القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان |
نبَّه أهلُ العلم أنه عند حُصولِ وباءٍ عامٍّ أن يُبادِرَ المُسلِمون بالتضرُّع إلى الله، واللُّجوءِ إليه بالدعاء والاستِغفار،.. ولم تُرفَع المصائِب والابتِلاءات بمثلِ اللُّجوءِ إلى الله، والتعلُّق به، والذِّكر والاستِغفار.. ولاسيَّما أن سببَ انتِشار هذه الأمراض ونُشوئِها: التهاوُن في اقتِرافِ الفواحِش، والإسرافُ في المُحرَّم من الملذَّات، وإطلاقُ العنان للمنوعِ من الشَّهَوات، والعُهرُ والمُجونُ والشُّذوذُ الجنسيُّ والزِّنا، والإحصاءات العالميةُ في ذلك مُخيفةٌ ومُقلِقةٌ ومُؤذِنةٌ بهلاكٍ ودمارٍ، ناهِيكم بأن من تعمَّد نشرَ الأمراض المُعدِية فهو مُفسِدٌ يستوجِبُ العقوبةَ الرَّادِعة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمدُ لله رب الأرباب، ومُسبِّب الأسباب، مُعظِم الأجر ومُجزِل الثواب، أحمدُه - سبحانه – وأشكرُه، والَى علينا نعمَه وهو الكريمُ الوهاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا إله إلا هو عليه توكلتُ وإليه متاب، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُنتخَبُ من أشرف الأنساب، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابِه الغُرِّ الميامين خيرِ آلٍ وأكرمِ أصحاب، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم المآب.
أما بعد: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -.
ما للعيونِ مع الوعيدِ جامِدة؟! .. وما للعقولِ مع المواعِظ سامِدة؟! .. هل أمِنَت الدوائِر .. أم نسِيَت ذنوبَها صغائِرها والكبائِر؟! .. كأن سِواها هو المطلوب .. وكأن غيرَها هو المُحاسَبُ والمسؤول.
ألا فجِدُّوا - رحمكم الله -، جِدُّوا واجتهِدوا .. أفيضُوا الدمعةَ قبل أن تتعذَّر الرجعة .. واستعِدُّوا للبَلِيَّة قبل حلول المَنِيَّة.
اسلُكوا - رحمكم الله - سُبُل الهُدى، وتجنَّبُوا مسالِك الغفلَة والرَّدَى، واعمُروا القلوبَ بالتقوى؛ فالآخرة خيرٌ وأبقَى، (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق: 19- 22].
أيها المسلمون: حفِظَ الإسلامُ الإنسانَ في دينِه ونفسِه وعقلِه ونسلِه ومالِه، وحفِظَ عليه عقيدتَه وعبادتَه، وصحَّتَه وعافيتَه. والبشرُ في ميزان الشرع مُتساوُون في أصل الكرامة الإنسانية، والحقوق والمسؤولية .. لا تفاضُل إلا بالتقوى.
ومن هنا، فلا صلاحَ ولا فلاحَ لهذا الإنسان إلا بالاستِقامة على شرع الله، ثم ما يُبدِيه البشرُ جميعًا من تعاوُنٍ وتآزُرٍ لإصلاحِ الأرض، وحُسن عمارتِها، وحِفظِ أهلِها، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24].
ومن أعظم ما يُجسِّدُ المسؤولية المُشتركَة للحِفاظ على الإنسانيَّة في مسيرتها، والجماعةِ في مُكوِّناتها واستِقامتها على شرعِ الله.
من أعظم ما يُجسِّدُ ذلك: هذا التمثيلُ النبويُّ الكريمُ في قولِه - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مثلُ القائِمِ على حُدودِ الله والواقعِ فيها كمثَلِ قومٍ استهَمُوا على سفينةٍ، فأصابَ بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفَلِها إذا استَقَوا من الماء مرُّوا على من فوقَهم، فقالوا: لو أنَّا خرَقنَا في نصيبِنا خرقًا ولم نُؤذِ من فوقَنا، فإن تركُوهم وما أرادُوا هلَكُوا جميعًا، وإن أخذُوا على أيديهم نجَوا جميعًا»؛ (أخرجه البخاري في "صحيحه" من حديث النُّعمان بن بشير - رضي الله عنه -).
