المولى
كلمة (المولى) في اللغة اسم مكان على وزن (مَفْعَل) أي محل الولاية...
العربية
المؤلف | هيثم جواد الحداد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
إننا نشاهد بأم أعيننا فئامًا من إخوة لنا لا همَّ لهم إلا تفريق المسلمين، وبث بذور الاختلاف بينهم، ونراهم لاهثين في البحث عن كل ما من شأنه تشتيت ما بقي من أشلاء هذه الأمة إلى مِزق، من تجمعات محدودة لا تتطلع إلى علياء، ولا تنظر إلى أبعد من أنفها، ولا تجاوز أخمص قدميها. وإن لنا كذلك إخوة يسعون في الأرض يظنون أن الأصل أن تكون كلمة المسلمين شتى ..
وبعد: فإن من أكبر المصائب التي ابتليت بها هذه الأمة وفتكت في سواعد قواها، وأطاحت برايات مجدها، الاختلاف والتفرق، وصدق الله -عز وجل- إذ يقول: (يـاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَثْبُتُواْ وَذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ) [الأنفال:45، 46].
أيها المؤمنون: إن من أهم عوامل قوة أمة من الأمم: الاتحاد، بالاتحاد تنال الأمم مجدها، وتصل إلى مبتغاها، وتعيش حياة آمنة مطمئنة، بالاتحاد تكون الأمة مرهوبة الجانب، مهيبة الحمى، عزيزة السلطان.
أيها المؤمنون: إن تنمية الوعي بأهمية وحدة المسـلمين كما يأمرهم الإسلام هي النقطة الأساس الأولى في سبيل التغلب على الواقع المؤلم الذي أوجده هذا التفرق، وأفرزته هذه الإقليمية المقيتة.
لقد نقلت الإقليمية المسلمين من القوة إلى الضعف، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الأخوة إلى العداوة، وولدت بينهم بؤرًا بركانية قابلة للانفجار في أية لحظة.
أيها الإخوة: إن أول ما نتحدث عنه في هذه الخطبة، هو حكم الوحدة بين المسلمين، قد يقول قائل: وهل يحتاج هذا السؤال إلى جواب؟! ثم هل يحتاج الجواب إلى برهان؟! وهل يحتاج البرهان إلى بيان؟!
نعم -أيها المؤمنون-، نحن بحاجة ماسة إلى بيان حكم الوحدة بين المسلمين، إن واقع المسلمين اليوم، يشهد شهادة لا ريب فيها، أنهم في غفلة تامة عن حكمها، فضلاً عن عجزهم عن تطبيقها، أو السعي إليها، والقليل منهم الذي وفَّقه الله لإدراك أهميتها، فعمل من أجلها وجاهد في سبيل تحقيقها.
حرموا هداية دينهم وعقولهم
إننا نشاهد بأم أعيننا فئامًا من إخوة لنا لا همَّ لهم إلا تفريق المسلمين، وبث بذور الاختلاف بينهم، ونراهم لاهثين في البحث عن كل ما من شأنه تشتيت ما بقي من أشلاء هذه الأمة إلى مِزق، من تجمعات محدودة لا تتطلع إلى علياء، ولا تنظر إلى أبعد من أنفها، ولا تجاوز أخمص قدميها.
وإن لنا كذلك إخوة يسعون في الأرض يظنون أن الأصل أن تكون كلمة المسلمين شتى.
أيها المؤمنون: إن أهم خصائص هذه الأمة أنها أمة واحدة، قال الله -عز وجل-: (وَإِنَّ هَـاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَتَّقُونِ) [المؤمنون:51].
ولذلك فإننا نقول: الوحدة بين المسلمين واجبة، بنصوص القرآن والسنة.
لقد تنوعت أساليب القرآن والسنة في الدلالة على وجوب الوحدة، فتارة تأمر بالوحدة أمرًا صريحًا كما في قول الله -عز وجل-: (وَعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَـاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103].
