الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحياة الآخرة |
حقيقة عظمى لا ينكر وقوعها بشر، وموقف رهيب لن يفلت منه أحد، وبقدر إيمان كل الناس به ويقينهم التام بحدوثه نجد من الجميع الغفلة عنه. أحبتي: إنه الخطب الجلل، ونهاية الأجل: إنه الموت! ذلكم الغائب المنتظر... وهذه مبالغة في الحَثِّ على غرس الأشجار، وحفر الأنهار؛ لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها؛ فكما...
أيها الإخوة: حقيقة عظمى لا ينكر وقوعها بشر، وموقف رهيب لن يفلت منه أحد، وبقدر إيمان كل الناس به ويقينهم التام بحدوثه نجد من الجميع الغفلة عنه.
أحبتي: إنه الخطب الجلل، ونهاية الأجل: إنه الموت! ذلكم الغائب المنتظر، الذي قال عنه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "مَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ قَطُّ وَهُوَ فِي ضِيقٍ إِلَّا وَسَّعَهُ عَلَيْهِ، وَلَا ذَكَرُهُ وَهُوَ فِي سَعَةٍ إِلَّا ضَيِّقَهُا عَلَيْه".
ويقول الحق -تبارك وتعالى- مؤكداً حصوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185] ويقول: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35] ويقول: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [العنكبوت:57].
ومع ذلك كله إلا أننا نغفل وننسى؛ ولذلك حثنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على الإكثار من تذكُّره فقال: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ: الْمَوْتِ"، وروي: "هَادِمِ اللَّذَّاتِ"، وهو حديث صحيح.
قوله: "هاذم اللذات"، بالذال: قاطعها، وبالدال: مزيل الشيء من أصله. والمراد الموتُ، وهو هاذم اللذات؛ إما لأن مَنْ يذكُرُه يزهد فيها، أو لأنه إذا جاء ما يُبْقِي مِن لذائذ الدنيا شيئاً.
أحبتي: ديننا لا يريد ذكراً للموت يوقف الحياة، ولا غفلةً عنه تفسد الحياة بالمعاصي والموبقات والمشاحنات، ما يدعو إليه ديننا وينشده ذكر للموت يصلح الحياة ويبنيها، ويحفز النفوس للخير ويعليها؛ لذلك كان حقّاً على كل مسلم يريد السعادة في الدارين أن يعلم أن الموت حق لا ريب فيه، ويقين لا شك فيه؛ فمن يجادل في الموت وسكرته؟ ومن يخاصم في القبر وضمته؟ ومن يقدر على تأخير موته وتأجيل ساعته؟.
(فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف:34، النحل:61]، ويقول: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185].
وحث الله ورسوله على العمل والجد والنشاط واستفراغ الوسع في الضرب بالأرض والسعي فيها، وصح عَن الرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ: "إِنْ قَامَتْ الَسَاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُم فَسِيلَةٌ فإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُوْمَ حتى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا".
وهذه مبالغة في الحَثِّ على غرس الأشجار، وحفر الأنهار؛ لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها؛ فكما غرس لك غيرك فانتفعت به فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع، وإن لم يبق من الدنيا إلا صُبابة، وذلك -بهذا القصد- لا ينافي الزهد والتقلل من الدنيا.
ولذلك كان سلف الأمة يتذاكرون الموت في مجالسهم بين الفينة والأخرى، مع ما كانوا يقومون به من عمارة الأرض والجهاد في سبيل الله، حتى صاروا سادة العالم.
فهذا عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- يجمع العلماء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.
وقال الدقاق: مَن أكثر من ذكر الموت أُكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب ونشاط العبادة؛ ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة.
وقبل ذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر أصحابه بهذا المصير، من ذلك
حديثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رَؤُوسِنَا الطَّيْرُ، فَجَعَلَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، وَيَخْفِضُ بَصَرَهُ وَيَنْظُرُ إِلَى الأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: "أَعُوذُ بِالله مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ!"، قَالَهَا مِرَارًا.
ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِن الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ، بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ -عَلَيْهِ السَّلَام- حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ".
قَالَ: "فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِيّ السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ".
قَالَ: "فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ؟ فَيَقُولُونَ: هذهِ رُوْحُ فُلَان -بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا- حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى".
قَالَ: "فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ؛ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ؛ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُك؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ؛ فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ، أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ".
