة، وأعتق رقبة، وقالت فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "ما رأيت أحداً أكثر صلاة ولا صياماً منه، ولا أحد أشد فرقاً منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يذكر الله حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، ولقد كان يكون على الفراش، فيذكر الشيء من أمور الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور من الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف".
وعن وكيع قال: "كان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة، فما رأيته يقضي ركعة".
وقال سليمان بن حمزة المقدسي: "لم أصل الفريضة قط منفرداً إلا مرتين، وكأني لم أصلها قط".
مع أنه قارب التسعين حتى مات -رحمهم الله تعالى-.
هذه نماذج خاطفة، وإشارات عابرة، لأناس امتلأت قلوبهم من محبة الله، فقرت أعينهم، وسكت نفوسهم، واطمأنت جوارحهم، فصارت خطرات المحبة مكان خطرات المعصية، وإرادة التقرب إليه مكان إرادة معاصيه ومساخطه، وحركات اللسان والجوارح بالطاعات، مكان حركاتها بالمعاصي.
أين هؤلاء ممن لا يؤدي الصلاة إلا بتثاقل وتباطؤ، وقلة رغبة، بل تؤدي مجرد حركات بلا خشوع ولا إخبات؟
أين هؤلاء ممن لا يقومون إلى الصلاة إلا وهم كسالى؟
أين هؤلاء من قوم أصابتهم الغفلة عن قراءة القرآن وعن ذكر الله، وعن التوبة والاستغفار؟
أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد تغلغل حب العبادة في قلبه، وأعظم مظهر لعبادته أنه كان مسلماً وجهه إلى الله في جميع الحالات، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله)[النساء: 125].
كان يخشى الله في كل أحواله، ويذكره دائماً ويستغفره، فيقول: "والله إني لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" [رواه البخاري].
كان يتعبد الله في الليل، ويصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، ويقوم مصلياً حتى تنتفخ قدماه، فيقال له: يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: "أفلا أكون عبداً شكوراً" [رواه البخاري ومسلم].
كان صلى الله عليه وسلم يصوم ويتصدق، فيعطي غنماً بين جبلين.
والعجب كل العجب في عبادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك الجمع الغريب، بين أرقى مراتب التعبد، وبين القيام بقيادة أمته، ويقول: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" [رواه البخاري].
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "القلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم، ولا يسر ولا يلتذّ، ولا يطيب ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحده، ولو حصل كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذا فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة، فهو معبوده ومحبوبه ومطلوبه".
أعظم أنواع العبادة أداء ما فرضه الله، وتجنب ما حرمه الله -تعالى-؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قال... وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه" [رواه البخاري].
لما كانت حياة السلف كلها عبادة تزاحمت بين يديهم العبادات بم يبدؤون؟ وماذا يقدمون؟
فأجاب العالم الرباني ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "إن أفضل الأعمال أحبها إلى الله، وأرضاها له عز وجل في ذلك الوقت".
ثم يفصل قائلا: "فالأفضل في وقت حضور الضيف: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حقوق الزوجة والأهل".
والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة، والقرآن والدعاء والذكر.
والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها، والمبادرة إليها.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلواتك.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته، وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر، مع خلطتك بهم، وعدم هربك منهم.
ثم يقول: "فلا يزال العبد متنقلاً بين منازل العبودية: إن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين رأيته معهم يسير على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه" [انتهى كلامه -رحمه الله-].
قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56].
نص من أربع كلمات يتضمن حقيقة هائلة: إننا لم نخلق إلا للعبادة، ولا يقبل الله إلا أن نمضي حياتنا في العبادة، فالصلاة والصوم، والزكاة والحج عبادة، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان للجار واليتيم والمسكين، وابن السبيل عبادة، والدعاء والذكر والقراءة عبادة، وحب الله ورسوله والإنابة إليه عبادة، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه؛ كل ذلك عبادة.
إن ما أصاب المسلمين في تاريخهم الطويل، وما يصيبنا اليوم من المصائب الكثيرة، إنما هو بسبب الضعف الحاصل في عبادة الله -عز وجل-، حين حصروا مفهوم العبادة بالشعائر التعبدية فقط، فحين يعبد ينقطع عن العمل، وحين يعمل ينقطع عن العبادة، هذا هو المفهوم السائد، سواء عبروا عنه بلسان مقالهم، أم بلسان حالهم وأعمالهم.