قال القرطبي -رحمه الله-: "فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة"، ورحم الله ابن المبارك حيث قال:
إن الجماعة حبـل الله فاعتصموا
وأخرج الطبري عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "حبل الله الجماعة".
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ".
وتارة تأمر بتحصيل أمور لا يمكن أن تحصل إلا بالوحدة؛ قال الله -عز وجل-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:10]، وقال -جل وعلا-: (فَتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ) [الأنفال:1].
وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا -عِبَادَ اللَّهِ- إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ". رواه الإمام أحمد، وأصله في صحيح مسلم عن أبي هريرة.
فهذه الأدلة تأمر المسلمين بالأخذ بكل ما يزيد المحبة بينهم، والنهي عن كل ما يولد البغضاء في صفوفهم، وتأمرهم صراحة بأن يكونوا إخوة، ولا يمكن للمسلمين أن يكونوا إخوة إلا إذا كانوا متحدين، فإن الأخوة ضد الفرقة والاختلاف.
أيها المؤمنون: ومن أساليب القرآن والسنة في الدلالة على وجوب الوحدة بين المسلمين: النهي الصريح عن الافتراق والاختلاف الذي هو ضد الوحدة والاجتماع.
قال الله -عز وجل-: (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ) [الأنفال:45].
قال الطبري: "يقول -تعالى ذكره- للمؤمنين به: أطيعوا -أيها المؤمنون- ربكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه، ولا تخالفوهما في شيء، ولا تنازعوا فتفشلوا، يقول: ولا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم فتفشلوا، يقول: فتضعفوا وتجبنوا وتذهب ريحكم".
قال الشاعر:
وفي كثرة الأيدي عن الظلم زاجر
أخرج الطبري عن ابن عباس في قول الله تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَـاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105]، قال: في هذا ونحوه من القرآن أمرَ الله -جل ثناؤه- المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.
عن زَكَرِيَّا بْنَ سَلاَّمٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقُولُ: "أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، أَيُّهَا النَّاسُ: عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ". ثَلاثَ مِرَارٍ، قَالَهَا إِسْحَاقُ.
وعن النعمان بن بشير عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الجماعة رحمة، والفرقة عذاب".
عباد الله: قد حذَّر الله -عز وجل- هذه الأمة من محنة الفرقة، وبيّن لهم أنها هي السبب المباشر في هلاكها، فقال -عز وجل-: (قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) [الأنعام: 65].
ومن أساليب القرآن في الحث على الجماعة -وإن كان لا يفيد الوجوب مباشرة- أن الله جعل من أخص صفات المؤمنين أنهم أولياء بعض؛ قال الله -عز وجل-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].
والولاية -يا عباد الله- هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام، والكون مع المحبوبين ظاهرًا وباطنًا.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"، وقال: "المسلم أخو المسلم".
ومن أساليب الشريعة في الحث على الوحدة بين المسلمين: تحذير الشريعة من الشذوذ ومفارقة الجماعة، ففي سنن الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِينَا، ثم ذكر خطبة جاء فيها: "عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، فَذَلِكُمْ الْمُؤْمِنُ".
وعن أبي الدرداء قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من ثلاثة لا تقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية".
ونهت الشريعة أن يهجر المسلم أخاه المسلم، وأمرت بإفشاء المسلمين بينهم، من أجل إشاعة المحبة، وأمرت بصلاة الجماعة ولم تعذر أحدًا في التخلف عنها إلا في أشد الظروف، ونهت أن يسافر الرجل وحده، وأن يبيت وحده.
أيها الإخوة: لو ذهبنا نستقصي شواهد الشريعة التي تفيد بمجموعها وآحادها وجوب اجتماع كلمة المسلمين لطال بنا المقام، لكن حسبنا فيما تقدم من إشارات ما يكفي كل طالب حق ألقى السمع وهو شهيد.
أيها المؤمنون: ولولا أن الاتحاد ذو منافع عديدة، وفوائد كثيرة، لم يوجبه الله -عز وجل-، ولهذا فإن وجوب الوحدة بين المسلمين يستدل عليها بالعقل الصحيح مع النقل الصريح الصحيح.