ومن هذا المُنطلَق - أيها المسلمون- اهتمَّ أهلُ العلم بكل ما يتعلَّقُ بأحوال الإنسان وحاجاتِه في غذائِه ودوائِه، وصحَّته وسلامتِه، في أحوال الاختِيار وأحوالِ الاضطِرار، أخذًا من نُصوص الشارِع وغاياتِه ومقاصِدِه وحِكَم تشريعِه.
ومن أعظم أوجُه التعاوُن وأوسَعِ أبوابِه - عباد الله -: ذلك الإحساسُ العميقُ والشعورُ النَّبيل بمن ابتُلُوا ببعضِ ابتلاءات الدنيا في أبدانِهم وأهلِيهم. تعاوُنٌ ينعَمُ فيه المُجتمع بكل فِئاتِه وأطيافِهن أصِحَّائِه ومرضاه، ينعَمون بهُدوءِ البال، وراحةِ النفس، ولتُظلِّلَهم فيه الحياةُ الهانِئة والعيشُ الكريم.
يتجلَّى ذلك - عباد الله - في استِعراضِ ما ينبغي من مواقِف وحُسن سُلُوك وتصرُّفٍ من بعض الأمراض التي يُبتلَى بها بعضُ العباد، وبخاصَّةٍ الأمراض المُعدِية - عفانا الله وإياكم، وشفَى مرضانا ومرضى المسلمين -.
فالعدوَى حقٌّ، وهي تُعدِي - بإذن الله - وتقديرِه وجعلِه، ومعلومٌ طبعًا وواقعًا أن العدوَى تُصيبُ بعضَ الناس دون بعضٍ؛ فالعدوَى إذا أذِنَ الله أعدَت وسرَت، وإن لم يأذَن لم تُعدِ ولم تنتقِل، وبعضُ من يُخالِطُ المريضَ مُصاب، وآخرُ لا يُصاب، والجميعُ في مكانٍ واحدٍ.
ودخولُ المُعدِيات إلى البدَن لا يلزمُ منه حصولُ العدوَى، ومن هنا قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا عدوَى ولا طِيَرَة، ولا هامَةَ ولا صفَر، وفِرَّ من المجذُوم فِرارَك من الأسَد»؛ (أخرجه البخاري تعليقًا، ووصلَه أبو نُعيم وابنُ خُزيمَة).
أي: أن المُخالطَة من الأسباب، والأسبابُ قد تُنتِجُ وقد لا تُنتِج. فالله - عزَّ شأنُه وتعالى سُلطانُه - هو ربُّ الأرباب، وهو مُسبِّبُ الأسباب، لا إله إلا هو، وقد قال - عزَّ شأنُه - في السِّحر: ( وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) [البقرة: 102].
فالمُؤمنُ يعتقِدُ اعتِقادًا جازِمًا أن الله هو الحافظُ المُدبِّرُ المُتصرِّف، وهو الذي خلقَ الأسباب، وأذِنَ بفعلِها وتأثيرِها، والمُسلمُ يتَّخِذُ الأسبابَ لجلبِ النَّفعِ ودفعِ الضرِّ، مع اعتِقادِه أن الله - سبحانه - هو ربُّ الأرباب ومُسبِّبُ الأسباب يأذَنُ بتأثيرِها، ويمنَعُ من تأثيرِها، فهو المالِكُ المُتصرِّفُ - عزَّ شأنُه -.
والمُؤمنُ يرُدُّ قدَرَ الله بقدَرِ الله. فالأمراضُ والأدويةُ والعلاجُ والشفاءُ كلُّها بقدَرِ الله وإذنِه ورحمتِه.
وشرعُنا جمعَ بين التوكُّل والأخذ بالأسباب؛ فالتداوِي يدفعُ المرض - بإذن الله - كما يدفعُ الأكلُ الجوعَ، وكما يدفعُ الماءُ العطشَ، والحرُّ والبردُ تُدفعُ بأضدادها.
بل لقد قرَّر أهلُ العلم أن حقيقة التوحيد لا تتمُّ إلا بمُباشَرة الأسباب التي نصبَها الله مُقتضَيَاتٍ لمُسبَّباتها قدَرًا وشرعًا. وتعطيلُ الأسباب وإهمالُها يقدَحُ في تحقيق التوكُّل؛ فلا يجعلُ العبدُ عجزَه توكُّلاً ولا توكُّلَه عجزًا.
