الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | جماز بن عبد الرحمن الجماز |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحكمة وتعليل أفعال الله |
فكم في زماننا هذا من الفنادق والاستراحات والمزارع والمنتجعات، تُدار فيها الخمور والمخدرات، وكذا يقدم بعضهم لبعض كؤوس الراح، في ولائم الأعراس والأفراح، يضربون الكؤوس، حتى تتصدّع الرؤوس، تُعزف عليهم الموسيقى، وتنبح لهم المغنيات، وترقص لهم الباغيات، فالويل لهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وزينه بالعقل وشرفه بالإيمان، وميّزه بالعقل واللسان عن سائر الحيوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, أمرنا بالخير والإحسان، ونهانا عن الفسوق والعصيان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث بالحجة البالغة وحسن البيان، اللهم فصلِّ وسلم على سيدنا محمد، قائد الغر المحجلين إلى الجنان، والآخذ بحجز الناس وهم يتهافتون في النيران، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أولي العرفان.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: بعض المجتمعات، فشت فيهم المنكرات، وظهرت بينهم الموبقات، ومن أخبثها وأقبحها، شرب المسكرات، وتعاطي المخدرات، والتي عمّ شرها، وتتطاير شررها، وطمّ ضررها، وأغرق بحرها، وفشا شربها، في سائر الأقطار والبلدان، ولقد كان الأوائل يستنكرون شرب الدخان، ويرونه فسقاً وإتباعاً للشيطان، واليوم تجرّأ بعض من لا خلاق له، فصار يشرب الخمر مغتراً بها، منبسطاً إليها, والله -جل وعلا- ما حرم علينا الخمر إلا لما فيها من الخطر، وما منعنا من شربها إلا لما يترتب على ذلك من الضرر.
أيها المؤمنون: الخمر محرمة بنص الكتاب والسنة، وعلى ذلك إجماع الأمة، بل اتفقت على ذلك، الفطر الصافية، والعقول السليمة، يقول -جل وعلا-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90]، وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" وجاء عنه أيضاً: "كل شراب أسكر فهو حرام" و صحّ عنه أيضاً: "ما أسكر كثيره فقليله حرام".
ولما نزل تحريم الخمر مطلقاً، أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تراق في الأسواق وتكسّر أوانيها، فأريقت حتى جرت في سكك المدينة، فلما قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة: 91]، قال الصحابة: "انتهينا يا رب، انتهينا يا رب".
والمقصود بالخمر: هو كل ما خامر العقل وغطاه، سواء أكان رطباً أم يابساً، مأكولاً أم مشروباً، ومن أشنعها وأخطرها، شرب الحشيش والأفيون والكوكائين، والحبوب الحمراء والبيضاء والصفراء، وشرب الويسكي، أسوده وأحمره وأصفره وأبيضه، بجميع نسبه وأسمائه، والتي ينقلب شاربها ومدمنها إلى حيوان كاسر، وشيطان مريد.
أيها المسلمون: الخمر عظيمة المضار، جسيمة الأخطار، تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وعن بيوت الله، توقع السكّير في الكفر والسب واللعن، يكفر بالله، ويترك الصلاة، يسب القرآن ومن جاء بالقرآن، يسب الدين، ويلعن المسلمين، يفطر رمضان، ويقترف الآثام، يقتل الأبرياء ولا يبالي، ينتهك الأعراض بالزنا واللواط، إنها تذهب الغيرة والحياء، وتورث الخزي والندامة.
إنها شراب مسموم، تسبب لصاحبها الموت البطيء، تضعف القوة العقلية لديه، كثيراً ما تؤدي بشاربها إذا أدمن عليها إلى الجنون، وولد السكّير، يكون واهن الجسم، ضعيف الإدراك، وقد يكون لديه ميل للإجرام، وهكذا أحفاده أشد ضعفاً وأقل عقلاً، ناهيك عن إفساد المعدة، ومرض الصدر، وتلَف الكبد والكلى، وفقد شهوة الطعام، وامتقاع اللون، وعظم البطن، وجحوظ العينين، إنها توقع العداوة والبغضاء، وتجعل صاحبها مهيناً ذليلاً حقيراً في أعين الناس.
إنها متلفة للمال، والعجب أنها تباع بأغلى الأثمان، إنها وخيمة العواقب، فلقد أجبرت بعض ضعاف النفوس على السرقة والسطو، وبيع الأعراض، فكم أفقرت من غني، وكم أذلّت من عزيز، كم وضعت من شريف، كم ورّثت من حسرة، كم أجرت من عبرة، كم سلبت من نعمة، كم جلبت من نقمة، كم أوقعت في بليّة، كم عجّلت من منية، كم فرّقت بين رجل وزوجه، كم من حوادث السيارات وقعت، كم من الموتى والقتلى خلّفت، كم من الخطف والسلب سجلت.