إن العقلاء من كل ملة ونحلة في القديم والحديث اتفقوا على أن الوحدة سبيل العزة والنصرة، فهذا معن بن زائدة الذي وصفه الذهبي بقوله: أمير العرب أبو الوليد الشيباني، أحد أبطال الإسلام، وعين الأجواد، يوصي أبناءه عند وفاته بقوله:
كـونوا جميعًا يا بني إذا اعترى
أيها المؤمنون: إن التاريخ يشهد أن من أهم أسباب سقوط الدول على اختلاف عقائدها ومللها التفرق والاختلاف، سقطت الخلافة العباسية بعد أن تفرقت الدول الإسلامية في ذلك الوقت، فنشأت الدولة البويهية، والمماليك، ودويلات الشام، ولم يبق للخلافة العباسية إلا مزع متفرقة متناثرة من العالم الإسلامي، فلما زحف المغول إلى بغداد لم يقف في وجه زحفهم غير أهل بغداد فقط، فأعملوا فيهم القتل حتى قتلوا أكثر من ثمانمائة ألف نسمة، كما قال غير واحد من المؤرخين.
وسقطت الدولة الإسلامية في الأندلس بعد أن أصبحت دويلات متفرقة متناحرة، لا همّ لأحدهم سوى التلقب بألقاب الملك والسلطان حتى ولو كان على بقعة لا تجاوز حظيرة خراف.
مـما يزهدني في أرض أندلس
ولم تسقط الدولة العثمانية إلا بعد أن تمزق جسدها إلى أشلاءَ متناثرة، وبعد أن أغرى الصليبيون الجدد بعض زعماء المسلمين بالانفصال عنها، وأحسنوا إتقان العمل بقاعدة: "فرِّق تسُد"، وها هو العالم الإسلامي اليوم منقسم إلى دويلات متناحرة، تعيش على هامش التاريخ، وتتجرع ألوان الهوان.
صوت الشعوب من الزئير مجمعًا
إن ما ظفر به أعداء الأمة من سطو واستيلاء لا يرجع إلى خصائص القوة في أنفسهم بقدر ما يعود إلى آثار الوهن في صفوف أصحاب الحق، فالفُرقة تجعل هلاك الأمة بيد أبنائها في سلاسل من الحروب في غير معركة، وانتصارات بغير عدو.
ألم تر أن جمع القوم يخشى
إن الغرب النصراني أدرك أن وحدة أي أمة من الأمم سواه خطر عليه، فأوروبا لم تستطع كتمان حلمها في تفكك الاتحاد السوفيتي الذي يمثل خطرًا حضاريًا، عسكريًّا عليها، فساندت بكل قواها حركات التحرر التي قامت بها دويلاته، حتى استراحت من أحد مصادر القلق الذي كان يؤرق راحتها، وبقي لها عدو آخر هو التحدي الذي يمثله العالم الإسلامي.
إن العالم الإسلامي بتفرُّقه وتنازعه لا يشكل أي هاجس خوف لأحد، لكن العالم الغربي الصليبي يخشى أن يستيقظ المسلمون من نومهم، فيسارعوا إلى الأخذ بأسباب القوة، والعودة إلى الوحدة.
وتجنبًا لذلك فإنه يحاول بكل جهد أن يقضي على كل منفذ يمكن أن يسلكوه، فيعود بهم إلى سابق عزهم وسالف مجدهم.
وصدق الله -عز وجل- إذ يقول: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا) [آل عمران:120].
قال قتادة: "الحسنة هي الألفة والجماعة، والسيئة: الفرقة والاختلاف".
إن الغرب النصراني يعمل جاهدًا على تغذية كل سبب يغذي الفرقة بين المسلمين، ويكرس تباعدهم، ويزيد من تناحرهم.