معاشر المسلمين: ومن ابتُلِيَ بشيءٍ من هذه الأمراض المُعدِية فينبغي أن يبذُلَ من الأسباب ما يُؤدِّي إلى سلامتِه وسلامةِ نسلِه وأولادِه، باختِيارِ زوجٍ أو زوجةٍ لا يتأثَّرُ نسلُها بمرضِه، ويُراجِعُ في ذلك أهلَ الاختِصاص من الأطباء والخُبراء ليُرشِدوه إلى ما يُناسِبُ حالَه، مع ما ينبغي من الاهتِمام بالكشفِ الطبِّي قبل الزواج، والمصالِح الكبيرة المُترتِّبة عليه، وما لوليِّ الأمر من حقِّ الإلزام؛ إذ تصرُّفُه منُوطٌ بالمصلَحة العامَّة كما يُقرِّرُ أهلُ العلم.
وينبغي للخطِيبَين إخبارُ كل واحدٍ منهما صاحبَه بما يحمِلُه من مرضٍ ليكونَ على بيِّنةٍ، وليتَّخِذَ من الإجراءات والاحتِياطات التي تجلِبُ لهما السلامةَ - بإذن الله - ولذرِّيَّتهما، وتمنعُ انتِشارَ المرض فيهم وفي ذُرِّيَّتهم.
وقد ذكرَ أهلُ العلم أن السلامةَ من العيوبِ المُثبِتة لخِيارِ الفَسخِ حقٌّ للمرأة وأوليائِها، وحقٌّ للخاطِب وأهلِه في الأمراض المُعدِية الدائِمة غير المُؤقَّتة.
ومن الأسبابِ النافِعةِ - بإذن الله -: أخذُ اللِّقاحات والتطعيمَات؛ لما عُلِم من فائدتها وكبير أثرِها.
ومن الأسباب العلاجِية والوِقائيَّة: الطهارة والنظافة، وقد حضَّ دينُنا على الطهارة، وجعلَها من الإيمان؛ بل جعلَها شطرَ الإيمان في قولِه - صلى الله عليه وسلم -: «الطُّهور شطرُ الإيمان».
فأمَرَ بالغُسْلِ والتنظُّف من الأوساخِ والأدران، وتجنُّب الروائِح الكريهَة وطردِها، وفي التنزيلِ العزيز: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222].
والطهارةُ عندنا - أهل الإسلام - تشملُ طهارةَ البدنِ والثوبِ والمكانِ، فيكونُ المُسلمُ على هيئةٍ حسنةٍ في بدنِه ولباسِه وسكنِه ومرافِقِه كلِّها، بعيدًا عن الأدران المُكدِّرة والهيئات المُنفِّرة.
والمؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ. مؤمنٌ قويٌّ يتحمَّلُ أعباءَ الحياة ويقوم بالمسؤوليَّات على وجهها.
والمُسلمُ مأمورٌ بغَسل يدَيه إذا أراد النوم، وإذا استيقظَ من النوم، وعند الأكل؛ أخرج ذلك كلَّه مسلمٌ في "صحيحه".
ولما كانت النفوسُ قد تتكاسَلُ عن الاغتِسال وجَّه - عليه الصلاة والسلام - بقولِه: «حقٌّ على كل مسلمٍ أن يغتسِل في كل سبعةِ أيامٍ يغسِلَ رأسَه وجسدَه» (أخرجه البخاري).
ومن التوجيهات في ذلك: نظافةُ البيوت والأفنِية والطُّرق، وإماطةُ الأذى عن الطريق صدقةٌ، والنهيُ عن التبوُّل في المياه الراكِدة والدائِمة، وتلويثِ موارِد الناس وأماكِن استِظلالهم وتنزُّههم وجُلوسِهم ومرافِقِهم، بالبَول أو الغائِط أو غيرِها من المُلوِّثات، وإماطةُ كل ما يُؤذِي الناسَ ويُكدِّرُهم.
ومن النظافة: وضعُ اليَد والمِنديلِ ونحوِه على الفَم والأنفِ حين العِطاس والسُّعال وغيرِها. والمنعُ من التنفُّس في الإناء، وتجنُّب استِعمال أدواتِ المُصاب.
معاشر المسلمين: ومن الجمعِ بين الأخذ بالأسبابِ واليقين وحُسن التوكُّل ما يُعرَفُ بـ "الحَجر الصحِّيّ"، وهو عزلُ المُصابين عن الأصِحَّاء، وفي ذلك جاء التوجيهُ النبويُّ: «لا يُورَدُ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ» (أخرجه البخاري).
