العربية
المؤلف | خالد القرعاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الحكمة وتعليل أفعال الله |
حياةُ الإنسانِ مراحلٌ، والنَّاسُ في الدُّنيا بين مُستعدِّ للرحيلِ وراحلٌ، وكلُّ نَفَسِ يُدني من الأَجَلِ، فما الناسُ إلاَّ حيٌّ أدركتُه منيِّتُهُ، فَوُرِيَ بالتُّرَابِ، أو صغيرٌ بلغَ سِنَّ الشَّباب، أو شيخٌ امتدَّت به الْحَيَاةُ حتى شابَ، ومن وراءِ الجميعِ مَوتٌ وحِسَابٌ، فهنيئاً لمن أَحْسَنَ واستقامَ، والويلُ لِمَنْ أساءَ وارتكبَ الآثامَ، ويَتُوبُ الله على مَن تاب،.. فيا مسلمونَ: استبقوا الخَيرَاتِ، وبادِروا بِالصَّالِحاتِ ولا تغترُّوا بحياةٍ تَقُودُ إلى الممَات، لا يُرى في أهلِها إلا "فُلانٌ مَرِضَ" و"فُلانٌ مَاتَ"...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي أسعدَ وأشقَى، نشهد أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ لهُ العليُّ الأعلى، ونشهدُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُ الله ورسولُه، أَحْسَنُ الخَلقِ خُلُقًا وخَلْقاً، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آله وأصحابِه وأتباعِهِ، ومن تبِعهم بإحسانٍ وإيمانٍ ما بدا صُبْحٌ وأضحى.
أمَّا بعد: فيا أيُّها النَّاسُ، اتَّقوا الله -تعالى- حقَّ التَّقوى واستمسِكُوا من الإسلامِ بالعروةِ الوثقى، واحذروا سخطَ اللهِ؛ فإنَّ أجسادَكُم على النَّار لا تقوى!! يقولُ المولى جلَّ وعلا: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء: 70].
هذا التَّفضِيلُ والتَّكريمُ عبادَ اللهِ: تمثَّل في خَلْقِ اللهِ لَنَا في أحسنِ تقويم، ثم كرَّمَنا بالعقلِ السَّليم الذي به نُميِّزُ الخيرَ مِنَ الشَّرِ! والضَّارَّ مِن النَّافِعِ. قال الإمامُ القرطبيُّ -رحمه الله-: "التَّفضِيلُ إنَّما كان بالعقلِ الذي هو عُمدةُ التَّكلِيفِ".
العقلُ يا مُسلِمونَ: جوهرةٌ ثَمِينَةٌ، يَحُوطُها العُقلاءُ بالرِّعايةِ والحِمَايَةِ؛ اعتِرافًا بِفضلِهِ، وخَوفَاً من ضَيَاعِهِ وَفَقدِهِ.
أيُّها الإخوةُ في اللهِ: يا مَن يَربِطُ بَينَنا دِينُ اللهِ -تعالى-، يا مَنْ نَلتَقي معكُم في بُيُوتِ اللهِ -تعالى- كُلَّ يَومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، يا مَنْ نُحبُّهم ونَرجو لهم الخيرَ حيثُما كانوا، افتحوا لَنا قُلُوبَكُم، وخُذُوا بِنُصْحِنا لَكُم، فواللهِ إنَّا لَكُم مُحبُّونَ، وعليكم مُشفِقُونَ، واللهُ -تعالى- يقولُ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10].
