الباسط
كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
هناك خصلة ممدوحة شرعًا وعرفًا، ولكن قل من يتصف بها من الناس، من فضلها أنها من أبرز صفات أهل الجنة، ومن تحلى بها في الدنيا، سعد في الدنيا والآخرة، ومن وجوه سعادته في الدنيا: راحة قلبه، وطمأنينة نفسه، ومحبة الناس له. لعل البعض اتضحت له هذه الخصلة، إنها سلامة الصدر من الغل والحسد والحقد والكراهية لأهل الإسلام، ومن كل صفات السوء،.. سنعرض في هذه الخطبة -بإذن الله- لفضل سلامة الصدر، وما هي وسائل تصفية الصدر من صفات السوء...
الخطبة الأولى:
الحمد لله..
أما بعد فيا أيها الناس: هناك خصلة ممدوحة شرعا وعرفا، ولكن قل من يتصف بها من الناس، من فضلها أنها من أبرز صفات أهل الجنة، ومن تحلى بها في الدنيا، سعد في الدنيا والآخرة، ومن وجوه سعادته في الدنيا: راحة قلبه، وطمأنينة نفسه، ومحبة الناس له.
لعل البعض اتضحت له هذه الخصلة، إنها سلامة الصدر، ويقصد بسلامة الصدر، سلامة القلب من الغل والحسد والحقد والكراهية لأهل الإسلام، ومن كل صفات السوء، قال الله عن أهل الجنة: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر: 47].
فهذه أمور فُطرت القلوب عليها، غير أن المؤمن يخفيها ولا يسترسل معها ويخالف مقاصدها، والمنافق يبديها ويظهرها.
معاشر المؤمنين: سنعرض في هذه الخطبة -بإذن الله- لفضل سلامة الصدر، وما هي وسائل تصفية الصدر من صفات السوء.
إن سلامة الصدر ونقاءه، ينتج مجتمعا متماسكا لا تهزه عواصف ولا تؤثّر فيه فتن، سلامة الصدر.. نعمة ربانية، ومنحة إلهية.
سلامة الصدر.. من أسباب النصر على العدو، قال تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) [الأنفال:62-63]. فائتلاف قلوب المؤمنين من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كما قال الإمام القرطبي، (فتح القدير: 2/223).
وسلامة الصدر سبب في قبول الأعمال، ففي الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه: «تُعرَض الأعمال كل يوم اثنين وخميس، فيغفر الله -عزَّ وجلَّ- في ذلك اليوم لكل امرئٍ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: انظروا هذين حتى يصطلحا».
سبحان الله!! انظر كم يضيع على نفسه من الخير من يحمل في قلبه الأحقاد والضغائن.
إن سلامة الصدر علامة فضل وتشريف، روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب صدوق اللسان» قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غلّ ولا حسد» ( ابن ماجه كتاب الزهد، ح6024).
وصاحب هذا القلب هو الذي ينجو (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88- 89]، قال سعيد بن المسيب -رحمه الله-: "القلب السليم هو القلب الصحيح، وهو قلب المؤمن"، وسُئل ابن سيرين -رحمه الله-، ما القلب السليم؟ قال: "الناصح لله -عزَّ وجلَّ- في خلقه"، أي: لا غش فيه ولا حسد ولا غل.
سلامة الصدر طريق إلى الجنة أيضاً، فقد أخرج أحمد في مسنده من حديث عبدالله بن عمرو قال: قال عليه الصلاة والسلام: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من الوضوء»، تكرّر ذلك ثلاث مرات في ثلاثة أيام، فأحب عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يعرف خبيئة هذا الرجل، فبات عنده ثلاثاً فلم يره كثير صلاة ولا صيام فسأله فقال: "هو ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق" (أحمد: 63221)، أفرأيت كيف سمت به سلامة صدره حتى بُشِّر بالجنة ثلاث مرات؟!!
ولقد راعى سلفنا الصالح هذا الأمر واهتموا به أشد الاهتمام، ومن تلك المواقف ما حفظه التاريخ عن الشعبي -رحمه الله- قال: "رأى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- في وادٍ ملقى بعد وقعة الجمل التي كانت بين علي وبين عائشة وطلحة والزبير -رضي الله عنهم- فنزل فمسح التراب عن وجه طلحة، وقال: عزيز عليَّ يا أبا محمد أن أراك مجندلاً في الأودية تحت نجوم السماء، إلى الله أشكو عجري وبجري"، ثم قال لابنه: "لعلي وأباك ممن قال الله فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً) [الحجر: 47]".
وهذا إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-، وقد أوذي وسجن وعذّب عذاباً شديداً، لكنه بعد تلك المحنة يصفح عن كل من أساء إليه، فيقول لأحدهم: "أنت في حل، وكل من ذكرني في حل، إلا مبتدع، وقد جعلت أبا إسحاق في حل" يعني المعتصم أمير المؤمنين، رأيت الله يقول: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) [النور: 22]، ويقول: وما ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟!
