الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
لقَدْ ضَرَبَتِ الْعَوَاصِفُ الثَّلْجِيَّةُ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ المُسْلِمِينَ، وَاشْتَدَّ بَرْدُهُمْ، وَعَظُمَ كَرْبُ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ، وَلَا سِيَّمَا المُنْقَطِعُونَ فِي المُخَيَّمَاتِ وَالمَلَاجِئِ فِي بِلَادِ الشَّامِ وَمَا حَوْلَهَا، فَقَدْ فَتَّتَ الْجُوعُ أَكْبَادَهُمْ، وَأَنْهَكَ الْبَرْدُ أَجْسَادَهُمْ، وَمَاتَ بِهِ أَطْفَالُهُمْ، وَفِي كُلِّ يَوْمٍ تُنْقَلُ صُوَرٌ لِمَوْتَى مِنَ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ، فَلْنَتَّقِ اللهَ -تَعَالَى- فِيهِمْ، وَلْنُوَاسِهِمْ بِمَا يُعِينُهُمْ وَيُخَفِّفُ مُصَابَهُمْ، فَإِنَّهُمْ فِي مَخْمَصَةٍ شَدِيدَةٍ، وَكُرْبَةٍ عَظِيمَةٍ، وَحَاجَةٍ أَكِيدَةٍ. وَإِطْعَامُ الْجَائِعِ، وَتَدْفِئَةُ الْبَرْدَانِ، وَإِيوَاءُ المُشَرَّدِ فِيهِ حِفْظٌ لِنُفُوسٍ مِنَ التَّلَفِ (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، فَأَحْيُوا إِخْوَانَكُمْ بِفُضُولِ أَمْوَالِكُمْ، وَتَوَاصَوْا بِمُوَاسَاتِهِمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا «جَعَلَ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ»، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا وَعَلَّمَنَا، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا كَفَانَا وَأَعْطَانَا. أَوْجَدَنَا مِنَ الْعَدَمِ، وَرَبَّانَا بِالنِّعَمِ، فَذُكِرْنَا وَلَمْ نَكُ نُذْكَرُ، وَعُرِفْنَا وَلَمْ نَكُ نُعْرَفُ (أَوَلَا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم: 67].
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ ابْتَلَى الْعِبَادَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ؛ فَجَعَلَ فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَالشَّرِيفَ وَالْوَضِيعَ، وَالْكَرِيمَ وَالْبَخِيلَ (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام: 53].
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَعَا إِلَى الْإِيثَارِ وَالمُوَاسَاةِ، وَنَهَى عَنِ الْأَثَرَةِ وَحُبِّ الذَّاتِ، وَقَالَ: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَحَقِّقُوا الْأُخُوَّةَ الْإِيمَانِيَّةَ؛ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ رَابِطٍ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ. اسْتَعْلَتْ عَلَى كُلِّ الرَّوَابِطِ وَالْعَصَبِيَّاتِ الْعِرْقِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ وَالْقَبَلِيَّةِ وَالْأُسَرِيَّةِ؛ إِذْ جَعَلَهَا اللهُ -تَعَالَى- أُولَى الرَّوَابِطِ وَأَقْوَاهَا، وَجَعَلَ مَا سِوَاهَا أَضْعَفَ مِنْهَا، فَالْأُخُوَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ أُخُوَّةُ الدِّينِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهَا يَعُمُّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، وَكُلُّ رَابِطَةٍ غَيْرُهَا تَتَلَاشَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ (الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ) [الزُّخرف: 67].
أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ أَعْظَمِ آدَابِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ أَقْوَى مَظَاهِرِ الْإِيمَانِ: مُوَاسَاةُ المُؤْمِنِ لِأَخِيهِ المُؤْمِنِ، فَيَقِفُ مَعَهُ فِي كُرْبَتِهِ، وَيُوَاسِيهِ فِي مِحْنَتِهِ، وَيُخَفِّفُ مُصَابَهُ، وَيَسُدُّ حَاجَتَهُ.
