الشافي
كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ومن سُنة الله -عزَّ وجلَّ- في عباده أن الناس إذا غيّروا ما بأنفسهم فانتقلوا من الكفر إلى الإيمان، ومن معصية الله إلى طاعة الله، غيَّر الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء والذلة والشدة، إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة، وكذلك الله -عزَّ وجلَّ- لا يغيّر ما بقوم من النعمة والإحسان ورغد العيش حتى يغيروا ما بأنفسهم ..
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَنْ يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله. اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وذرِّيته وأهل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. [أخرجه أبو داود:2118، وصححه الألباني].
أيها الإخوة: التغيير سنة كونية جارية، فيها آيات وعبر، لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكوراً، والله يغير في ملكه ما شاء متى شاء؛ ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءً، حراًّ وبرداً، صحة ومرضاً، راحةً وتعباً، حركةً وسكوناً، أمناً وخوفاً (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور:44].
وإذا كان هذا تغييرًا في الكون، فإن الله -سبحانه- قد حمّل الإنسان أمانة تغيير أخلاقه من بين سائر المخلوقات، وقرر ربنا -سبحانه- قاعدة جليلة أن العبد متى بدأ تغيير ما بنفسه غير الله له حاله، قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11].
أيها الإخوة: يوقن المسلم المستقيم ذو الفطرة السليمة أن له قدرة واختيارًا في جانب الأخلاق والأعمال، فيختار ما يريد من إيمان وكفر، وعدل وظلم، وحق وباطل، قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:7-10]، وقال -جل وعلا-: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف:29]، نسأل الله أن يهدينا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا، وأن يختم لنا بخير وسعادة.
عباد الله: مما لا شك فيه أن الإنسان يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، ويكتسب أخلاقه من خلالها، فإن كانت طيبة تذكِّر بالله واليوم الآخر، طابت أخلاقه وأعماله، وإن كانت سيئة فيها الفواحش والفجور والشهوات ساءت أخلاقه، وفسدت أعماله.
ولذلك أمرنا الله -عزَّ وجلَّ- بلزوم البيئة الصالحة كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]، وحذرنا من البيئة الفاسدة، كما قال -سبحانه-: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام:68].
أيها الإخوة: الأخلاق نوعان: منها ما هو طبيعة وجِبِلّة يتفضل الله بها على بعض خلقه، فيجبلهم عليها من غير كسب منهم ولا جهد، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: "إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُّحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ" [مسلم:18]، فمثل هذا فضل من الله ومنته على من أوتيها، ومن لم يؤتها فإنه مكلف بمجاهدة نفسه حتى يحصل عليها، وتصبح له خُلقاً مكتسباً بعد الترويض والمجاهدة، وتنقلب مع الزمن إلى طبع ثابت وخلق أصيل.
فهذا هو النوع الثاني وهو المكتسب الذي يحصل بالتخلق والتكلف؛ حتى يصير ملكة وسجية، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ وَمَا أعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ" [البخاري:1469، واللفظ له، ومسلم:1053]، فبالتسامح يصبح سمحاً، وبالتورع يصبح ورعاً، وهكذا في باقي الأخلاق.
أيها الإخوة: وأصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طُبعت النفوس عليها، إذ النفوس عندما تستمر حينًا من الدهر على خُلق أو عمل تألفه، فإنه يصعب عليها تغييره، ولكن العقلاء من عباد الله يُبْقُون جذوة الخُلق مشتعلة في نفوسهم على حالها، لكن يستعملون الخُلق حيث يكون استعماله أنفع؛ كالخيلاء فهي مبغوضة للرب، لكنها في الحرب أمام الأعداء، وعند الصدقة محبوبة للرب.
وكذلك خُلق الحسد مذموم، لكن صرفه إلى الحسد المحمود الذي يُوصل إلى المنافسة في الخير الذي يحبه الله أمر محمود، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا" [البخاري:73، ومسلم 816، واللفظ له].
وكذلك خلق الحرص، فإنه من أنفع الأخلاق وأوصلها إلى كل خير، وشدة الطلب بحسب قوة الحرص، فلا نقطعها ولكن نوجهها إلى ما ينفع النفس في معادها، ويزكيها بالإيمان والعبادات والطاعات. فقوة الحرص لا تُذم، وإنما يُذم صرفها إلى ما يضر الحرص عليه من الشهوات والمعاصي، أو لا ينفع وغيره أنفع للعبد منه.