لقد كثر الحديث عن دويلة في شمال العراق، وأخرى في جنوب السودان، ودويلات في جنوب لبنان، ولم يغمض لأوروبا جفن إلا بعد أن انقسمت البوسنة والهرسك، وبدأت بقع من إندونيسيا بالانفصال، وهكذا.
وفي المقابل ها هي أوروبا تسعى بكل ما تستطيع لتحقيق أكبر قدر من الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لقد سارعوا بعد أن طحنتهم حروب ضروس في الحربين العالمية الأولى والثانية، إلى الاستعلاء على الخلافات الشخصية وتناسي أحقاد الماضي، وتجاوز الفوارق العقدية، وصهر حدود الفرقة.
أيها المؤمنون: هذه الحقائق عن المصالح التي تؤدي إليها الوحدة، وهذه المفاسد التي تدفعها من أدلة وجوب الوحدة، فالشريعة الإسلامية جاءت لتحصيل مصالح العباد في الدارين، وتحصيل هذه المصالح يكون بتحقيق أي أمر يجلب المصلحة، ويدفع المفسدة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وعليه فإننا نقول: إن وجوب تحقيق الوحدة بين المسلمين ثابت بنصوص الكتاب والسنة المتضافرة المتآزرة، وهذا الوجوب ثابت أيضًا بالعقل والنظر الصحيح.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعًا، وأن لا يتفرق، هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- في مواطن عامة أو خاصة، مثل قوله: "عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة"، وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة بل وفي غيرها هو التفرق والاختلاف، فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك ما الله به عليم، وإن كان بعض ذلك مغفورًا لصاحبه لاجتهاده الذي يغفر فيه خطؤه، أو لحسناته الماحية، أو توبته، أو غير ذلك، لكن ليعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
الحمد لله حـمدًا طـاب وانتـشرَ
وبعد:
أيها المؤمنون: وبعد بيان وجوب الوحدة بين المسلمين، لا بد لنا من بيان طبيعة الوحدة التي ندعو إليها، ونكشف الغطاء عن حقيقتها، فنقول: هذه الوحدة لا بد لها من ضوابط.
وحتى لا نطيل الكلام والتفصيل في هذه الضوابط، فإننا نختصرها في ثلاثة ضوابط رئيسة، لابد من اجتماعها كلها، وتحققها جميعًا:
الضابط الأول: لا بد أن تتمحور هذه الوحدة حول كتاب الله –عز وجل- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، ولا يحتاج إلى كثير استدلال، فأصل كلمة الإسلام معناها الاستسلام لله بالتوحيد، فلا حظّ لنا في الإسلام إذا توحّدنا على غير القرآن والسنة، قال الله -عز وجل-: (وَعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران:103]، فلم يأمر بمجرد الاعتصام وإنما أمر بالاعتصام حول حبل الله، وهو القرآن والسنة.
في مسند الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَخَطَّ خَطًّا هَكَذَا أَمَامَهُ فَقَالَ: "هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-"، وَخَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَخَطَّيْنِ عَنْ شِمَالِهِ قَالَ: "هَذِهِ سَبِيلُ الشَّيْطَانِ"، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأَسْوَدِ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (وَأَنَّ هَـاذَا صِرطِي مُسْتَقِيمًا فَتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّـاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153].
أيها المؤمنون: نحن ننظر ابتداءً إلى أن عقيدة التوحيد قادرة على جعل مـن يؤمن بها أمةً من دون الناس، يحكمها منهج واحد، وتنتهي إلى غايات واحدة، كما أن تلك العقيدة بما يتبعها من أحكام ونظم تحدد أشكال التعامل بين هذه الأمة وبين غيرها من الأمم، وهذا كله يجعل تحقيق شكل من أشكال الوحدة بين شعوب العالم الإسلامي أمرًا طبيعيًا بدهيًا، ولا سيما أن غير المسلمين ينظرون إليهم على أن لهم من التجانس والتميز ما يجعلهم جميعًا في خندق واحد.