وَكَانَ خُلُقُ المُوَاسَاةِ مُتَقَدِّمًا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الشَّرَائِعِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَكَبْرُ مَظْهَرٍ لِلْمُوَاسَاةِ مَا عَمِلَهُ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَوْرَ هِجْرَتِهِ إِلَى المَدِينَةِ مِنَ المُؤَاخَاةِ بَيْنَ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَعَزَمَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ عَلَى الِانْخِلَاعِ مِنْ نِصْفِ أَمْوَالِهمْ لِإِخْوَانِهِمْ، وَدُوِّنَتْ فِي سِيَرِهِمْ أَعَاجِيبُ مِنْ آثَارِ هَذِهِ المُؤَاخَاةِ، فِي بَعْضِهَا إِيثَارٌ وَفِي أَكْثَرِهَا مُوَاسَاةٌ حَتَّى قَالَ المُهَاجِرُونَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: "يَا رَسُولَ اللَّـهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ، وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، لَقَدْ كَفَوْنَا المُؤْنَةَ وَأَشْرَكُونَا فِي المَهْنَإِ، حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا مَا دَعَوْتُمُ اللهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ).
وَمَا خَافَ المُهَاجِرُونَ أَنْ يَذْهَبَ إِخْوَانُهُمُ الْأَنْصَارُ بِالْأَجْرِ دُونَهُمْ إِلَّا لمِاَ رَأَوْا مِنْ إِيثَارِهِمْ وَمُوَاسَاتِهِمْ؛ حَتَّى أَرَادُوا مُنَاصَفَتَهُمْ فِي نَخِيلِهِمْ، وَالنَّخْلُ أَغْلَى مُلْكِهِمْ، وَمِنْهُ قُوتُهُمْ وَمَعِيشَتُهُمْ، فَلَمْ يَكْتَفُوا بِإِعْطَائِهِمْ مِنَ الثَّمَرَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا قِسْمَةَ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِهِمْ، قَالَتِ الأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: «لاَ» فَقَالَ: «تَكْفُونَا المَئُونَةَ وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ»، قَالُوا: "سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
وَلَمْ يَكْتَفِ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالمُؤَاخَاةِ لِتَرْسِيخِ المُوَاسَاةِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، بَلْ كَانَ يَتَحَيَّنُ الْفُرْصَةَ تِلْوَ الْأُخْرَى لِيُذَكِّرَهُمْ بِالمُوَاسَاةِ، وَيَحُثَّهُمْ عَلَيْهَا، وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا؛ فَفِي شَأْنِ المَنَائِحِ الَّتِي تُحْلَبُ؛ يَدْعُو -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى المُوَاسَاةِ فِيهَا؛ لِأَنَّ غِذَاءَ النَّاسِ عَلَيْهَا، فَيَقُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَلَا رَجُلٌ يَمْنَحُ أَهْلَ بَيْتٍ نَاقَةً، تَغْدُو بِعُسٍّ، وَتَرُوحُ بِعُسٍّ، إِنَّ أَجْرَهَا لَعَظِيمٌ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَالعُسُّ: هُوَ الْقَدَحُ الْكَبِيرُ يُحْلَبُ فِيهِ اللَّبَنُ.
وَيُرَسِّخُ المُوَاسَاةَ فِي الْأَرَاضِي، فَيَقُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَزْرَعَهَا وَعَجَزَ عَنْهَا، فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ المُسْلِمَ، وَلَا يُؤَاجِرْهَا إِيَّاهُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَإِذَا فَطِنَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمُحْتَاجٍ لَمْ يَسْأَلْ حَاجَتَهُ دَعَا دَعْوَةً عَامَّةً إِلَى المُوَاسَاةِ لِيَسُدَّ حَاجَةَ المُحْتَاجِينَ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ»، قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فَقَدْ فَطِنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِحَاجَةِ الرَّجُلِ لمَّا رَآهُ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَدَعَا إِلَى المُوَاسَاةِ دَعْوَةً عَامَّةً؛ لِئَلَّا يُؤْذِيَ الرَّجُلَ، فَيَأْتِيهِ رِزْقٌ مِنَ المُوَاسَاةِ، وَلَا يَجْرَحُهُ عِلْمُ النَّاسِ بِفَاقَتِهِ، فَذَكَرَ المُوَاسَاةَ فِي الزَّادِ المَأْكُولِ، وَالظَّهْرِ المَرْكُوبِ، وَهُمَا أَهَمُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَذَكَرَ أَصْنَافًا أُخْرَى اخْتَصَرَهَا الرَّاوِي حَتَّى رَسَخَ فِي مَفْهُومِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّ مَا زَادَ عَنْ حَاجَتِهِمْ وَاسَوْا بِهِ غَيْرَهُمْ، وَلَمْ يَدَّخِرُوهُ لِأَنُفْسِهِمْ.