وكذلك قوة الشهوة من أنفع القوى للعبد، وأوصلها إلى كماله وسعادته، فإنها تثمر المحبة، وبحسب شهوة العبد للكمال والاستقامة يكون طلبه. وصدق الشهوة وقوتها وكمالها يحمل الإنسان على بيع مشتهى دنيء خسيس بمشتهى أعلى منه وأجلّ، وأرفع من الطاعات والحسنات والجنات.
وكذلك خلق الشح والبخل لهما مصرفان: مصرف محمود نافع للعبد، يحمله على بخله وشحه بزمانه ووقته وأنفاسه أن يضيعها ويسمح بها لمن لا يساوي. ويشح غاية الشح بحظه ونصيبه من الله أن يبيعه أو يهبه لأحد من الخلق، ويشح بماله ألا يكون في ميزانه، وأن يتركه لغيره يتنعم به ويفوته أجره وثوابه.
أما المصرف المذموم فهو من يشح ويبخل بماله ووقته أن يصرفه فيما يحب الله ورسوله، وهذه قاعدة مطردة في جميع الصفات والأخلاق.
عباد الله: والرسل -عليهم الصلاة والسلام- جاؤوا بصرف الصفات والأخلاق عن مجاريها المذمومة، وتوجيهها إلى مجاريها المحمودة؛ فجاءوا بصرف قوة الشهوة إلى النكاح والتسري بدلاً من الزنا والسفاح، فصرفوا قوة الشهوة ومجرى الحرام إلى مجرى الحلال الذي يحبه الله -عزَّ وجلَّ-.
وجاؤوا بصرف قوة الغضب من الظلم والبغي إلى جهاد أعداء الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، والغلظة عليهم، والانتقام منهم كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التحريم:9].
وجاؤوا بصرف قوة اللهو والركوب، إلى اللهو والرمي والمسابقة على الخيل وركوبها في سبيل الله واللهو في العرس والعيد.
وكذلك شهوة استماع الأصوات المطربة اللذيذة لا يذم بل يُحمد، وقد وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- يستمع إلى قراءة أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- للقرآن، وأمر ابن مسعود -رضي الله عنه- أن يقرأ عليه القرآن، فقرأ عليه وسمع وتأثر بما سمع وبكى. وهذا سماع خواص الأولياء، فلا بدَّ للروح من سماع طيب تتغذى به، ولذا قال -سبحانه-: (وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا) [المزمل:4].
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال لِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ"، قال فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! أقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قال: "إِنِّي أشْتَهِي أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي"، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) [النساء:41]. رَفَعْتُ رَأْسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيل. [أخرجه البخاري:4582، ومسلم:800، واللفظ له].
والسماع المذموم سماع المكاء والتصدية، وألفاظ الخنا، وآلات المعازف. فهذا غذاء، وهذا غذاء، ولكن لا يستوي مَن غذاؤه الحلوى والطيبات والعسل، ومن غذاؤه الرجيع والميتة والدم وما أُهلَّ به لغير الله.
أيها الإخوة: وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجيء بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه ويترك الطبيب. فالأنبياء والرسل هم أطباء القلوب والأبدان، وتزكية النفوس مسلَّم إليهم، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم.
والله -عزَّ وجلَّ- إنما بعثهم لهذه التزكية، وولاهم إياها، كما قال -سبحانه-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة:2]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لأِتَمِّمَ صَالِحَ الأْخْلَاقِ" [أحمد:8952، وحسنه الألباني في الأدب المفرد].
نسأل الله أن يوفقنا لأحسن الأخلاق والأعمال، ويصرف عنا سيئها، ويحسن لنا الختام أجمعين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أكرم أولياءه بطاعته، والصدق في معاملته، وأنزل في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وعمر أوقاتهم بالبذل لخدمة الدين، وإعزاز المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون: والنفس آية من آيات الله العظيمة، وهي موجودة في كل حيوان، وهي في غاية اللطف والخفة، موجودة في البدن ولكنها لا تُرى، سريعة التنقل والحركة، سريعة التغير والتأثر والانفعالات النفسية من الهم والإرادة، والقصد والحب والبغض، ولولاها لكان البدن مجرد تمثال لا حركة فيه، وتسويتها على هذا الوجه آية من آيات الله العظيمة كما قال -سبحانه-: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:7-10].
عباد الله: وللإنسان مع نفسه حالتان: إما أن يطهّر نفسه من الذنوب، وينقيها من العيوب، ويرقيها بطاعة الله، ويعليها بالعلم النافع، ويرفعها بالعمل الصالح، فهذا قد زكى نفسه بما يحبه الله، فهو من المفلحين كما قال -سبحانه-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا). وإما أن يلوثها بالذنوب والمعاصي والأخلاق الرذيلة فهذا قد دس نفسه فهو من الخاسرين (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).
