الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الحياة الآخرة |
يَحْرِصُ الْإِنْسَانُ عَلَى عِمَارَةِ دُنْيَاهُ وَهُوَ إِنْ عُمِّرَ فِيهَا بَلَغَ مِئَةَ عَامٍ، وَقَلِيلٌ مَنْ يُجَاوِزُهَا، وَلَا يَبْلُغُهَا مَنْ يَبْلُغُهَا إِلَّا وَقَدْ مَلَّ الدُّنْيَا وَأَهْلَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَقْرَانِهِ أَحَدٌ فِيهَا، وَسَلُوا المُعَمِّرِينَ يُنْبِئُوكُمْ ذَلِكَ. وَيَغْفُلُ الْإِنْسَانُ عَنْ بِنَاءِ قَبْرِهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَمْكُثُ فِيهِ أَلْفَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْقَى لَهُ حَالُ النَّعِيمِ الَّتِي تَنَعَّمَهَا فِي قَبْرِهِ يَوْمَ بَعْثِهِ، وَيُزَادُ لَهُ فِيهَا بِمَا لَا يَخْطُرُ لَهُ عَلَى بَالٍ. وَيَبْقَى لِلْمُعَذَّبِ عَذَابُهُ بَعْدَ بَعْثِهِ، وَيُزَادُ لَهُ فِي الْعَذَابِ حَتَّى يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا لِلْعَمَلِ وَلَا رُجُوعَ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للَّـهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُـولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: حِينَ يَجُنُّ اللَّيْلُ وَتَنْتَشِرُ ظُلْمَتُهُ تُخْلِدُ الْأَحْيَاءُ إِلَى النَّوْمِ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ يَبْتَغِي مَكَانًا آمِنًا مُرِيحًا يَنَامُ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ ضَعْفٌ فِي المَخْلُوقَاتِ؛ فَاسْتَتَرُوا عَنِ الْأَعْيُنِ لِسَتْرِ ضَعْفِهِمْ، وَالْحِفَاظِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالْإِبْقَاءِ عَلَى حَيَاتِهِمْ؛ فَالطُّيُورُ فِي أَعْشَاشِهَا، وَالزَّوَاحِفُ فِي جُحُورِهَا، وَالدَّوَابُّ فِي مَحْمِيَّاتِهَا، وَالنَّاسُ فِي بُيُوتِهِمْ، وَاتَّخَذُوا مِنْهَا غُرَفًا لِنَوْمِهِمْ هِيَ أَهْيَأُ مَكَانٍ فِي الْبَيْتِ وَأَكْثَرُهُ أَمْنًا وَرَاحَةً. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ لِلَّيْلِ وَظُلْمَتِهِ رَهْبَةً عِنْدَ الْخَلْقِ.
وَحِينَ يَمُوتُ النَّاسُ تَكُونُ قُبُورُهُمْ هِيَ بُيُوتَهُمُ إِلَى بَعْثِهِمْ، وَفِيهَا مِنَ الدُّنْيَا أَنَّهَا عَلَى الْأَرْضِ يَرَاهَا النَّاسُ، وَفِيهَا مِنَ الْآخِرَةِ أَنَّ أَحْوَالَ أَهْلِهَا فِي النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ كَأَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
وَظُلْمَةُ الْقَبْرِ وَفِتْنَتُهُ وَعَذَابُهُ أَفْزَعَ المُوقِنِينَ، وَأَضْجَرَ المُعْتَبِرِينَ، فَمَا فَارَقَهُمُ التَّفَكُّرُ فِيهِ، وَالِاعْتِبَارُ بِهِ، وَالْخَوْفُ مِنْهُ، وَالْعَمَلُ لَهُ؛ فَسَهِرَ المُتْهَجِّدُونَ، وَظَمِئَ الصَّائِمُونَ، وَلَهَجَ الذَّاكِرُونَ، وَأَلَحَّ الدَّاعُونَ. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُنَوِّرُهَا لهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَيُعَذَّبُ أُنَاسٌ فِي الْقَبْرِ بِكَبَائِرَ قَارَفُوهَا فِي الدُّنْيَا، وَيَنْجُو آخَرُونَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ بِهِدَايَةِ اللَّـهِ -تَعَالَى- لَهُمْ إِلَى أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ سَبَقَتْهُمْ إِلَى قُبُورِهِمْ فَمَهَّدَتْهَا لَهُمْ، فَوَجَدُوا رَاحَتَهُمْ فِيهَا حِينَ سَكَنُوهَا.