وَذَاتَ مَرَّةٍ رَأَى فِي النَّاسِ حَاجَةً، وَكَانَ وَقْتَ الْأَضَاحِي فَنَهَاهُمْ عَنِ ادِّخَارِ اللَّحْمِ لِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيُواسُوا غَيْرَهُمْ بِمَا زَادَ عَنْ حَاجَتِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ اسْتَغْنَى النَّاسُ فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي ادِّخَارِ اللَّحْمِ كَيْفَ شَاءُوا.
وَفِي هَذَا فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ: وَهِيَ أَنَّ النَّاسَ إِذَا ضَرَبَتْهُمْ حَاجَةٌ كَانَتِ المُوَاسَاةُ مُتَأَكَّدَةً، وَكَانَ الِادِّخَارُ مَكْرُوهًا أَوْ مُحَرَّمًا بِحَسَبِ الْحَالِ.
وَالْأَثَرَةُ تَجْعَلُ النَّاسَ يَعْكِسُونَ الْقَضِيَّةَ؛ فَإِذَا أَحَسُّوا بِالْحَاجَةِ ادَّخَرُوا مَا عِنْدَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا، وَتَرَكُوا المُعْدَمِينَ بِلَا مُوَاسَاةٍ، فَيُعَاقَبُونَ بِشُحِّ المَوَارِدِ، وَاشْتِدَادِ الْحَاجَةِ، وَذَهَابِ بَرَكَةِ مَا ادَّخَرُوا، وَكَثِيرٌ مِنَ المَجَاعَاتِ الَّتِي ضَرَبَتِ النَّاسَ عَبْرَ التَّارِيخِ كَانَ الْأَغْنِيَاءُ فِيهَا يَدَّخِرُونَ عَظَائِمَ المَالِ، وَخَزَائِنُهُمْ مَمْلُوءَةٌ بِالْأَقْوَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، بَيْنَمَا النَّاسُ يَتَسَاقَطُونَ جِيَاعًا فِي الطُّرُقَاتِ، فَيُعْدَمُ الْأَمْنُ بِسَبَبِ سَطْوِ الجَوْعَى عَلَى بُيُوتِ الْأَغْنِيَاءِ وَمَخَازِنِهِمْ، فَيَخْسَرُ الْجَمِيعُ أَقْوَاتَهُمْ وَحَيَاتَهُمْ، وَلَوْ أَنَّ خُلُقَ المُوَاسَاةِ وُجِدَ فِيهِمْ لَشَبِعَ الْجَمِيعُ وَأَمِنُوا.
وَمِنَ الْأَسَالِيبِ النَّبَوِيَّةِ فِي تَرْسِيخِ خُلُقِ المُوَاسَاةِ فِي أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: مَدْحُ أَهْلِ المُوَاسَاةِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ، وَذِكْرُ عَمَلِهِمْ فِي المُوَاسَاةِ؛ لِيَتَأَسَّى بِهِمْ غَيْرُهُمْ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» إِغْرَاءٌ يَدْفَعُ لِلْمُوَاسَاةِ، فَمْنَ ذَا الَّذِي يَحْرِمُ نَفْسَهُ أَنْ يَنْتَسِبَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَيَنْتَسِبَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِلَيْهِ؟! وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِالْأَشْعَرِيِّينَ وَحَدَهُمْ، بَلْ هُوَ لِكُلِّ مَنْ وَاسَى إِخْوَانَهُ وَقَامَ عَلَى حَاجَتِهِمْ؛ لِأَنَّ إِخْبَارَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ مِنْهُمْ وَهُمْ مِنْهُ مُعَلَّلٌ بِمُوَاسَاتِهِمْ، أَيْ: أَنَّهُمْ مِنْهُ بِسَبَبِ مُوَاسَاتِهِمْ، وَهُوَ مِنْهُمْ بِسَبَبِهَا أَيْضًا.
وَكَفَى بِهِ شَرَفًا لِأَهْلِ المُوَاسَاةِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُمْ، وَيَكُونُوا هُمْ مِنْهُ.
