الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | خالد بن سعد الخشلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن من يتأمل انكباب كثير من الناس على الدنيا وتهافتهم على شهواتها ومفاتنها وتسارعهم إلى الإكثار من زخرفها وملذاتها يعلم مدى الجهل بحقيقة الدنيا عند فئام من الناس؛ حيث لا همّ لهم من هذه الدنيا إلا الإغراق في الشهوات والتمتع بصنوف الملذات، ناسين ومتناسين أن الدنيا بما فيها ما خُلقت لتكون ميدانًا للتنافس في الشهوات، والتكالب على حطامها الفاني، وإنما خُلقت الدنيا لكي يتخذ المسلم منها مطية توصّله إلى ربه والفوز برضاه، خُلقت لكي تكون مزرعة يزرع فيه الإنسان من الأعمال الصالحة والقربات النافعة ما يجد ثوابه وبره وأجره يوم القدوم على ربه -عز وجل-.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى ومن تبعهم واكتفى وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فيا عباد الله: إن خير زاد يتزود به المسلم في رحلته إلى ربه ومسيره إلى الدار الآخرة زاد التقوى التي بها يسارع المرء إلى امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، ألا فاجتهدوا -رحمكم الله- في تحقيق التقوى لتجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية تقيكم النار وأهوالها وتكون التقوى سببًا للفوز بالنعيم العظيم والظفر بجنات رب العالمين. رزقنا الله التقوى، وبلغنا من خيري الدنيا والآخرة فوق ما نتمنى، وسلك بنا طريق أوليائه وعباده الصالحين.
أيها الإخوة المسلمون: إن من يتأمل انكباب كثير من الناس على الدنيا وتهافتهم على شهواتها ومفاتنها وتسارعهم إلى الإكثار من زخرفها وملذاتها يعلم مدى الجهل بحقيقة الدنيا عند فئام من الناس؛ حيث لا همّ لهم من هذه الدنيا إلا الإغراق في الشهوات والتمتع بصنوف الملذات، ناسين ومتناسين أن الدنيا بما فيها ما خُلقت لتكون ميدانًا للتنافس في الشهوات، والتكالب على حطامها الفاني، وإنما خُلقت الدنيا لكي يتخذ المسلم منها مطية توصّله إلى ربه والفوز برضاه، خُلقت لكي تكون مزرعة يزرع فيه الإنسان من الأعمال الصالحة والقربات النافعة ما يجد ثوابه وبره وأجره يوم القدوم على ربه -عز وجل-.
خُلقت الدنيا حتى يعمد الإنسان لكي يتعبد لله رب العالمين، ويكمل ويحسن تذلـله وخضوعه لملك الملوك -عز وجل-.
إننا -أيها الإخوة في الله- بحاجة ماسة إلى أن نذكّر أنفسنا بالزهد الحقيقي في هذه الدنيا في ظل الظروف المادية التي أخذت الأرض فيها زخرفها ولبست أحسن ملابسها، وبلغ الناس في الزمن في التمدد والتحضر درجة عظيمة، وتعددت وسائل النعيم والترف، وتنوعت أساليب الإغراء بمباهج الدنيا وزخارفها، وصار همّ كثير من الناس أن يمسي ويصبح وهو يسعى لجمع أكبر ما يمكنه جمعه من متع الدنيا وشهواتها. والمعصوم من عصمه ربه، والمحفوظ من حفظه ربه دينه وعقيدته.
أيها الإخوة المسلمون: إن في السنة النبوية من التوجيهات العظيمة والمواعظ البليغة من خير البرية ما يجعل المسلم في هذه الدنيا على بصيرة بحقيقتها وطبيعتها ووظيفتها، فيدفعه ذلك إلى الزهد الشرعي إلى الزهد الصادق في هذه الدنيا.
عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا سول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟
يا له من سؤال عظيم!!، إنه سؤال عن أعظم مقصود في هذه الدنيا كيفية الوصول إلى محبة الله ونيل محبته، ومن ثَم محبة الخلق، يا رسول الله! دُلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟
فقال -صلى الله عليه وسلم- مجيبًا لذلك السائل قال جوابًا جامعًا شافيًا مانعًا: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس".
والذي يصحح هذا الزهد في الدنيا -أيها الإخوة في الله- حتى لا تكون مجرد دعوة يدعيها كل أحد، الذي يصحح هذا الزهد في الدنيا ثلاثة أمور؛ متى ما علمها المرء دعاه ذلك إلى الزهد الحقيقي إلى الزهد الصادق إلى الزهد المثمر في هذه الدنيا.
أول هذه الأمور: علم العبد ويقينه بأن الدنيا بجميع ما فيها من مباهج ومتع إنما هي ظل زائل وخيال زائل، وأنها كما قال الله تعالى فيها (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)[الحديد: 20].
ويقول الله -عز وجل-: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس:24].