وما جاء في "الصحاح" و"السنن" أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إن هذا الطاعُون رِجزٌ وبقيةُ عذابٍ، عُذِّبَ به أناسٌ قبلَكم، فإذا كان بأرضٍ وأنتم فيها فلا تخرُجوا منها، وإذا بلغَكم أنه بأرضٍ فلا تدخُلُوها». والمُرادُ بالطاعُون: كلُّ مرضٍ يعُمُّ ويسرِي وينتقِل.
معاشر الإخوة: ومما ذكرَ أهلُ العلم في ذلك: أن المُصابَ لا يحضُرُ مجامِعَ الناس إذا كان مرضُهُ ينتقِلُ بالمُخالطَة من مُجالسَةٍ أو مُلامَسَةٍ أو تنفُّسٍ، فلا يحضُرُ الجُمعةَ ولا الجماعةَ، ومثلُ ذلك: السفرُ إلى الحجِّ والعُمرة والزيارة؛ لما يحصُلُ بذلك من الضرر والأذى.
قالوا - أهلُ العلم - قالوا: "وهو أشدُّ من أذى الثُّوم والبصَل والكُرَّاث".
وليعلَم المريضُ الذي منعَه المرضُ - شفَاه الله وعافاه -، ليعلَمَ أن ثوابَ هذه الأعمال الصالِحة من جُمعةٍ وجماعةٍ، وحجٍّ وعُمرةٍ، وغيرها له كاملةٌ - إن شاء الله - إذا علِمَ الله صدقَ نيَّته وحِرصَه ولكن أقعدَه المرضُ، سواءٌ أقعَدَه لمصلَحة نفسِه أو لمصلَحة إخوانِه؛ لعُموم حديثِ: «إذا مرِضَ العبدُ أو سافرَ كُتِبَ له ما كان يعملُ صحيحًا مُقيمًا» (رواه البخاري).
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في العاجِزين عن الجِهاد: «إن في المدينةِ رِجالاً ما سِرتُم مسيرًا ولا قطعتُم وادِيًا إلا شرَكُوكم الأجر، حبَسَهم العُذر».
فدينُ الله يُسرٌ، وفضلُه واسِعٌ، والمريضُ مأجورٌ على صبرِه ومأجورٌ على رِضاه بقَدَرِ الله، ومأجورٌ على بذلِ الأسباب، ومرضُه مُكفِّرٌ لذنوبِه.
أيها الإخوة في الله: ومما ينبغي الالتِفاتُ إليه: بذلُ العنايةِ الخاصَّةِ بالمُصابين - بأهل الأمراض - عافاهم الله وعجَّل شفاءَهم -، وحُسن رعايتهم الرعايةَ الخاصَّة والمُعاملة التي تتطلَّبُها مثلُ هذه الأمراض، ولاسيَّما الأطفال في حضانتهم ورضاعِهم ورعايتهم.
مع ما يجبُ التنبيهُ إليه من حفظِ كرامةِ هؤلاء المُبتلَين، وعدم التطاوُل عليهم بلفظٍ أو إشارةٍ أو تندُّرٍ أو شماتةٍ أو استِهزاءٍ أو الازدِراءِ بأيِّ صُورةٍ من الصُّور، ناهِيكم بقذفِه - عياذًا بالله - في عِرضِه. وحينئذٍ يجبُ اتخاذُ الجزاء الرادِع في حقِّ هذا المُتجاوِز، وقد يكونُ بإقامةِ حدِّ القذفِ عليه.
وبعد، رحمكم الله: فالواجبُ حمدُ الله على العافية والسلامة، والمُبادَرةُ إلى بذلِ العون بالمُساعَدة لمن يحتاجُها؛ فالكرامةُ محفوظةٌ للجميع، «ومن سترَ مُسلِمًا سترَه الله في الدنيا والآخرة، واللهُ في عَونِ العبدِ ما كان العبدُ في عَونِ أخيه» (أخرجه مسلم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 22، 23].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقولُ قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله المُتوحِّد في قهرِه، المُتفرِّد بأمرِه، أحمدُه حمدَ شاكرٍ لما أَولاه، ومُعترِفٍ بما أسدَاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ حقٍّ لا ريبَ فيه، ويقينٍ لا شكَّ فيه، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه أفضلَ الصلوات وأزكاها، وعلى آلِهِ وأصحابِه أنزلَهم منازِلَ الكرامة أبرَّها وأعلاها، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا لا يتناهَى.