حَدِيثي لَكُم أيُّها المُصلُّونَ: عن دَاءٍ عُضالٍ، مُدَمِّر لِلأَفرَادِ والأُسَرِ والمُجتَمَعَاتِ مَرَضٌ سَيْطَرَ على الكَبيرِ والصَّغِيرِ، والجَاهِلِ والمُتَعلِّمِ، والعَاقِلِ والمَجنُونِ، إلاَّ مَن رَحِمَ اللهُ -تعالى- وسَلَّمَ! وأزيدُكُم من الشِّعرِ بَيتَاً حتى الفَقِيرُ، الذي يَصيحُ ويَشتَكي فَقْرَهُ لَم يَسلَمْ مِنْ خَسائِرِهِ وشَرِّهِ إنَّهُ القَاتِلُ البَطِيءُ! الفتَّاكُ الشَّرِسُ! الذي أفنى أَعمَارَ أُناسٍ وصِحَّتَهم! وأفلَسَ أموالَهم وَحَرَمَهُم مِن الطَّيبَاتِ! وَمَجَالِسِ الذِّكرِ والطَّاعَةِ! وحتى تَتَصَوَّروا معي -يا رَعاكُمُ اللهُ- حجمَ الخطَرِ والمُشكِلَةِ فإنَّ إحصَائِيَّةَ مُنَظَّمَةِ الصِّحَةِ العالَميَّةِ أصدَرَتْ قَبلَ عَامٍ واحِدٍ أنَّ المُدخِنِينَ في المملكَةِ أكثَرَ من ستَّةِ ملاينَ مُدخِّنٍ! وأنَّ أكثَرَ مِن اثنا عَشَرَ بَليونَ ريالٍ تُستَهلَكُ لِشِرِكاتِ التِّبغِ العالَمِيَّةِ! إذاً حجمُ المُشكِلَةِ خطيرٌ وكبيرٌ!
وأنا هُنا أيُّها الكِرامُ: لن أتَحَدَّثَ عن حُكمِهِ الشَّرعيِّ؛ فَكُلُّ العُقَلاءِ أظُنُّهم قد اتَّفقُوا على ضَرَرِهِ وتَحريمِهِ. لأنَّهُ ليسَ بِنافِعٍ ولا مُفيدٍ! وقد أبَاحَ اللهُ -جَلَّ وعَلا- لِعبَادِهِ كُلَّ نَافِعٍ، وحرَّم عَليهم كلَّ ضارٍّ؛ حِمَايَةً لَهم، ورَحمَةً بهم. قالَ اللهُ -تعالى-: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195].
أيُّها الكِرامُ ألأوفياءُ: لا أُخفِيكم سِرّاً أنِّي أَجَّلتُ الحِديثَ عن هَذا المَوضُوعِ زَمَناً طَويلاً، حتى شاهدتُ عِدَّةَ مرَّاتٍ أُنَاسٍ يُدخِّنونَ في سيَّاراتِهم وفي مَنَازِلِهم وبِجانِبِهم زوجاتُهم وأولادُهم وأطفالُهم! فَوقفتُ مَدْهوشَاً ألهذا الحدِّ هؤلاءِ أنَانِيُّونَ؟! أم أنَّهم لا يُفَكِّرونَ بِعواقِبِ ما يَفعلُونَ؟! أم أنَّهم لا يعقِلُونَ؟! أتُراهُم بِفعلِهم هذا يَفرِضونَ شَخصِيَّتَهم ويُبَيِّنُونَ فُتُوَّتَهُم؟! واللهِ العظيمِ يا إخواني أنَّنِي إلى هذهِ السَّاعَةِ لَم أجِدْ لِصَنِيعِ هؤلاءِ مُبَرِّراَ مَقبُولاً!
أيُّها الأخُ الكَريمُ: نعم أنتَ يا مَن ابتُليَ بالتَّدخينِ، كأنِّي بكَ تَقُولُ المُدَخِّنونَ كُثُرٌ، واللهُ غَفُورٌ رَحيمٌ. فَنَقولُ لكَ: لا تَنظُرْ إلى الهالِكِ كيفَ هَلَكَ. ولكن انظُر إلى النَّاجي كيفَ نَجا ! وتَذَكَّر قولَ اللهِ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
ثًمَّ قل لي بِرَبِّكَ هل التَّدخِينُ يُرضي اللهَ -تعالى-؟! أهوَ مَعَ الطَّيِّبَاتِ أمْ معَ الخَبَائِثِ؟! أمَا تَأمَّلتَ قَولَ اللهِ -تعالى-: (وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ) [الأعراف: 157].