وَقَدْ تَخَلَّقَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِخُلُقِ المُوَاسَاةِ حَتَّى صَارَ مِنْ سَجَايَاهُمْ، وَلَا عَجَبَ أَعْجَبُ مِنْ حَادِثَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي أَضَافَ جَائِعًا، فَقَدَّمَ لَهُ طَعَامَ صِبْيَانِهِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تُنَوِّمَهُمْ، وَأَطْفَأَ السِّرَاجَ لِيُوهِمَ الضَّيْفَ أَنَّهُ وَامْرَأَتَهُ يَأْكُلَانِ وَهُمَا لَا يَأْكُلَانِ، حَتَّى يَنْفَرِدَ ضَيْفُهُمَا بِطَعَامِهِمَا وَطَعَامِ صِبْيَانِهِمَا، فَيَنْزِلُ الْوَحْيُ عَلَى النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِخَبَرِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْعَجِيبَةِ؛ لِيَقُولَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلرَّجُلِ: «قَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَأَخَذَ التَّابِعُونَ خُلُقَ المُوَاسَاةِ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، حَتَّى قَالَ التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «لَقَدْ رَأَيْتُنَا فِي مَجْلِسِ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ أَرْبَعِيْنَ فَقِيْهًا، أَدْنَى خَصلَةٍ فِيْنَا التَّوَاسِي بِمَا فِي أَيْدِيْنَا».
وَكَانَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يُتَّهَمُ بِالْبُخْلِ، وَمَا دَرَى النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَعُولُ مِائَةَ أُسْرَةٍ فِي المَدِينَةِ، يُسَاوِيهِمْ بِعِيَالِهِ، وَيُوَاسِيهِمْ بِمَالِهِ. عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ: أَنَّ عَلِيَّ بنَ الحُسَيْنِ كَانَ يَحْمِلُ الخُبْزَ بِاللَّيْلِ عَلَى ظَهْرِهِ، يَتْبَعُ بِهِ المَسَاكِينَ فِي الظُّلْمَةِ، وَيَقُوْلُ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ».
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ: «كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ المَدِيْنَةِ يَعِيْشُوْنَ لَا يَدْرُوْنَ مِنْ أَيْنَ كَانَ مَعَاشُهُمْ، فَلَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ، فَقَدُوا ذَلِكَ الَّذِي كَانُوا يُؤْتَوْنَ بِاللَّيْلِ».
وَقَالَ عَمْرُو بنُ ثَابِتٍ: «لمَّا مَاتَ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ، وَجَدُوا بِظَهْرِهِ أَثَرًا مِمَّا كَانَ يَنْقُلُ الجُرْبَ بِاللَّيْلِ إِلَى مَنَازِلِ الأَرَامِلِ».
فَهَذَا خُلُقُ المُوَاسَاةِ عِنْدَ أَسْلَافِنَا عَلَيْهِمْ رَحْمَةُ اللَّـهِ -تَعَالَى- وَرِضْوَانِهِ، فَلْنَتَأَسَّ بِهِمْ، وَلْنَتَخَلَّقْ بِمَا أَدَّبَنَا بِهِ رَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا تَزُولُ، وَيَبْقَى لَنَا مَا قَدَّمْنَا مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّـهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة: 110].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى المُؤْمِنِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ، وَمُوَاسَاةُ إِخْوَانِهِ لَهُ مِمَّا يُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَيْهِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُحِسُّونَ بِهِ، وَيَتَأَلَّـمُونَ لِأَلَمِهِ، وَيُخَفِّفُونَ عَنْهُ مُصَابَهُ. وَكُلَّمَا كَانَتِ المُوَاسَاةُ فِي أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ كَانَ وَقْعُهَا عَلَى النَّفْسِ أَشَدَّ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ تُدْخِلَ عَلَى أَخِيكَ المُؤْمِنِ المُسْلِمِ سُرُورًا، أَوْ تَقْضِيَ لَهُ دَيْنًا، أَوْ تُطْعِمَهُ خُبْزًا» (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا).
وَمِنْ أَعْظَمِ السُّرُورِ: سُرُورُ الْجَائِعِ بِالطَّعَامِ، وَسُرُورُ الْبَرْدَانِ بِالْغِطَاءِ وَالدِّفْءِ.