لذا تجد المصلي الصائم القارئ للقرآن، لا يتورع أن يغش، أو يرابي، أو يظلم، وتجد المرأة المصلية الصائمة لا تتورع أن تخالف الشرع بسفور، أو اختلاط، أو زينة محرمة.
اخوة الإسلام: الأعمال الحيوية، التي تميل لها النفس، تزهر بالنية الصالحة، وتسمو لتصبح عبادة، وكذا المباحات تستقر في صحيفة أعمالك طاعات، فالزارع في حقله، والعامل في مصنعه، والتاجر في متجره، والموظف في مكتبه، وكل ذي حرفة في حرفته، يستطيع أن يجعل من عمله عبادة، وحين يكون العمل عبادة، فلن يلوثه صاحبه بالخيانة، ويفسده بالغش، ويسود صفاءه بالكذب والخديعة، وأكل أموال الناس بالباطل.
هذا هو المفهوم الواسع للعبادة، والتصور الشامل للطاعة يجعل المسلم ينبوعاً يفيض بالخير والرحمة، ويتدفق بالنفع والبركة، فتنشط همته، وتقوى عزيمته للعبادة، ونصرة الأمة، فيمسح دمعة محزون، ويخفف كربة مكروب، ويضمد جراح منكوب، وهو يستشعر في هذا العمل معنى العبادة، وكذلك يسد رمق محروم، ويشد أرز مظلوم، ويقيل عثرة مغلوب، ويقضي دين غارم مثقل، سيبذل جهده للعبادة، فيهدي حائراً، ويعلم جاهلاً، ويدفع شراً عن مخلوق، أو أذى عن طريق.
إنك تستطيع في اليوم الواحد أن تضع لبنا صالحة في بناء الأمة، وتضيف إلى ميزان عبادتكم وحسناتك أعمالاً لها ثقلها وقيمتها في ميزان الآخرة، وإن بدت عندك هينة خفيفة في الميزان، واستمع إلى قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة" ]أخرجه أبو داود].
ويقول عليه الصلاة والسلام في عيادة المريض: "من عاد مريضاً، أو زار أخاً له في الله، ناداه مناد: أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا" [رواه الترمذي].
ويروي مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يمشى بطريق وجد غضن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفر له".
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عُرضت على أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها: الأذى يماط عن الطريق".
إن إنحصار العمل الصالح في عبادات خاصة، جعل طلاب التقوى يشغلون أوقاتهم، بتكرير أعمال محدودة؛ كأنهم لا يرون غيرها وسيلة إلى مرضاة الله، وتركوا عمارة الأرض.
إخوة الإسلام: اتقوا لله، واحذروا ما يبطل العبادة، أو يذهب ثوابها، ومن ذلك: الشرك بالله -عز وجل-، ومنه: الرياء والسمعة، قال تعالى: (وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[الأنعام: 88].
ومن ذلك: الإحداث في الدين، قال صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" [رواه مسلم].
ومن ذلك: ظلم الناس، والتعدي عليهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم؛ فقد جاء في الحديث: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" [أخرجه مسلم].
ومن ذلك: بعض الكلمات الخبيثة التي ينطق بها الإنسان من غير تفكير في عواقبها؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل ليتكم بالكلمة من سخط الله لا يرى بها بأساً فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً" [أخرجه ابن ماجة].
وحدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رجلا، قال: "والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله -تعالى- قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك" [أخرجه مسلم].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة".
إن عبودية الله تقتضي إشغال جميع الجوارح، والأحاسيس في طاعة الله، وامتثال أمره، فيتعبد الله بترك ما يحرم استماعه من كلام أهل الكفر والإلحاد.
ويتعبد الله بحفظ البصر عن النظر إلى ما حرم الله، ويستعمله في النظر الواجب، كالنظر في المصحف، وكتب العلم.
ويتعبد الله تعبداً صحيحاً بجارحة اللسان، وذلك بإشغاله دائماً بذكر الله وما والاه، من الكلم الطيب، وبحفظه من فضول الكلام، مبتعداً عن قول الزور، واللمز والاغتياب، وينشغل عن ذلك بالكلم الطيب، من الذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح بين الناس.
ويتعبد الله -سبحانه وتعالى- بجارحتي اليدين والرجلين، فلا يبطش بيديه إلا لله وفي الله، حسب مرضاة الله.
ويلاحظ التزام عبودية الله في رجليه، حاصراً مشيه بهما في طاعته ومرضاته، فيسعى بهما إلى إقامة الصلاة في الجمع والجماعات، والتكسب للقيام بالواجب.
قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام: 162-163].
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، ومعلم البشرية الخير.