إن الانطلاق الراشد يؤمّن ترابطًا عجيبًا بين سائر بُنَى الأمة ومؤسساتها، حيث تتمكن الأمة من حل كثير من المشكلات كما أنها لا تتوهم العناء حينئذ من مشكلات لا وجود لها.
إننا نعتقد أن العقيدة الحقّة المنبثقة من التوحيد الخالص هي الخطوة الأولى لأي عمل وحدوي.
عباد الله: إن من لوازم هذا الضابط أن يكون الهدف من الوحدة مرضاة الله -عز وجل-، ومرضاة الله -عز وجل- يمكن تحقيقها من خلال هذه الوحدة إذا كنا نسعى لهذه الوحدة؛ لأن الله أمر بها، ولأن بها تندفع مفاسد عظيمة عن المسلمين، وتجلب مصالح كثيرة.
الضابط الثاني: إن السعي من أجل تحقيق الوحدة لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون على حساب أصولنا الإسلامية؛ لأن التفريط في هذه الأصول أو الإخلال بها يغضب الرب -جل وعلا- أولاً وقبل كل شيء، ثم إن الوحدة بين المختلفين في الأصول غير ممكنة حسًا وواقعًا.
إن الوحدة بين المسلمين لا تعني إغضاء الطرف عمن يمس عقيدتنا وأصولنا الثابتة بشيء من العبث والابتداع.
لقد أمرنا الله -عز وجل- بذلك قال الله -عز وجل-: (وَأَنَّ هَـاذَا صِرطِي مُسْتَقِيمًا فَتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّـاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153]، (شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى:13].
أورد ابن كثير في تفسير هذه الآية قول ابن عباس السابق: "أمر الله -جل ثناؤه- المؤمنين بالجماعة فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله".
قال البغوي: "وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا، مجمعين متفقين على معاداة أهل البدع، ومهاجرتهم".
أيها الإخوة: لا يقال: إن هذا الكلام قاله علماء سابقون لم يعيشوا في وقت تفرق الأمة وهوانها، بل عاشوا في وقت من أحلك أوقات الأمة وأشدها، في القرنين الرابع والخامس الهجريين.
وفي الوقت الحاضر يقول سيد قطب -رحمه الله-: "بذلك أغلق الله سبحانه مداخل الشيطان كلها، وبخاصة ما يبدو منها خيرًا، وتأليفًا للقلوب، وتجميعًا للصفوف، بالتساهل في شيء من شريعة الله، في مقابل إرضاء الجميع، أو فيما يقابل ما يسمونه وحدة الصف".
عباد الله: بقي أن نذكر أمرًا مهمًّا جدًّا، ألا وهو: ما هي هذه الأصول التي لا يجوز لنا أن نفرط فيها، ولا أن نتساهل فيها؟!
هذا الموضوع -أيها الإخوة- خطير وحساس، والتبس على كثير من المسلمين، وانقسم الناس فيه إلى طرفين متضادين، وقليل هم الذين هداهم الله للوسط الحق.
فطائفة جعلت كثيرًا من الفروع الجزئية والخلافات الاجتهادية أصولاً كلية، فوالت من أجلها، وعادت بناءً عليها، وأشعلت ألوانًا من الفتن بين المسلمين.
أيها الإخوة: لقد رأينا بأم أعيننا إخوانًا لنا جعلوا بعض البدع الجزئية في فروع العبادات الصادرة من بعض عوام الناس الذين فعلوها تقليدًا وجهلاً، مثارًا للفرقة والاختلاف، وأساسًا للولاء والبراء.
وعلى الطرف الآخر نجد فئامًا من الناس تساهلوا في نظرتهم لكثير من أصول الإسلام، وقواعده الكبار، فتراهم بحجة وحدة الصف يغضّون الطرف عن كل مخالف ذي بدعة كلية.