وَقَدْ ضَرَبَتِ الْعَوَاصِفُ الثَّلْجِيَّةُ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ المُسْلِمِينَ، وَاشْتَدَّ بَرْدُهُمْ، وَعَظُمَ كَرْبُ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ، وَلَا سِيَّمَا المُنْقَطِعُونَ فِي المُخَيَّمَاتِ وَالمَلَاجِئِ فِي بِلَادِ الشَّامِ وَمَا حَوْلَهَا، فَقَدْ فَتَّتَ الْجُوعُ أَكْبَادَهُمْ، وَأَنْهَكَ الْبَرْدُ أَجْسَادَهُمْ، وَمَاتَ بِهِ أَطْفَالُهُمْ، وَفِي كُلِّ يَوْمٍ تُنْقَلُ صُوَرٌ لِمَوْتَى مِنَ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ، فَلْنَتَّقِ اللهَ -تَعَالَى- فِيهِمْ، وَلْنُوَاسِهِمْ بِمَا يُعِينُهُمْ وَيُخَفِّفُ مُصَابَهُمْ، فَإِنَّهُمْ فِي مَخْمَصَةٍ شَدِيدَةٍ، وَكُرْبَةٍ عَظِيمَةٍ، وَحَاجَةٍ أَكِيدَةٍ.
وَإِطْعَامُ الْجَائِعِ، وَتَدْفِئَةُ الْبَرْدَانِ، وَإِيوَاءُ المُشَرَّدِ فِيهِ حِفْظٌ لِنُفُوسٍ مِنَ التَّلَفِ (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة: 32]، فَأَحْيُوا إِخْوَانَكُمْ بِفُضُولِ أَمْوَالِكُمْ، وَتَوَاصَوْا بِمُوَاسَاتِهِمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ؛ فَإِنَّ المُسْلِمَ أَخُو المُسْلِمِ: لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَمَنْ تَخَلَّى عَنْ إِخْوَانِهِ فِي مِحْنَتِهِمْ لِيَفْتَرِسَهُمُ الْجُوعُ وَالْبَرْدُ وَالْخَوْفُ فَقَدْ ظَلَمَهُمْ وَأَسْلَمَهُمْ وَخَذَلَهُمْ، وَيُخْشَى أَنْ تَزُولَ نِعْمَتُهُ، وَأَنْ تُعَجَّلَ نِقْمَتُهُ، وَأَنْ تُبَدَّلَ عَافِيَتُهُ.
كَانَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يَنْزِعُ ثِيَابَهُ فِي الشِّتَاءِ لِيُحِسَّ بِالْبَرْدِ الَّذِي يَجِدُهُ الْفُقَرَاءُ، وَيَقُولُ: لَيْسَ لِي طَاقَةُ مُوَاسَاتِهِمْ بِالثِّيَابِ فَأُوَاسِيهِمْ بِتَحَمُّلِ الْبَرْدِ كَمَا يَتَحَمَّلُونَ.
وَكَانَ أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- إِذَا أَمْسَى تَصَدَّقَ بِمَا فِي بَيْتِهِ مِنَ الْفَضْلِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مَنْ مَاتَ جُوْعًا فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِهِ، وَمَنْ مَاتَ عُرْيًا فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِهِ.
وَفِي لَيْلَةٍ شَاتِيَةٍ تَصَدَّقَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ المَالِكِيُّ بِقِيمَةِ غَلَّةِ بُسْتَانِهِ كُلِّهَا-وَكَانَتْ مِئَةَ دِينَارٍ ذَهَبِيٍّ- وَقَالَ: مَا نِمْتُ اللَّيْلَةَ غَمًّا لِفُقَرَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَلْيَتَحَرَّ مَنْ وَاسَى إِخْوَانَهُ أَنْ يَقَعَ مَا بَذَلَ فِي أَيْدِيهِمْ؛ لِئَلَّا يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ تُجَّارُ الْأَزَمَاتِ، الَّذِينَ يَعْظُمُ ثَرَاؤُهُمْ بِمُعَانَاةِ غَيْرِهِمْ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَقْبَلَ مِنَ الْبَاذِلِينَ، وَأَنْ يُطْعِمَ الْجَائِعِينَ، وَأَنْ يُدْفِئَ الْبَرْدَانِينَ، وَأَنْ يُئْوِيَ المُشَرَّدِينَ، وَأَنْ يَنْصُرَ المَظْلُومِينَ، وَأَنْ يَكْبِتَ الظَّالِمينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...