ثُمَّ إنِّي سَائِلُكَ سُؤالاً واحِداً وأَجبْنِي بِصدْقٍ وتَجَرُّدٍ: هل في التَّدخِينِ فَوَائِدَ؟! أتَدْرِي. لا أُرِيدُ فَوائِدَ، إِنَّمَا أُرِيدُ فَائِدَةً واحِدَةً فَقط، سَواءٌ في دِينِكِ أو دُنيَاكَ أو صِحَّتِكَ أو مَالِكَ؟. ألم يَقُل نَبِيُّنا الأكرمُ عليهِ أفضَلُ صَلاةٍ وأزكى سَلامٍ : "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ ". وفي رِوايَةٍ "لاَ ضَرَرَ وَلاَ إِضْرَارَ". وفي الصَّحِيحِ يقولُ : "وَمَنْ تَحَسَّى سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسَمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا".
كُلُّنا على يَقِنٍ أنَّ التَّدخِينَ سَبَبٌ رَئيسٌ لأَمرَاضِ السَّرَطَانِ والقَلْبِ والرِّئَةِ، ومُضعِفٌ لِلقُوى، ومُدَمِّرٌ لِلشَّرَايينِ!
ثُمَّ أيُّها المُوفَّقُ: استَعِدَّ لجَوابٍ مُخجِلٍ عنْ سُؤالٍ قادِمٍ لا مَحالَةٍ! كم أنفقتَ من الأموالِ على شِرائِهِ؟! أوليسَ المَوقِفُ أمامَ اللهِ مُحرِجاً؟! أولادُكَ وأهلُ بَيتِكَ أحقُّ بهذهِ الأموالِ من شَرِكاتِ رأسِ مالِيَّةٍ يَهودِيَّةٍ! أو عَمَالَةٍ انتِهازِيَّةٍ جَشِعَةٍ! وما سَهَرُ بعضِ العَمالَةِ في بَقَالاتِهم وبَيعِهم على صغار السِّنِّ بالتَّفريدِ إلاَّ نَوعٌ من جَشَعِهم وَضَربِهم لِلأنظِمَةِ بِعرْضِ الحَائِطِ! وما كثرَةُ المَقَاهِي في أطرافِ البَلدِ إلا نَذِيرُ خطَرٍ! وجزى اللهُ المَسئُولِينَ والجَمعِيَّاتِ المَعنِيَّةِ على حِرصهم ومُتابَعاتِهم وتَعَقُّبِ مَنْ يُبَلَّغُ عنهُ مُخَالِفَاً.
عبادَ اللهِ: واجِبنا التَّناصُحُ بالحقِّ والتَّواصِي على الخيرِ، واللهُ -تعالى- يَقُولُ: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2].
وكُلُّ واحِدٍ مِنَّا يَتَمنَّى لأولادِهِ أعلى الأخلاقِ، وأكمَلَ الآدابِ، فَلنَكُنْ خيرَ قٌدوَةٍ لهم بِأفعالِنا قَبْلَ أَقوالِنا. فَلِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ؟! ولا تَنْسَوا أنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الإِنْسَانُ.
فيا مَن اُبتُلي بالتَّدخينِ استَعينوا باللهِ واعزمُوا على مُقاطَعَتِهِ وترْكِهِ، واطرُقوا بَابَ السَّمِيعِ القَرِيبِ اللَّطِيفِ المُجِيبِ فَهو الشَّافِي والمُعَافِي والعَاصِمِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2، 3].
وفي الحَدِيثِ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "مَا تَرَكَ عَبْدٌ شَيئًا لِلهِ لا يَترُكُهُ إلاَّ لَهُ عَوَّضَ اللهُ مِنهُ مَا هُوَ خَيرٌ لَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ".