قَالَ: "فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا، وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ"، قَالَ: "وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ: فَيَقُولُ رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ؛ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي".
قَالَ:" وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمْ الْمُسُوحُ -وَهُوَ اللِّباسُ الخَشِنُ المَمْقُوتُ-، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ".
قَالَ: "فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ -وَهُوَ الحَدِيْدُ- مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ".
"فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَهِ الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ؟ فَيَقُولُونَ: هَذِهِ رُوْحُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ -بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا- حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ".
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)، فَيَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: "اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى".
"فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ! لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ! لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ! لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ فَأَفْرِشُوهُ مِنْ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ".
"فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا، وَسَمُومِهَا؛ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُك الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِم السَّاعَةَ، رَبِّ لَا تُقِم السَّاعَةَ".
وفي رواية: "فَيُقَيِّضُ لَهُ ملَك أَصَمّ أَبْكَم مَعَهُ مَرْزَبَةٌ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ صَارَ تُرَابًا -أَوْ قَالَ-: رَمِيمًا، فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا الْخَلاَئِقُ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ، ثُمَّ تُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى".
اللهم أعذنا من عذاب القبر.
الخطبة الثانية:
(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة:8].
أيها الإخوة: تأملت هذه الآية فوجدت فيها لفتة من اللفتات القرآنية الموحية للمخاطبين بها وغير المخاطبين.
هذه اللفتة تقرر في خلد متأملها حقيقة ينساها الناس، حقيقة عجيبة، فالأصل أن ما يخافه الإنسان يهرب منه لئلا يلحقه، لكن المفزع الأكبر لمن هرب مما يخاف أن يتلقاك ما هربت منه! إذا لا مهرب ولا فكاك منه! وهي صورة متحركة موحية عميقة الإيحاء.
أحبتي: صوّر زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم ورحمهم- هذا الموقف فقال:
كأنَّنِي بين جُلِّ الأهْلِ مُنْطَرِحٌ | على الفراشِ وأيديهم تُقلِّبُني |
وقد تجمَّع حولي مَن ينوحُ ومَنْ | يبكي عليَّ وينعاني ويندُبُني |
وقد أتوا بطبيبٍ كي يُعالِجَني | ولم أرَ الطِّبَّ هذا اليومَ ينفعني |
واشتدَّ نزْعِي وصار الموت يجذِبُها | مِن كُلِّ عِرقٍ بلا رفق ولا وهن |
واستخرج الروحَ مِنِّي في تَغَرْغُرِهَا | وصار ريقِي مريراً حين غَرْغَرَنِي |
وقام مَن كان حِبَّ الناس في عجَلٍ | نحو الْمُغَسِّلِ يأتيني يُغسِّلني |
فجاءني رجلٌ منهم فجرَّدني | مِن الثِّيابِ وعَرَّانِي وأفردني |
وأودعوني على الألْوَاحِ مُنْطَرِحَاً | وصار فوقي خرير الما يُنَظِّفُنِي |
وأسْكِبَ الماء مِن فوقي، وغسَّلني | غَسلا ثلاثا ونادى القوم بالكفنِ |
وألبسوني ثيابا لا كِمامَ لها | وصار زادي حَنُوطِي حين حنَّطني |
وأخرجوني من الدُّنْيَا فوا أسفا! | على رحيلي بلا زادٍ يُبَلِّغُني |
وحمَّلوني على الأكتاف أربعة | مِن الرجال وخَلْفِي مَنْ يُشَيِّعُني |
وقدَّمُونِي إلى المحراب وانْصَرَفُوا | خلف الإمام فصلَّى ثُمَّ وَدَّعَني |
صلوا عليَّ صلاةً لا رُكُوعَ لها | ولا سجودَ لعلَّ الله يرحمني! |
وكشَّفَ الثوب عن وجهي لينظرني | وأسْبَلَ الدمع من عينيه أغرقني |
فقام مُحترما بالعزم مُشتمِلَاً | وصفّفَ اللَّبْنَ من فوقي وفارقني |
وقال هيلوا عليه التُّرْبَ واغتنموا | حُسْنَ الثَّوابِ مِن الرحمن ذي المِنَنِ |
في ظُلْمَةِ الْقَبْرِ لا أمٌّ هناك ولا | أبٌ شفيقٌ ولا أخٌّ يُؤنِّسني |
نسأل الله العفو والعافية.