والناس متفاوتون في الأعمال والأخلاق تفاوتاً كبيراً، وذلك بحسب تفاوت الإيمان والأعمال والأخلاق، ومقدارها والنشاط فيها، وبحسب الغاية المقصودة بتلك الأعمال، هل هي خالصة لله فتقبل وتبقى وتنفع صاحبها؟ أم هي غير خالصة لله فترد وتبطل وتفنى، وتضر صاحبها؟ فالناس مختلفون، وأعمالهم وأخلاقهم متفاوتة كما قال -سبحانه-: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل:4].
ولهذا بين الله -عزَّ وجلَّ- أن العاملين قسمان، ولكل قسم عمل وحكم وجزاء في الدنيا والآخرة:
فالقسم الأول: من قام بما أمره الله به من التوحيد والإيمان، وأدى ما أمر الله به من العبادات، واتقى ما نهى الله عنه من المحرمات والمعاصي، وصدّق بلا إله إلا الله وما دلت عليه، وما ترتب عليها من الجزاء الأخروي. فهذا يسهل الله عليه أمره، ويجعله ميسراً له كل خير، ميسراً له ترك كل شر؛ لأنه أتى بأسباب التيسير، فيسر الله له ذلك كما قال -سبحانه-: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) [الليل: 5-7].
وأما القسم الثاني: فهو من بخل بما أمره الله به، فترك الإنفاق الواجب والمستحب، ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب لله، واستغنى عن الله، فترك عبادته وطاعته، ولم ير نفسه محتاجة إلى ربه الذي لا نجاة له إلا بعبادته وطاعته. وكذب بما أوجب الله على العباد من التصديق به الذي هو من الإيمان، وما يترتب عليه من الأعمال والثواب والجزاء.
فهذا ييسره الله للحالات العسرة، والخصال الذميمة، بأن يكون ميسراً للشر أينما كان، مقيضاً له فعل المعاصي؛ لأنه أتى بأسباب التعسير والهلاك، نسأل الله العافية كما قال -سبحانه-: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل:8-10].
عباد الله: أخلاق البشر يمكن تغييرها وتحويلها إلى أن تكون حسنة أو قبيحة، حسب التذكير والوعظ، وحسب الإيمان والكفر، إلا أن بعض النفوس والطباع سريعة القبول والتأثر والتأثير، وبعضها صعب يحتاج إلى معالجة طويلة، وبعضها غير قابل.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأنْبَتَتِ الْكَلأ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ الله، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله? الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ" (البخاري:79، واللفظ له، ومسلم:2282).
عباد الله: ومن سُنة الله -عزَّ وجلَّ- في عباده أن الناس إذا غيّروا ما بأنفسهم فانتقلوا من الكفر إلى الإيمان، ومن معصية الله إلى طاعة الله، غيَّر الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء والذلة والشدة، إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة، وكذلك الله -عزَّ وجلَّ- لا يغيّر ما بقوم من النعمة والإحسان ورغد العيش حتى يغيروا ما بأنفسهم، فينتقلوا من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعات إلى المعاصي، ومن شكر النعم إلى البطر بها، فيسلبهم الله عند ذلك إياها: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد:11].
أيها الإخوة: والإسلام كله تغيير للعواطف من الأدنى إلى الأعلى، من المخلوق العاجز إلى الخالق القادر، ومن الدنيا إلى الدين، ومن الاشتغال بالأموال والأولاد إلى المسارعة للإيمان والأعمال الصالحة، ومن العادات والتقاليد إلى السنن والآداب الإسلامية، ومن الدعوة إلى الأشياء الفانية إلى الدعوة إلى الله.
وجزاء ذلك كله العزة في الدنيا والجنة في الآخرة كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف:10-13]. سلك الله بي وبكم سبيل عباده الصالحين.
ألا ما أحوجنا -أيها الإخوة الكرام- أن نراجع أنفسنا، ونسلك كل سبيل يزيد في إيماننا، ويحسن ويغير من أخلاقنا، فاعتصموا -أيها الإخوة- بربكم، واحتموا بحماه، واستمسكوا بصراطه المستقيم، واحرصوا على تجديد إيمانكم، وتحسين أخلاقكم مع ربكم وأنفسكم ومن حولكم.
نسأل الله كمال الإيمان به، وجميل التوكل عليه، وحسن الظن فيه.
اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك.
اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا.
اللهم ثبتنا على الإسلام، وارزقنا حلاوة الإيمان، واجعلنا من أهل السعادة يا كريم يا منان.