وواللهِ إنَّ أعظَمَ أُمنِيَةٍ لِوالِدَيكَ، وَزَوجَتِكَ، وأولادِكَ، أنْ تُقْلِعَ عن التَّدخينِ، فأسعِد قُلُوبَهم وحَقِّقْ أَمَانِيهم، وأنتَ الرَّابِحُ أولاً وآخِراً.
فاللهمَّ يا رَبَّنا أرنا الحقَّ حقَّا وارزقنا اتِّباعَهُ، والباطِلَ باطِلاً وارزقنا اجتِنابَهُ. اللهمَّ اعصمنا وذَرَارِينا عن كُلِّ مُنكَرٍ وشَرٍّ. اللهمَّ اجعلنا هُدَاةً مُهتَدِينَ غيرَ ضالِّينَ ولا مُضلِّينَ. اللهمَّ أصلِحنا وأصلِح لَنَا وأصلِح بِنا يا ربَّ العالَمينَ.
أقولُ ما سمَعتم وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المُسلِمينَ من كُلِّ ذنبٍّ وَخَطِيئَةٍ فاستَغفِروهُ وتُوبوا إليهِ إنَّه هو الغَفُورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ بيدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيٍء وإليهِ تُرجَعُونَ، وإذا قَضَى أَمْرَاً فَإِنَّما يقولُ له: كُنْ، فَيَكُونُ، نَشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له بَدِيعُ السَّماواتِ والأَرضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، ونَشهدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحمَّدَاً عبدُ اللهِ ورسولُهُ الْمُتَّقِي الأَوَّابِ. اللهم صَلِّ وَسَلَّم وبَارِكْ عليه، وعلى جميعِ الآلِ والأصحابِ، ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومِ المآبِ.
أمَّا بعدُ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ.
عبادَ اللهِ: حياةُ الإنسانِ مراحلٌ، والنَّاسُ في الدُّنيا بين مُستعدِّ للرحيلِ وراحلٌ، وكلُّ نَفَسِ يُدني من الأَجَلِ، فما الناسُ إلاَّ حيٌّ أدركتُه منيِّتُهُ، فَوُرِيَ بالتُّرَابِ، أو صغيرٌ بلغَ سِنَّ الشَّباب، أو شيخٌ امتدَّت به الْحَيَاةُ حتى شابَ، ومن وراءِ الجميعِ مَوتٌ وحِسَابٌ، فهنيئاً لمن أَحْسَنَ واستقامَ، والويلُ لِمَنْ أساءَ وارتكبَ الآثامَ، ويَتُوبُ الله على مَن تاب، وصدقَ اللهُ: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
فيا مسلمونَ: استبقوا الخَيرَاتِ، وبادِروا بِالصَّالِحاتِ ولا تغترُّوا بحياةٍ تَقُودُ إلى الممَات، لا يُرى في أهلِها إلا "فُلانٌ مَرِضَ" و"فُلانٌ مَاتَ".
والمؤمنُ باللهِ: يُؤمنُ أنَّ لِلموتِ أَجَلاً ضَرَبَهُ اللهُ وَقَدَّرَهُ: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا) [آل عمران: 145].
يا مُؤمِنُونَ: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ، فَمَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ في ضِيقٍ من العَيشِ إلاَّ وَسَّعَهُ، وَلا سَعَةٍ إلاَّ ضَيَّقَهَا".
هذهِ وَصِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنا، فَيا ويلَ مَنْ يُنهَونَ فَلا يَنْتَهُونَ، ولِمَحارِمِ اللهِ ينْتَهِكُونَ! كيفَ يَثِقونَ بِدُنيَاً وجُودُها إلى عَدَمٍ، وَسُرُورُها إلى حَزَنٍ، وكثرَتُها إلى قِلَّةٍ، وَعَافِيتُها إلى سَقَمٍ، ؟! دَارٌ مَكَّارَةٌ، وَأَيَّامُها غَرَّارَةٌ، وبِالسُّوءِ أَمَّارَةٌ. (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 115].