أما بعد، أيها المسلمون: لقد نبَّه أهلُ العلم أنه عند حُصولِ وباءٍ عامٍّ أن يُبادِرَ المُسلِمون بالتضرُّع إلى الله، واللُّجوءِ إليه بالدعاء والاستِغفار؛ فالدعاءُ لرفعِ الوباء مشروعٌ، وقد دعا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يرفعَ الوباءَ عن المدينة حين هاجَرَ إليها، دعا أن يرفعَ وباءَها إلى مهيَعَة.
وقد وردَ أن الطَّاعُون وخزٌ من الشيطان، فإذا أكثرَ العبدُ من ذكرِ الله ابتعَدَ الشيطان.
ولم تُرفَع المصائِب والابتِلاءات بمثلِ اللُّجوءِ إلى الله، والتعلُّق به، والذِّكر والاستِغفار، (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود: 52]، (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود: 3].
ولاسيَّما - حفظكم الله - أن سببَ انتِشار هذه الأمراض ونُشوئِها: التهاوُن في اقتِرافِ الفواحِش، والإسرافُ في المُحرَّم من الملذَّات، وإطلاقُ العنان للمنوعِ من الشَّهَوات، والعُهرُ والمُجونُ والشُّذوذُ الجنسيُّ والزِّنا، والإحصاءات العالميةُ في ذلك مُخيفةٌ ومُقلِقةٌ ومُؤذِنةٌ بهلاكٍ ودمارٍ.
ناهِيكم بأن من تعمَّد نشرَ الأمراض المُعدِية فهو مُفسِدٌ يستوجِبُ العقوبةَ الرَّادِعة.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، واستغفِرُوه وتُوبُوا إليه، وتواصَوا بالحقِّ، وتواصَوا بالصبر، ومُرُوا بالمعروف، وانهَوا عن المُنكَر، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 1].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في مُحكم تنزيلِه - وهو الصادقُ في قِيله -، قال قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافيةِ، ومُدَّ في عُمره على طاعتك، ووفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم من أرادَنا وأرادَ دينَنا وديارَنا وأمنَنا وأمَّتَنا ووُلاةَ أمرنا وعلماءَنا وأهلَ الفضل والصلاح والاحتِساب منَّا، ورِجالَ أمننا، وقوَّاتنا ووحدَتنا واجتماعَ كلمتنا بسوءٍ اللهم فأشغِله بنفسِه، اللهم فأشغِله بنفسِه، واجعَل كيدَه في نحرِه، واجعَل تدبيرَه تدميرًا عليه يا رب العالمين.
اللهم يا وليَّ المؤمنين، اللهم يا وليَّ المؤمنين، ويا ناصِر المُستضعَفين، ويا غياثَ المُستغيثين، يا عظيمَ الرجاء، ويا مُجيرَ الضعفاء، اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعَفين ومظلومين في فلسطين، وفي سوريا، وفي بورما، وفي أفريقيا الوسطى، قد مسَّهم الضرُّ، وحلَّ بهم الكرب، واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطُّغيان والتشريد والحصار، وسُفِكَت دماؤُهم، وقُتِل أبرياؤُهم، ورُمِّلَت نساؤُهم، ويُتِّم أطفالُهم، وهُدِّمت مساكنُهم ومرافقُهم.
اللهم يا ناصِر المُستضعَفين، ويا مُنجِيَ المؤمنين انتصِر لهم، اللهم انتصِر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشِف كربَهم، وارفع الضرَّ عنهم، وعجِّل فرَجَهم، وألِّف بين قلوبِهم، واجمع كلمتَهم الحقِّ والهُدى والسنَّة، ومُدَّهم بمددِك، وأيِّدهم بجُندك، وانصُرهم بنصرِك، اللهم إنا نسألُك لهم نصرًا مُؤزَّرًا، وفرَجًا ورحمةً وثباتًا.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، ومن شايعَهم، ومن أعانَهم، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، ومزِّقهم كل مُمزَّق، واجعل تدميرَهم في تدبيرِهم يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين، اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم عليك بمن سلَكَ مسالِك الإرهاب، اللهم عليك بمن سلَكَ مسالِك الإرهاب، يُقتِّلون أهل الإسلام، ويُفرِّقون جمعَهم، ويعيثُون فسادًا في ديارهم، ويفتَحون أبوابَ الشرور عليهم، ويُمكِّنون لأعدائِهم، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم، اللهم واجعل تدميرَهم في تدبيرهم.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.