القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
علينا قبل القيام بأي عبادة أن نستشعر أهمية تحسينها والقيام بها على أكمل وجه وأفضل صورة وأحسن طريقة، ولا يكن حالنا مع العبادة كحال من لا يهمه من القيام بها إلا أداء الواجب وإسقاط الفرض الذي أمر به...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته، والإنابة إليه ومحبته، وأرسل الرسل وأنزل معهم الكتب لبيان الطريق الموصلة لجنته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًاً عبده ورسوله، أكمل الخلق عبودية لله، وأعظمهم طاعة له، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تأسى به واهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: لقد خلقنا الله -سبحانه وتعالى- في هذه الدنيا لعبادته، وأمرنا بطاعته، وحثنا على استغلال الأوقات والأعمار في ذكره وشكره وحسن عبادته.
إن حسن العبادة أمر مهم جداً، وعبادة جليلة عظيمة أمُرنا بها، ودعينا إليها، وإلى هذا أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سأله جبريل عن الإحسان فَأجابه بقَوله: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ".
هذا هو حسن العبادة؛ أن تعبد الله بإحسان وإتقان وإخلاص، حتى أنك من شدة حسنك للعبادة تعبد الله وكأنك تراه أمامك ينظر إليك حينما تعبده، فإذا استشعرت هذا زدت في التحسين التعبدي وعبدت الله بكل إتقان.
إننا بحاجة ماسة إلى أن نحسّن عباداتنا ونغير أحوالنا، فكلنا يعبد الله ولكن السؤال الأهم هو كيف نعبد الله؟ وهل نحسن عباداتنا ونجملها أم أننا نعبد الله بروتين مكرر وطريقة مملة حتى صرنا نؤدي العبادات وكأنها عادة وليست عبادة؟.
إني أدعو نفسي وإياكم إلى أن نقف مع أنفسنا وقفة صدق لننظر في عباداتنا كيف نؤديها؟ وكيف نقوم بها؟ هل نؤديها بإحسان ونقوم بها بإتقان؟ أم أن الواحد منا يفكر في تأدية الفرض وإسقاط الواجب, ولا يهمه إلا أدائه فقط، دون أن يسأل نفسه ويحاسبها عن الطريقة التي أداها بها.
عباد الله: يجب أن نعلم أننا لن نستطيع أن نعبد الله حق العبادة ونحسن عبادتنا إلا إذا أعاننا الله على ذلك، فوالله إننا بغير إعانة الله لنا على ذلك لن نستطيع أبداً أن نحسن في العبادة أو نقوم بها كما أمرنا.
يقول الله -تبارك وتعالى- في سورة الفاتحة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : 5]، فانظروا -يا عباد الله- كيف ربط الله بين العبادة والاستعانة؛ ليعلمنا أنه لن يستطيع العبد عبادة الله كما أمره الله إلا إذا أعانه الله على ذلك، وبغير إعانة الله له على تحسين العبادة لن يستطيع الإحسان فيها.
فالواجب إذا أن نسأل الله الإعانة على حسن العبادة، ونطلب منه أن يعيننا على ذلك، ونلتجأ إليه بأن يعطينا من الهمة، ويسدي إلينا من التوفيق، ويمد علينا من الإعانة، ما نستطيع به أن نعبده حق عبادته.
هذا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وهو رسول الله الذي أعطاه الله من الهمة والعزم والنشاط مالم يعطه لأحد قبله ولا بعده؛ يسأل الله أن يعينه على أداء عبادته، والإحسان في طاعته فيقول: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ, وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَغْلِبَنِي دَيْنٌ، أَوْ عَدُوٌّ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الرِّجَالِ"[مصنف ابن أبي شيبة (30013)].
وروى أحمد في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَتُحِبُّونَ أَنْ تَجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ ؟ قُولُوا: اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى شُكْرِكَ، وَذِكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" [أحمد (7982)]. وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَعَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَشُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ" [ السلسلة الصحيحة (3228)].
ليس هذا فحسب، بل كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يوصي أصحابه بهذا الدعاء، ويحثهم على الإكثار من الإلحاح على الله وسؤاله الإعانة على أداء عبادته، والالتزام بشرائعه وطاعته. روى الإمام أبو داود عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ -صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ: "أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" [ أبو داود (1522) ].