وَالنَّاسُ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ فَيُسْأَلُونَ عَنْ رَبِّهِمْ وَنَبِيِّهِمْ وَدِينِهِمْ، فَلَا يَثْبُتُ فِي الْفِتْنَةِ، وَلَا يُلَقَّنُ الْإِجَابَةَ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَهُ اللهُ -تَعَالَى-، وَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ) [إبراهيم: 27] فَعُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ مُنْجِيَانِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ.
وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى أَمْرِ اللَّـهِ -تَعَالَى- سَبَبٌ لِلنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصِّلت:30]، قَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «الْبُشْرَى تَكُونُ فِي ثَلَاثِ مَوَاطِنَ: عِنْدَ المَوْتِ، وَفِي الْقَبْرِ، وَعِنْدَ الْبَعْثِ».
(نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)[فصِّلت: 31] أَيْ: تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ: نَحْنُ كُنَّا أَوْلِيَاءَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا نُسَدِّدُكُمْ وَنُوَفِّقُكُمْ، وَنَحْفَظُكُمْ بِأَمْرِ اللَّـهِ، وَكَذَلِكَ نَكُونُ مَعَكُمْ فِي الْآخِرَةِ نُؤْنِسُ مِنْكُمُ الْوَحْشَةَ فِي الْقُبُورِ، وَعِنْدَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ، وَنُؤَمِّنُكُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَنُجَاوِزُ بِكُمُ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ، وَنُوصِلُكُمْ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
وَالمُحَافَظَةُ عَلَى الْفَرَائِضِ وَإِتْبَاعُهَا بِالنَّوَافِلِ مِمَّا يُنْجِي مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَمَامُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ المَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ إِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا، كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ شِمَالِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَتَقُولُ فِعْلُ الخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ... » قَالَ: «وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ عَنْ شِمَالِهِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ...» (صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ).
وَمِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُنْجِي مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ -تَعَالَى-؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الصَّف: 11]، وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ فِي الْآيَةِ عَامٌّ؛ فَتَكُونُ النَّجَاةُ بِالْجِهَادِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَالشَّهَادَةُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ -تَعَالَى- سَبَبٌ لِلْأَمْنِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ لِلشَّهِيدِ خِصَالًا عِنْدَ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَذَكَرَ مِنْهَا: «وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ».
وَكَذَلِكَ الرِّبَاطُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ -تَعَالَى- سَبَبٌ لِلنَّجَاةِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، كَمَا فِي حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ، فَإِنَّهُ يَنْمُو عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ).
وَجَاءَ فِي سُورَةِ المُلْكِ أَنَّهَا مُنْجِيَةٌ وَمَانِعَةٌ، تُنْجِي مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لِمَنْ يُكْثِرُ قِرَاءَتَهَا، وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ، وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ).
وَالمَوْتُ بِدَاءٍ فِي الْبَطْنِ سَبَبٌ لِلنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّـهِ -تَعَالَى- عَلَى المَرْضَى؛ فَإِنَّ أَمْرَاضَ الْبَطْنِ كَثِيرَةٌ وَمُؤْلِمَةٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ يَقْتُلُهُ بَطْنُهُ، فَلَنْ يُعَذَّبَ فِي قَبْرِهِ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ).
وَمِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ: الدُّعَاءُ، وَقَدْ كَثُرَ تَعَوُّذُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَفِي الصَّلَاةِ يَتَعَوَّذُ مِنْهُ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا، وَفِتْنَةِ المَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).
وَجَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَدْعُو بِذَلِكَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَهُوَ مَوْطِنُ دُعَاءٍ.
وَلمَّا صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَانْصَرَفَ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
وَفِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ دَعَا لِلْمَيِّتِ فَقَالَ: «وَأَدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَكَانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُهُمُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَهَمِّيَّةِ الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- مِنْهُ؛ لِشِدَّةِ عَذَابِهِ وَفِتْنَتِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: «قُولُوا: اللهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ» (رَوَاهُ مُسْلِمُ فِي صَحِيحِهِ)، ثُمَّ قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّ طَاوُسًا قَالَ لِابْنِهِ: أَدَعَوْتَ بِهَا فِي صَلَاتِكَ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: أَعِدْ صَلَاتَكَ».
وَكَانَ مَعَ تَعْلِيمِهِمُ الدُّعَاءَ يَعِظُهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ عَذَابَ الْقَبْرِ، كَمَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ، إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ، فَقَالَ: «مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟» فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: «فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟» قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ»، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّـهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ» قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّـهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ... الحَدِيثُ». (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَإِذَا أَتَى الْعَبْدُ بِكُلِّ الْأَسْبَابِ المُنْجِيَةِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ كَانَ حَرِيًّا أَنْ يُنْجِيَهُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ، وَإِذَا قَصَّرَ فِي المُنْجِيَاتِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَتَى بِأَسْبَابِ الْعَذَابِ فَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَعَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يُجَانِبَ مَا يُوبِقُهُ، وَيَجْتَهِدَ فِيمَا يُنْجِيهِ.