وله موقف آخر، -رحمه الله- حين قيل له هل نكتب عن محمد بن منصور الطوسي؟ قال: إذا لم تكتب عنه فعمن يكون ذلك؟ قالها مراراً، فقيل له: إنه يتكلم فيك، قال: رجل صالح، ابتُلِي فينا فما نعمل؟" فلم يمنعه كون الرجل يتكلم فيه من تزكيته؛ لأن قلبه قد سلم من الغل والبغضاء والشحناء.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقد كان له موقف من أعدائه وخصومه، حيث صفح عنهم وعفا قائلاً: "لا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كذبه عليَّ أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، والذين كتبوا وظلموا فهم في حل من جهتي".
وذكر تلميذه ابن القيم أنه ما رأى أحداً أجمع لخصال الصفح والعفو وسلامة الصدر من ابن تيمية، وأن أحد تلاميذه بشَّره بموت أكبر أعدائه الذين آذوه، فنهره ابن تيمية وغضب عليه وقال: تبشرني بموت مسلم، واسترجع وقام من فوره، فعزَّى أهل الميت، وقال لهم: "إني لكم مكانه"!!!
إذا كان هذا كذلك فسلامة القلب والصدر ليست هي السذاجة والضعف، وليست هي القلب الذي يسهل خداعه والضحك عليه، كلا، بل إن سلامة القلب كما قال ابن تيمية -رحمه الله-: "القلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، ومآل ذلك بأن يعرف الخير والشر، فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به".
اللهم اجعلنا ممن يأتيك بقلب سليم يا رب العالمين، أقول قولي...
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا أيها الناس: إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، فتعاهدوها بالتطهير، وذلك بتنقيتها من الغل والحسد والحقد، وغرس محبة الخير للمسلمين فيها، حتى تثمر سلامة الصدر للجميع.
عباد الله: لعل البعض يتساءل كيف لي بدفع تلك الصفات عن قلبي، وكيف لي أن يصبح قلبي سليمًا للمسلمين؟!
والجواب سهل، فما أمر الله به ودعا إليه نبيه -صلى الله عليه وسلم- لا يكون مستحيلا، بل ولا عسيرا، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وكيف لا يسعى المؤمن في تحصيل سلامة الصدر واللسان هما من أوضح الدلائل وأصدق البراهين على تمام الإيمان وكماله.
وقد كان السلف -رحمهم الله- يعدُّون الأفضل فيهم من كان سليم الصدر سليم اللسان.
قال إياس بن معاوية بن قرة: "كان أفضلُهم عندهم – أي السلف – أسلَمهم صدوراً وأقلهم غيبة".
وقال سفيان بن دينار: "قلتُ لأبي بشر: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا، قال: كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيرا، قلت: ولِمَ ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم".
ومن وسائل تنقية القلب وسلامة الصدر: اللجوء إلى الله -عز وجل- وسؤاله بصدق وإخلاص أن ينقي قلبك، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أدعية كثيرة أُثِرت عنه سؤال الله هداية القلب وسلامته وثباته، فأخرج مسلم في صحيحه من حديث زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ".. اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا
وأخرج الترمذي في جامعه من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ".
وأخرج الشيخان من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ... وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا".. إلى غير ذلك من أدعيته - صلوات الله وسلامه عليه - .
ومن وسائل سلامة الصدر: حُسن الظن وحمل الكلمات والمواقف على أحسن المحامل:
قال عمر: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً".
وقال الشافعي: "من أراد أن يقضي له الله بخير فليحسن ظنه بالناس".
ولما دخل عليه أحد إخوانه يعوده قال: قوّى الله ضعفك،فقال الشافعي -رحمه الله-: لو قوى ضعفي لقتلني، قال الزائر: والله ما أردت إلا الخير، فقال الإمام: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير.
ومن الوسائل أيضًا: التماس الأعذار وإقالة العثرات والتغاضي عن الزلات: فالتمس لأخيك سبعين عذرًا.
- يقول ابن سيرين: "إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد، فقل:لعل له عذرًا لا أعرفه".
عباد الله: من المعصوم من الخطأ والزلات؟! إذا كان لا يسلم منها أحد، فقد قال بعضهم: "الفتوة التجاوز عن زلات الإخوان".
وإذا ملأ الشيطان قلبك على أخيك، تذكَّر سوابق إحسانه فإنه مما يعين على التماس العذر وسلامة الصدر، واعلم أن الرجل من عُدَّت سقطاته.
معاشر المسلمين: ما أحوجنا جميعا هذه الأيام إلى سلامة الصدر مع الجميع، فالدنيا تافهة، لا تساوى عند الله جناح بعوضة، فعلام نتقاتل عليها؟!!
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب، اللهم اغفر للمسلمين ... اللهم فرج هم المهمومين ...