لقد سماها الله -عز وجل-، سماها خالقها وموجدها، سماها متاع الغرور، ونهى عن الاغترار بها، ونهى -سبحانه- عن سوء عاقبة المغترين بالدنيا، وحذرنا مصارعهم، وذم من رضي بالدنيا، واطمئن إليها، وتأملوا ما وصف به الرسول -صلى الله عليه وسلم- الدنيا، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل عليه عمر -رضي الله عنه- وقد نام على حصير أثَّر في جنبه الشريف -صلى الله عليه وسلم-، فقال عمر -رضي الله عنه-: "يا نبي الله لو اتخذت فراشًا أَوْثَرَ من هذا؟"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا لِي وَلِلدُّنْيَا! مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا".
يقول ابن القيم -رحمه الله- معلقًا على هذا الحديث: "فتأمل حُسن هذا المثال ومطابقته للواقع سواء فإنها –أي الدنيا- في خضرتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شيئًا فشيئًا كالظل، والعبد مسافر إلى ربه، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف لا يحسن به أن يبني تحتها دارًا ولا يتخذها قرارًا، بل يستظل بها بقدر الحاجة، ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق".
وفي حديث آخر يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن العبد مهما زيَّن الدنيا وزخرفها فإن ذلك لا يغيّر من حقيقتها شيئًا، وأن عاقبتها إلى زوال وذهاب.
إن العبد مهما زين الدنيا وزخرفها، وحصّل ما حصّل من متعها ومباهجها؛ فإن ذلك لا يغيّر من حقيقتها شيئًا، ولا يغيّر من عاقبتها شيئًا، فإن عاقبتها إلى زوال وذهاب.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن مطعم ابن آدم قد ضُرب للدنيا مثلاً، فانظر ما يخرج من ابن آدم، وإن قزَّحه وملَّحه، قد علم إلى ما يصير"، قال ابن الأثير: "والمعنى أن المطعم وإن تكلف الإنسان التنوع في صنعته وتطييبه، فإنه بعد الأكل عائد إلى حال يُكره ويُستقذر، فكذلك الدنيا المحروص على عمارتها، ونظم أسبابها: راجعة إلى خراب وإدبار".
وفي حديث آخر يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -تعالى- جعل الدنيا كلها قليلاً، وما بقي منها إلا القليل من القليل، ومثل ما بقي منها كالثغب -يعني الغدير- شُرب صفوه وبقي كدره".
إن الدنيا منذ أن خلقها الله -عز وجل- إلى نهايتها مقارنة بالآخرة إنما هي قليل، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد بُعث في آخر الدنيا، ويقول لأصحابه ولأمته: "لم يبقَ من ذلك القليل إلا القليل، وما بقي منها إلا القليل من القليل".
وفي حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته، فمر بجَدْيٍ أسكَّ ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟» فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! فقال: «فواللهِ، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم».
فوا عجبا -أيها الإخوة- في الله كيف تكون الدنيا بهذه المثابة عند الله، كيف تكون الدنيا بهذه المنزلة عند الله، ثم يتقاتل الناس من أجلها، ويتخاصمون ويتباغضون ويتعادون، بل أعظم ذلك كيف يليق بمسلم يدرك حقيقة الدنيا، ثم يبيع دينه من أجل الدنيا وحطامها الفاني، وأعظم من ذلك أن يبيع دينه من أجل إقامة دنيا غيره.
يقول ابن القيم رحمه الله: "فما اغتر بها ولا سكن إليها إلا ذو همة دنية، وعقل حقير وقدر خسيس"، وهذه أحداث الدنيا وشواهدها ووقائعها تؤكد هذا.
ومن الأمور -أيها الإخوة في الله- التي تصحح زهد العبد في الدنيا: علم العبد أن وراء هذه الدنيا دارًا أعظم منها قدرًا، دارًا أجلّ من الدنيا خطرًا، وهي دار البقاء والإقامة الحقيقية إما عذاب سرمدي دائم وإما نعيم سرمدي دائم، وأن نسبة الدنيا إلى الآخرة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع".
هذه نسبة الدنيا، مهما عُمِّر الإنسان فيها، إن عاشها في طاعة، فإن ذلك النعيم الذي أصابه وحصله في الدنيا لا يُقارَن بنعيم الآخرة، وإن قضى دنياه ومباهجه وحياته في معصية، فإن ذلك النعيم الذي حصله لا يساوى البتة بشيء مما يفوته من نعيم الآخرة.
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "الزاهد في الدنيا بمنزلة رجل في يده درهم مغشوش فيقال له: اطرحه فلك عوضه مائة ألف دينار مثلاً، فألقاه من يده رجاء ذلك العوض".
فالزهد في الدنيا لكمال الرغبة فيما هو أعظم منها زهد في الدنيا على الحقيقة.
