الودود
كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة |
اللغة العربية أصلح اللغات، وأجمع المعاني والعبارات، وأحسن إشارة وأوجز عبارة، تشنّف الأسماع وتوضّح المعاني بإبداع، وهذه اللغة يكفيها شرفًا وفضلاً ارتباطها بالقرآن تتلى، واتصالها بسنة المصطفى، فهي محفوظة بحفظ القرآن، فعلى الرغم من محارباتها في شتى المجالات وأنواع التواصلات وألوان المبيعات والتعامل والمؤسسات حتى ندر ذكرها، وقل الاعتزاز بها؛ ومع ذلك فهي محفوظة، ومكانتها محفوظة، فبقاء القرآن والسنة بقاؤها، فلا فهم لهما إلا بها، ولا إبداع في فوائدهما إلا بها حتى قيل لولا القرآن ما كانت عربية. اللغة العربية في شريعتنا لها مكانة، وفي علومنا ودروسنا لها حصانة، ولعزنا وشرفنا لها وقع وصيانة..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل القرآن لسانًا عربيًّا وتبيانًا، وجعل اللغة العربية لفهم القرآن والسنة مفتاحًا وبيانًا، وأشهد أن لا إله إلا الله، أنعم باللسان على الإنسان منة توضيحًا وإعطاء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفصح الناس لسانًا وأحسنهم بيانًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين سلكوا طريقته لغة وبيانًا وإعرابًا.
أما بعد: فاتقوا ربكم، فالتقوى هي العروة الوثقى. من الآيات الباهرة والنعم الظاهرة: نعمة اللسان والتعبير عما يريده الإنسان، فقال الرحيم الرحمن: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 1- 4].
ولما خصه جل ثنائه باللسان العربي وضَّح أن لغة القرآن أعظم لغة على الإنسان.
اقتبس النحو فنعم المقتبس | والنحو زين وجمال ملتمس |
صاحبه مكرم حيث جلس | من فاته فقد تعمى وانتكس |
كأن ما فيه من العي خرس | شتان ما بين الحمار والفرس |
ومن نعمه وآلائه وقدرته وآياته: اختلاف الألسن واللغات كما يختلفون بالألوان والجنسيات (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) [الروم:22].
وكل رسول بعثه الله إلى قومه بعثه بلسان من قومه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ..) [إبراهيم:4].
ومن التنويه بشأن اللغة العربية كما في الآيات القرآنية: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف:2]، (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)، فبيَّن أن لغة القرآن اللغة العربية واللغة الفصيحة والكتاب والسنة؛ فهمهما ومعرفتهما متوقف على معرفة اللغة (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف:3]، وامتن بإنزال القرآن أنه عربي وتبيان (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) [الشعراء: 193- 195].
ومحمد رسولنا خاتم الرسل وأفضلهم أُرسل إلى الناس كافة، وخُوطب بدعوته العرب والعجم، فبعثه الله من قريش أفصح العرب بيانا، وأسلمهم لسانا، وخُوطب الناس بالعربية جمعاء فالأمة العربية أفصح الأمم لسانا وأسرعهم إفهاما وأقدرهم بيانا.
هذه اللغة العربية أصلح اللغات، وأجمل الكلمات، وأجمع المعاني والعبارات، وأحسن إشارة وأوجز عبارة، وأسهل كلامًا وأسرع حفظًا بإلمام، تشنّف الأسماع وتوضّح المعاني بإبداع، وهذه اللغة يكفيها شرفًا وفضلاً ارتباطها بالقرآن تتلى، واتصالها بسنة المصطفى، فهي محفوظة بحفظ القرآن، فعلى الرغم من محارباتها في شتى المجالات وأنواع التواصلات وألوان المبيعات والتعامل والمؤسسات حتى ندر ذكرها، وقل الاعتزاز بها؛ ومع ذلك فهي محفوظة، ومكانتها محفوفة، فبقاء القرآن والسنة بقاؤها، فلا فهم لهما إلا بها، ولا إبداع في فوائدهما إلا بها حتى قيل لولا القرآن ما كانت عربية.
اللغة العربية في شريعتنا لها مكانة، وفي علومنا ودروسنا لها حصانة، ولعزنا وشرفنا لها وقع وصيانة، فاسمع أقوال العلماء لتعرف ثمرتها وأهميتها في كل بناء، قال شيخ الإسلام: "فإن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلِّغًا عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، وصارت معرفته من الدين" ا. هـ.
ويقول أيضًا: "إن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فَهْم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهَم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" انتهى.
وقال أيضًا: "معلومٌ أنّ تعلمَ العربية وتعليمَ العربية فرضٌ على الكفاية، وكان السلف يؤدّبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ أن نحفظ القانون العربي، ونُصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنّة، والاقتداء بالعرب في خطابها".