قال بعض الأطباء: "اقفلوا الحانات، أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات"، وقد أظهرت آخر الإحصائيات الأمنية أن المسكرات والمخدرات تمثل الصدارة والمرتبة الأولى بنسبة 95% من الجرائم والوقائع المحرمة، فأي خير وأي نفع يرجى من شراب لعنه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد قال عنه: "الخمر أم الخبائث" وجاء عنه أيضاً: "الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر، من شربها وقع على أمه وخالته وعمته" ، وجاء عنه أيضاً: "لا تشربوا الخمر، فإنها مفتاح كل شر"، والواقع يصدق ذلك ويؤكده.
وهذه قصة لسكير دخل بيته ثملاً نشواناً، فوجد أمه الطاعنة في السن، قد احدودب ظهرها، وشاب شعرها، تُعدّ له طعاماً، وتخبز له خبزاً على الفرن، رآها وقد انحنت على التنور، فقام بقذفها في التنور، فاحترقت وتفحمت، فلما أفاق من سكره، إذا هو قد ارتكب أبشع جريمة ألا وهي قتل أمه، وآخر يصحو من عربدته، فإذا هو قد طلق زوجته، وآخر يفيق من شره وبلائه، وإذا أهله وأهل زوجته محيطون به، يردّونه عن هتك عرض إحدى بناته.
أيها الأحباب: إنهم عشرة لعنهم الله وطردهم من رحمته، وتوعدهم بعقوبته، صحّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَشَارِبَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وساقيها ومسقاها" أتدرون لماذا؟ لأنهم شركاء في الجريمة، وقد تآمروا على نشر الرذيلة.
وإن تعجب فعجب ممن يجالس السكيرين والخمارين، والرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء عنه قال: "إن من أشراط الساعة أن يشرب الخمر ويظهر الزنا". وجاء عنه أيضاً "يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يُعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير".
وصدق صلوات الله وسلامه عليه، فكم في زماننا هذا من الفنادق والاستراحات والمزارع والمنتجعات، تُدار فيها الخمور والمخدرات، وكذا يقدم بعضهم لبعض كؤوس الراح، في ولائم الأعراس والأفراح، يضربون الكؤوس، حتى تتصدّع الرؤوس، تُعزف عليهم الموسيقى، وتنبح لهم المغنيات، وترقص لهم الباغيات، فالويل لهم، ولعنة الله ورسوله عليهم، كما لعنهم.
عجباً لشارب الخمر، كيف يزعم الإيمان، وهو يتجرع الخمر بالكيسان؟، صحّ عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: "ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" عجباً لمدمن الخمر، كيف يرضى لنفسه أن يكون كعابد وثن؟، صحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "شارب الخمر كعابد وثن وشارب الخمر كعابد اللات والعزى" وجاء عنه أيضاً: "من مات وهو مدمن خمر، لقي الله وهو كعابد وثن" عجباً لمدمن الخمر، كيف يبيع نصيبه من الجنة الخالدة بكأس خمر نجسة زائلة؟، صحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يدخل الجنة مدمن خمر".
عجباً لمدمن الخمر، هل تحتمل نفسه طينة الخبال أو ردغة الخبال يوم القيامة، التي هي شراب من شرب الخمر ومات من غير توبة منه؟، صحّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "وإن على الله لعهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال" وفي لفظ "سقاه من نهر الخبال" قيل: وما طينة الخبال، قال: "عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار" عجباً لشارب الخمر، كيف يدمنها، وهو متوعد بأن يُحرم منها في الآخرة؟، صحّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها، حُرمها في الآخرة", وفي لفظ "لم يشربها في الآخرة".
جعلني الله وإياكم من إذا خُوِّف بالله نَدِم وخاف، ورزقني وإياكم من الإنابة والإنصاف، ما يُلحقنا بصالح الأسلاف، أحسن الله لنا ولكم الختام، وأدخلنا جنته بسلام، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العزة والجلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله, صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، خير صحب وأفضل آل.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن الخمر بأنواعها تيار من الخراب جارف، وبلاء من الهوان ماحِق، فلنتعاون جميعاً على حربها، وعلى إزالتها، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]، يجب علينا جميعاً مناصحة شُرّابها بالتي هي أحسن، وعلينا مساعدتهم بشتى الوسائل ليقلعوا عنها، ولا يجوز السكوت عنهم، ومن عجز عن ذلك، فواجب عليه تبليغ الجهات المسؤولة عن ذلك، فهي داء خطير، وبلاء مستطير، ينخر في المجتمعات حتى يهلكها.
اللهم اهدِ ضال المسلمين، اللهم وفقه للتوبة النصوح، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والسلامة من كل بلاء وفاحشة، اللهم أصلح فساد قلوبنا، وتجاوز عن إسرافنا، واغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك، محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن أصحابه العشرة، وعن سائر أصحابه أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.