فالله الله في حسن العبادة وتحسينها، والله الله في طلب عونه والإكثار من دعائه بأن يوفقنا لطاعته وحسن عبادته، يقول الله -تبارك وتعالى-: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [غافر : 14]، ويقول: (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [غافر : 65].
فهذه الآيتان فيها دلالة واضحة وإشارة بليغة إلى الارتباط الوثيق بين العبادة وأدائها، فلن يستطيع الإنسان أداء العبادة بشكل صحيح إلا إذا سدده الله لذلك، ووفقه له، وأعانه عليه.
وانظروا كيف قدم الدعاء على عبادة الإخلاص فقال: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) وقال: (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
فبدأ بالدعاء قبل عبادة الإخلاص، مما يدل على أن العبد لن يعبد الله بحق وخشوع وخضوع ويحسن في عبادته إلا إذا سأل الله الإعانة على ذلك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق الْخلق لعبادته الجامعة لمحبته، وإيثار مرضاته، المستلزمة لمعرفته، وَنصب للعباد علما لَا كَمَال لَهُم إلا بِهِ، وحثهم على حسن عبادته، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، سيدنا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه-، ومن اقتفى أثره وسار على دربه، واتبع شريعته ودعا إلى ملته -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: ربما يقول البعض عرفنا أهمية تحسين العبادة وفضل ذلك، ولكن كيف نحسّن عبادتنا؟ والجواب سهل وبسيط فما دمنا نعبد الله فما علينا فقط إلا أن نحسّن هذه العبادة.
فبدلاً من الصلاة الروتينية التي اعتدناها بلا خشوع ولا خضوع, علينا أن نقبل على الله في صلاتنا، ونصليها بخشوع واستحضار قلب، ونؤدي جميع أركانها وشروطها وواجباتها، وما استطعنا عليه من سننها ومستحباتها.
وهذا يتطلب من الواحد منا أن يتهيأ للصلاة قبل أدائها، ويأتي إليها مبكراً ليدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام، ويتعلم أحكام الصلاة وما يتعلق بها من سنن وحدود وآداب حتى يطبقها فتزداد صلاته حسناً وجمالاً.
وهكذا في عبادة الصيام، والزكاة، والحج، وغيرها من العبادات المفروضة الواجبة علينا، يجب أن نؤديها بإحسان وإتقان وحضور، ولن يكون ذلك إلا بإدراك فضلها، واستشعار أجرها، وتعلم أحكامها، والإقبال على الله فيها.
أيها المسلمون: علينا أن نحسّن عباداتنا بالقيام بأداء عبادات أخرى لم نتعود القيام بها، ولم نكلف أنفسنا بتطبيقها، كأداء صلاة الضحى، والمحافظة على صلاة الوتر وقيام الليل، وصيام الأيام المستحب صيامها؛ كصوم الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، والمداومة على الأذكار النبوية والأوراد الشرعية، وغيرها من العبادات التي باستطاعة الواحد منا تطبيق الكثير والكثير منها، فالفضائل كثيرة والعبادات متنوعة وما على العبد إلا أن يطبق ويحسّن في عباداته ويجملها بالإحسان.
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَوْصَانِي خَلِيلِي -صلى الله عليه وسلم- بِثَلاَثٍ صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى ، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ" [البخاري (1981) مسلم (721)].
علينا -عباد الله- قبل القيام بأي عبادة أن نستشعر أهمية تحسينها والقيام بها على أكمل وجه وأفضل صورة وأحسن طريقة، ولا يكن حالنا مع العبادة كحال من لا يهمه من القيام بها إلا أداء الواجب وإسقاط الفرض الذي أمر به. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ" [المعجم الأوسط للطبراني (897) ]، ومن أعظم الإتقان أن يحسن المسلم عبادته ويتقنها.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك, اللهم ارزقنا حسن العبادة، وارزقنا الإخلاص، ووفقنا للعمل الصالح الذي تحبه وترضاه, اللهم أرزقنا حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يعرفنا بك، ويقربنا منك، يا سميع الدعاء، يا قريب يا مجيب.