وقال الثعالبي رحمه الله: "من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب". اهـ.
فلغتنا وقرآننا صنوان، فأين الذين عزفوا عنها، ومالوا إلى غيرها؟! بل يتبجحون باللغات الأجنبية ومعرفتها ودرسها، وتركوا اللغة العربية جانبًا وهي هويتنا ولغة قرآننا.
لغتنا أوسع اللغات وأكثرها بيانًا، وأوفاها حجة وإيضاحًا، حتى قال الشافعي مقالته الشهيرة: "لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرهم ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي".
لغتنا غنية بثروتها لا قدرة لأحد أن يحصيها، قال الكسائي: "قد دَرَس من كلام العرب كثير"، ومع ذلك فقد وفت بالمقصود، ووسعت كل صغير وكبير ومولود، وأوعبت وأوسعت وأكبرت وألمعت.
ولهذا علم النحو علم يتوصل به إلى شيئيين: فهم القرآن والسنة وإقامة اللسان على اللسان العربي والسليقة.
ومن أهداف وثمرات اللغة: فهم الكتاب والسنة ومعرفة مدلولاتهما ومعانيهما.
ثانيًا: فهم كلام السلف الصالح.
ثالثًا: تعديل اللسان وتقويمه.
رابعًا: تعليم النطق السليم.
خامسًا: الاعتزاز باللغة وأسرارها وميزتها على غيرها.
سادسًا: أنها من الدين والإسلام المبين.
سابعًا: مواجهة ما يُحاك ضدها كاتهامها بالصعوبة والجمود، والمناداة بترك الإعراب، والتوجه إلى العامية ومزاحمتها باللغات الأخرى يُرَاد من ذلك هدم الدين أو التشكيك فيه، أو إضعاف أثره أو عدم فهمه والعمل به.
ثامنًا: أنها تخدم العلوم الأخرى، ففقهها له علاقة بالعلوم الشرعية، بدءًا بالتوحيد والعقيدة.
تاسعًا: ومن ثمار تعلم اللغة تتجلى به بلاغة القرآن وإعجازه.
عاشرًا: استقامة اللسان في الدعاء فهو عماد الكلام، وبه يستقيم المعنى، وبعدمه يختل أو يفسد، وربما انقلب الدعاء باللحن رأسًا على عقب.
الحادي عشر: استقامة اللسان في الحلال والحرام؛ لأن من اللحن ما يحيل الأحكام ويقلب الحلال والحرام.
يقول أبو بكر -رضي الله عنه-: "لتعلم إعراب القرآن أحب إليَّ من تعلم حروفه"، وقال عمر -رضي الله عنه-: "تفقهوا في السنة، وتفقهوا في اللغة العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي".
وقال "تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة"، قال شيخ الإسلام: "وهذا الذي أمر به عمر -رضي الله عنه- من فقه العربية وفقه الشريعة يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، والسنة هو الطريق إلى فقه أعماله" ا هـ.
أين نحن من تلك التوجيهات البكرية والعمرية؟! أين أبناء المسلمين اليوم الذين زهدوا في لغتهم لغة القرآن وتفاخروا بلغة الغرب واليونان؟!
ما بال الانهزامية عند الناس؟! لغتنا هي عزنا وشرفنا وديننا، وبعض الناس يتعذر بصعوبة التعليم، ويا سبحان الله أيهما أشد تعلمًا وتفهمًا؟!
وآخرون لا يرعون لها معنى، وآخرون يلقّنون أنفسهم ويلوون ألسنتهم باللغة الأجنبية.
إن الأعداء -أيها الأوفياء- بثوا ونشروا لغتهم الأجنبية وألسنتهم الغربية في كثير من أمورنا الحياتية، فلا تكاد تجد مصنوعًا أو عملاً وملبوسًا ليصلوا إلى مطلوبهم، وينالوا أهدافهم، فلهذا قل عمل أو بضاعة أو تواصلات اجتماعية إلا وللغات الأجنبية نصيب بل ربما ليس لها بديل، وهذا الصنيع لإبعاد الشعوب المسلمة عن لغة القرآن والسنة، وبالتالي عدم فهم الكتاب والسنة، وينتج عندها عدم العمل بالكتاب والسنة.
فلغتكم -يا مسلمون، بحمد الله- محفوظة، وتعليمها في أرضنا موسومة، فهي جزء من ديننا، بل لا يقوم الإسلام إلا بها، فما أجملها وأحسنها وأرتبها وأشوقها! فينبغي أن نُعْنَى بها علمًا وتعلمًا وتفهيمًا وتدريسًا، ولهذا علماؤنا نالوا قصب السبق، فدوّنوا وعلّموا وحفظوا وألّفوا ونذروا ونظموا وحثّوا ورغّبوا في تعلم لغة القرآن والفصاحة والبيان، بل عاتبوا وعابوا من رأوه يلحن، وأدبوا، فاسمع إليهم في الخطبة الثانية بعد جلسة الاستراحة وفقكم الباري، ومنحكم الخير وأصلحكم، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين..