تَرَحَّلْ عن الدُّنيا بِزَادٍ من التُّقى؛ فَعُمرُكَ أَيَّامٌ تُعَدُّ قَلائِل، فَيا هاتِكً لِلحُرُمَاتِ لا تَفْعَل، يا واقعَاً في المعاصي أَمَا تَستَحِي وَتَخْجَلْ؟! فالكلامُ مَكتُوبٌ، والنَّظَرُ مَحسُوبٌ، والفِعْلُ مُرْتَقبٌ: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار: 10- 12].
وَقَفَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على قَبْرٍ فقالَ: " مَا رَأَيْتُ مَنْظَرَاً قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ" فأينَ البَاكِي على ما جَنَى؟! أَينَ التَّائِبُ على ما مَضَى؟! فاللهُ يقولُ: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 182].
أيُّها المؤمنُ: إنَّ ثَمَرةَ الاستِمَاعِ حُسنُ الاتِّباعِ، فكن من الذينَ يستَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعونَ أَحسَنَهُ. فاللهمَّ اجعلنا ووالِدِينا وَذَرَارِينَا من الَّذِينَ قَالُواْ: (رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ).
أيُّها الْمُسْلِمُون: عجيبٌ حالُنا نُوقنُ بالْمَوتِ ثُمَّ نَنْساهُ! ونَعرِفُ الضَّرَرَ ثم نَغشَاهُ! نَخشى النَّاسَ واللهُ أحقُّ أنْ نَخشاهُ! نَغْتَرُّ بالصِّحَةِ ونَنْسى السَّقَمِ! ونَزْهُو بالشَّبَابِ ونَنْسى الْهَرَم! نَهْتَمُّ بالعِلْمِ ونَنْسى العَمَلَ! سبحانَ الله، أَلَمْ يَأْنِ لنا أنْ نُدرِكَ حقيقةَ هذه الدَّارِ؟! (يا قومِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر: 39].
فيا عبدَ الله، دَعِ اللهوَ جَانِبَاً، وقمْ إلى ربِّكَ نادما، وقِفْ على بابهِ تائباً. فَعن أبي موسى الأشعريِّ -رضي الله عنه- قال: رسولُ الله: "إنَّ الله عزَّ وجلَّ يبسطُ يَدَهُ بالليلِ ليتوبَ مُسيءُ النَّهارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهارِ لِيَتُوبَ مُسيءُ الليلِ، حتى تطلعَ الشَّمسُ من مَغربِها" (وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
فاللهم اغفر لنا ذُنُوبَنَا وإسرَافَنا في أمرِنَا وثبِّت أقدامنا وانصرنا على الكافرين. (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ). (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ اللهم أحسن عاقِبَتَنا في الأُمورِ كُلِّها وأجرنا من خِزي الدُّنيا وعذابِ الآخرةِ).
اللهمَّ إنَّا نَسأَلُكَ خَيرَ المَسألَةِ، وخيرَ الدُّعاءِ، وخَيرَ العَمَلِ، وخيرَ الثَّوَابِ، وخيرَ الحياةِ، وخيرَ المَمَاتِ. اللهمَّ إنَّا نَسأَلُكَ خَيرَ ما نَأتِي وما نذرُ، وخيرَ ما نُبطِنُ وما نُظهِرُ.
اللهمَّ هَوِّن علينا المَوتَ وَسَكرَتهُ، والقَبرَ وظُلمتَهُ، والصِّراطَ وزَلَّتَهُ، واغفر لنا ولِولدِينا ولِجميع المسلمينَ، اللهمَّ واجعل خيرَ أعمارِنَا أواخِرَها، وخيرَ أعمالِنَا خَواتِمَها، وخيرَ أيَامِنَا يومَ لِقائِكَ. (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].