كل يرى رأيًا وينصر قولـه
أيها المؤمنون: لقد شاهدنا وشاهدتم جميعًا من يدعو إلى وحدة الصف بين المسلمين والروافض الذي يخالفوننا في أصول الإسلام ومبانيه العظام، إنهم يخالفوننا في صفات الربوبية، فهم يقولون بأن أئمتهم يعلمون الغيب، وقد بلغوا منزلة لا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل، إنهم يسبون صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويتهمونهم بالخيانة، وهل نقل الدين إلا هؤلاء الأطهار، هذا فضلاً عمن يقول منهم بتحريف القرآن، خابوا وخسروا.
أمة الإسلام: أما الطائفة الوسط فهي الطائفة التي لم تضخم بعض الفروع فتجعلها أصولاً، وفي المقابل لم تتساهل في أصولها وتضيعها، وهاهنا نقول: الأصول -أيها الإخوة- التي نوالي عليها، ونجتمع حولها، ولا نقبل الإخلال بها، ولا التسامح فيها، هي قواعد الإسلام الكلية التي يتحقق فيها شرطان اثنان:
الأول: أن ثبتت بأدلة قطعية، ثبوتًا ودلالة.
الثاني: أن يبنى عليها فروع متعددة.
أيها المؤمنون: لا يفوتنا أن نذكر أن قولنا بالتفريق بين الأصول والفروع هو لمجرد التقسيم للإيضاح والبيان، وليس من أجل تقسيم حقيقة الدين.
الضابط الثالث من ضوابط هذه الوحدة: الوحدة الإسلامية لا تنافي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله -عز وجل- مع أمره لنا بالوحدة، أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، بل إن الله -عز وجل- جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص خصائص هذه الأمة الإسلامية، قال الله -جل وعلا-: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِللَّهِ) [آل عمران:110]، وقد ذكر الله -عز وجل- هذه الآية بعد قوله: (وَعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران:103].
قال القرطبي -رحمه الله- عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمله علمه وعمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا بعد التناد".
فترك الأمر بالمعروف النهي عن المنكر إخلال بواجب من واجبات الإسلام العظام، وتعطيل لأحد شعائره الكبار.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو السبيل إلى الوحدة الحقة، المبنية على الكتاب والسنة، فبه نعرف مواطن الخلل فنتجنبها، وبه يحدث التكامل بيننا، وبه نزداد تمسكًا بمحور وحدتنا وعقيدتنا.
أيها الإخوة: إنه مما يؤسف له أن نرى العالم يتجه إلى عولمة العالم، حيث عالم واحد تذوب بينه الحدود وتتلاشى بينه الفوارق، ونحن مازلنا غارقين في خلافات تافهة، وصراعات سخيفة.
فتفرق الأعداء بعد مودة
إن الوحدة التي نطالب بها ونتطلع إليها، أن يجتمع العالم الإسلامي كله تحت راية واحدة، ودستور واحد، هذه الوحدة لا نحتاج معها إلى جامعة عربية، ولا إلى منظمة مؤتمر إسلامي.
أيها المؤمنون: إن ما لا يدرك كله لا يترك جله، والأمر يحتاج إلى تدرج، والطريق طويل، لكن تنمية الوعي لدى الأمة بخطورة هذا الأمر وتنظيره بضوابطه أول الطريق، وعندئذ نقول:
حبذا العيش حين قومي جميعًا
أخرج الطبري بسنده عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رأى في حجة حجها من الناس رعة، أي هيئة معينة، فقرأ هذه الآية: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران:110] ثم قال: "من سره أن يكون من هذه الأمة، فليؤد شرط الله فيها".
عن حذيفة بن اليمان مرفوعًا: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
أيها المؤمنون: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط من أجل تحقيق الوحدة، بل هو سبيل تحقيق الوحدة، وإنما يسقط في أحوال ثلاثة هي: إذا تكاثرت الفتن، ولم يصبح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فائدة، والثانية: هي العجز الحسي، والثالثة: إذا أدى النهي عن المنكر إلى منكر أعظم منه، أو أدى الأمر بالمعروف إلى مفسدة أكبر من هذا المعروف الذي يؤمر به.