ومن الأمور المهمة التي تجعل العبد يزهد في الدنيا على الحقيقة: أن يعلم العبد ويدرك يقينا أن زهده فيها لا يمنعه البتة شيئًا كتب له منها، وأن حرصه على الدنيا مهما عظم لا يجلب له ما لم يقضَ له منها، ومتى تيقن العبد ذلك وصار له به علم يقين، هان عليه الزهد في هذه الدنيا.
هذه بعض الأمور التي تسهّل على العبد الزهد في الدنيا، وتثبّت قدمه في مقامه، والله -عز وجل- وحده الموفق لمن يشاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا) [الكهف:45].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الكريم الوهاب مجزل العطايا ومضاعف الثواب أحمده سبحانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد رسول الله وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.
أيها الإخوة المسلمون: إن من علامات الزهد الصادق: ألا يفرح العبد بموجود ولا يحزن على مفقود، يقول الله -عز وجل- (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) [الحديد:23].
ومن علامات الزهد: أن يستوي عند العبد ذامّه ومادحه، ومنها أن يكون أُنسه بالله -تعالى-، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة؛ إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة، إما محبة الدنيا وإما محبة الله، وهما في القلب كالماء والهواء في القدح، فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان، وكل من أنس بالله -تعالى- اشتغل به سبحانه، ولم يشتغل بغيره.
أيها الإخوة في الله: إن الزهد في الدنيا المأمور به شرعًا ضروريّ للعبد السائر إلى مولاه؛ لأنه كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "يفرغه لعمارة وقته وجمع قلبه على ما هو بصدده، وقطع مواد طمعه التي هي من أفسد شيء للقلب، بل أصل المعاصي والفساد والفجور كله من الطمع، فالزهد يقطع مواده، ويفرغ البال، ويملأ القلب، ويستحث الجوارح، ويُذهب الوحشة التي بين العبد وبين ربه، ويجلب الأنس به، ويقوي الرغبة في ثوابه إن ضعف عن الرغبة في قربه، والدنو منه، وذوق حلاوة معرفته ومحبته.
فالزاهد أروح الناس بدنًا وقلبًا، فإن كان زهده وفراغه من الدنيا قوة له في إرادة الله، والدار الآخرة بحيث فرّغ قلبه لله، وجعل حرصه على التقرب إليه، وشحّه على وقته أن يضيع منه شيء، في غير ما هو أرضى لله، وأحب إليه كان من أنعم الناس عيشًا وأقرهم عينًا، وأطيبهم نفسًا وأفرحهم قلبًا، فإن الرغبة في الدنيا تشتّت القلب وتبدّد الشمل، وتطيل الهمّ والغم والحزن، فهي عذاب حاضر يؤدي إلى عذاب منتظر أشد منه، وتفوت على العبد من النعم أضعاف ما يروم تحصيله بالرغبة في الدنيا". (انتهى كلام ابن القيم رحمه الله).
إخوة الإسلام: إن الزهد الشرعي ليس تخلية اليد من الدنيا ولا خروجها، وقعود الإنسان صفرا منها، وإنما المراد بالزهد الحقيقي إخراج الدنيا من القلب بالكلية، فلا يلتفت إليها ولا يدعها تساكن قلبه، وإن كانت في يده لا يحب من أجل الدنيا، ولا يبغض من أجل الدنيا، ولا يوالي من أجل الدنيا، ولا يعادي من أجل الدنيا، ولا يقدم ولا يؤخر من أجل الدنيا، هذا هو الزهد الحقيقي، ليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وإن كانت في يدك.
وهذا كحال الخلفاء الراشدين وحال عمر بن عبدالعزيز الذي يُضرب بزهده المثل، مع أن خزائن الأموال تحت يده، بل كحال سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- حين فتح الله عليه من الدنيا ما فتح ولم يزده ذلك إلا زهدًا في الدنيا -صلى الله عليه وسلم-.
هذا هو الزهد الشرعي الذي تدعو له النصوص، وتشهد له الأدلة، هذا هو الزهد الشرعي الذي يورث القلب طمعًا ورغبة فيما عند الله -عز وجل-، ويورث الجوارح نشاطًا وهمة وحرصًا على العمل للآخرة، هذا هو الزهد الذي يجعل الإنسان يفكر في مصيره الحقيقي، يفكر في الدار التي سيخلد فيها لا محالة، هذا هو الزهد الذي يهوّن على الإنسان ما يصيبه في دنياه من قلة ذات اليد والفقر والفاقة، فإن الدنيا لو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء، ولو كانت الدنيا هي معيار النعيم والكمال والحسن والراحة، لكان أولى الناس بها أنبياء الله ورسله والصالحون من عباده.
فنسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا لاستكمال بقية حياتنا، نسأل الله -تعالى- أن يوفقنا بما أنعم به علينا، وأن يكون ما أنعم به علينا من نعم الدنيا عونًا لنا على طاعته، عونا لنا على مرضاته، إنه على كل شيء قدير.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صل وسلم وبارك...