عُنِيَ سلف الصالح بلغتنا حثًّا وتعليمًا وترغيبًا وتدريسًا، فسبق قول الخليفتين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وقال شعبة: "تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل"، وقال عبدالملك بن مروان: "أصلحوا ألسنتكم؛ فإن المرء تنوبه النائبة فيستعير الثوب والدابة، ولا يمكنه أن يستعير اللسان".
وقال الشعبي: "النحو في العلم كالملح في الطعام لا يُستغنى عنه".
وقال أيوب السختياني: "تعلَّموا النَّحو فإنَّه جمالٌ للوضيع، وتركه هُجنةٌ للشَّريف".
وقال النووي: "وعلى طالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يسلم به من اللحن والتصحيف".
النحو يبسط من لسان الألكن | والمرء تكرمه إذا لم يلحن |
وإذا طلبت من العلوم أجلّها | فأجلّها منها مُقيم الألسن |
والنحو مثل الملح إن ألقيته | في كل ضد من طعامك يحسن |
بل كان السلف لأولادهم يؤدبون، وعلى اللغة يقومون، ولألسنتهم يصححون، كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يضرب أولاده على اللحن، ولا يضربهم على الخطأ، وكذا كان يصنع ابن عباس -رضي الله عنهما-.
وكان علي -رضي الله عنه- يضرب الحسن والحسين على اللحن في اللغة. ورأى عمر رجلين وهما يَتَرَاطَنَان في الطوافِ، فعلاهما بالدِّرَّةِ وقال: "لا أم لكما، ابتغيا إلى العربية سبيلا".
فعوّدوا أولادكم لغتكم، وقوّموا ألسنتهم بعزكم وشرفكم، البعض يسعى في تعليم أبنائه لغات أخرى، ويبذل المال ليدخلوا دورات، بيد أنه لا يلقي للغة العربية بالاً، ولا يرعى لها معنًى فلا حرص ولا تعليم ولا مخاطبة، ولا تفهيم، لا نقول اجعل خطابك معربًا وللناس في أحوالهم وشؤونهم مخاطبًا، لكن تعلم وخاطب ما تقوم به لسانك ولسان أبنائك، وتفهم به كلام ربك وسنة نبيك.
يا طالبا فتح رتاج العلم | وقاصدا سهل طريق الفهم |
اجنح إلى النحو تجده علما | تجلو به المعنى الغويص المبهم |
وقالوا:
النحو زين وجمال ملتمس | فالتمس النحو ونعم الملتمس |
فعلينا أن نعنى بها ونهتم بها ونخرج عن ألفاظ العامية بقدر الإمكان، وأن نحرص على الكلام بها لاسيما في الأمور الشرعية، ولغة العلم والكتابات والمخاطبات ومزاحمة اللغة بالرطانة في الإعلام، والدعايات والاحتفالات، والأزياء والبيوعات مما يقلل من شأنها واعتقاد عسرها، فعلينا أن نثبُت على لغتنا بقدر الإمكان واعتزازنا بهويتنا.
وإن مما يؤسف له أن اللغات الأجنبية قد طغت على كثير من المؤسسات والشركات والمحلات والوظائف والتجارات، ورغم ذلك فاللغة باقية، فما علينا إلا أن نهتم بها ونتعلمها، وينبغي أن تكون الأصل وغيرها -إن وُجد- الفرع.
ومن مميزات لغتنا: أنها لغة القرآن ولغة ولد عدنان، وأثنى الله عليها، وامتازت بالاشتقاق والإعراب، واستوعبت القدرات والمبتكرات، وسلمت في بنائها ودلالاتها مما يجعل الغرب والشرق يتعجب منها ورقتها ويشيد بها، ويقدمها بل ويتعلمها.
واللغة تُعد هوية كل مجتمع، فمن قدَّم لغة غير قومه، واستأثر بها فكأنه يعلن انتماءه إلى غير قومه، فاللغة العربية من أجمل اللغات وأبلغها وأدقها، وأوسعها وأرقها، وأجمعها بيسر وسهولة وجمال وفتوة:
إنّ الّذي ملأ اللغات محاسنًا | جعلَ الجمالَ وسرّه في الضّاد |
لو لم تكُنْ أمّ اللغـاتِ هيَ المُنى | لكسرتُ أقلامي وعِفتُ مِدادي |
لغةٌ إذا وقعتْ عـلى أسماعِنا | كانتْ لنا برداً على الأكبادِ |
ستظلُّ رابطةً تؤلّـفُ بيننا | فهيَ الرجاءُ لناطـقٍ بالضّادِ |
هذا، وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينصر دينه وان يعلي كلمته..