نَعُوذُ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ حُسْنَ الْخِتَامِ، وَقَبُولَ الْأَعْمَالِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا....
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: يَحْرِصُ الْإِنْسَانُ عَلَى عِمَارَةِ دُنْيَاهُ وَهُوَ إِنْ عُمِّرَ فِيهَا بَلَغَ مِئَةَ عَامٍ، وَقَلِيلٌ مَنْ يُجَاوِزُهَا، وَلَا يَبْلُغُهَا مَنْ يَبْلُغُهَا إِلَّا وَقَدْ مَلَّ الدُّنْيَا وَأَهْلَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَقْرَانِهِ أَحَدٌ فِيهَا، وَسَلُوا المُعَمِّرِينَ يُنْبِئُوكُمْ ذَلِكَ. وَيَغْفُلُ الْإِنْسَانُ عَنْ بِنَاءِ قَبْرِهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَمْكُثُ فِيهِ أَلْفَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْقَى لَهُ حَالُ النَّعِيمِ الَّتِي تَنَعَّمَهَا فِي قَبْرِهِ يَوْمَ بَعْثِهِ، وَيُزَادُ لَهُ فِيهَا بِمَا لَا يَخْطُرُ لَهُ عَلَى بَالٍ. وَيَبْقَى لِلْمُعَذَّبِ عَذَابُهُ بَعْدَ بَعْثِهِ، وَيُزَادُ لَهُ فِي الْعَذَابِ حَتَّى يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا لِلْعَمَلِ وَلَا رُجُوعَ! (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ) [الأنعام: 27].
وَلَقَدْ كَانَ الصَّالِحُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي حَالِ عِظَةٍ وَعِبْرَةٍ مَعَ الْقُبُورِ، يَتَأَثَّرُونَ بِرُؤْيَتِهَا، وَيَتَّعِظُونَ بِحَالِ أَهْلِهَا، وَأَخْبَارُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ:
كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فَلا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْقَبْرُ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ» قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ).
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِيَوْمِ فَقْرِي؟ يَوْمَ أُنْزَلُ قَبْرِي».
وَقِيلَ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ: مَا أَبْلَغُ الْعِظَاتِ؟ فَقَالَ: النَّظَرُ إِلَى مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيز لِبَعْضِ جُلَسَائِهِ: «يَا فُلَانُ، لَقَدْ أَرِقْتُ الْبَارِحَةَ تَفَكُّرًا فِي الْقَبْرِ وَسَاكِنِهِ، إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ المَيِّتَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ لَاسْتَوْحَشْتَ مِنْهُ بَعْدَ طُولِ الْأُنْسِ بِهِ، وَلَرَأَيْتَ بَيْتًا تَجُولُ فِيهِ الْهَوَامُّ، وَيجْرِي فِيهِ الصَّدِيدُ، وَتَخْتَرِقُهُ الدِّيدَانُ مَعَ تَغَيُّرِ الرِّيحِ، وَتَقَطُّعِ الْأَكْفَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ حُسْنِ الْهَيْئَةِ، وَطِيبِ الرِّيحِ، وَنَقَاءِ الثَّوْبِ» ثُمَّ شَهِقَ شَهْقَةً ثُمَّ خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
فَلْنَعْتَبِرْ -عِبَادَ اللَّـهِ- قَبْلَ أَنْ يُعْتَبَرَ بِنَا، وَلْنَتَّعِظْ قَبْلَ أَنْ يُوعَظَ بِنَا؛ فَإِنَّنَا نَعِظُ النَّاسَ الْآنَ بِمَنْ سَبَقُونَا، وَسَيَعِظُ النَّاسَ بِنَا لَاحِقُونَا.
قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ -رَحِمَهُ اللهُ -تَعَالَى--: «يَا بْنَ آدَمَ، دَعَاكَ رَبُّكَ إِلَى دَارِ السَّلَامِ فَانْظُرْ مِنْ أَيْن تُجِيبُهُ؟! إِنْ أَجَبْتَهُ مِنْ دُنْيَاكَ دَخَلْتَهَا، وَإِنْ أَجَبْتَهُ مِنْ قَبْرِكَ مُنِعْتَهَا».
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...