المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة - السيرة النبوية |
واليوم -بإذن الله- نعطّر أسماعنا بسيرة رجل من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، لم تطل أيام حياته، بل مات في صدر الإسلام، ولكنه سطّر تاريخًا مجيدًا لشباب المسلمين من بعده إنه أول سفير في الإسلام، مصعب بن عمير، شابٌ من أكثر شباب قريشٍ رقةً ووداعة وثراءً، نشأ منعّمًا في ظل والديه، في بيت يزخر بالفاخر من الثياب، والنادر من العطور، زينةَ فتيان قريش، ودرة مجالسه، تنقلب حياته فجأة، فإذا به يرضى بشظف العيش، ويلبس الجلد الخَشِن من الثياب! فما الذي غيّره وحوَّله هذا التحول العظيم؟ بهذا الرضا التام!! إنه الإسلام، ذلك الدين الذي ما إن لامس قلب الشاب الغض اليافع، حتى وجد لديه قبولاً سريعًا...
الخطبة الأولى:
أما بعد فيا أيها الناس: يقول الله -جل في علاه-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 23].
إنها مدرسة محمد -صلى الله عليه وسلم-، لا يتخرج منها إلا الرجال الأفذاذ الذين لا يتكرر مثلهم في الوجود، وكيف يتكرر مثلهم ومؤدبهم قد رحل معهم، وهو أصل فضلهم، ولكنهم وإن رحلوا فقد بقي لنا منهم مآثر تشحذ الهمة، وتوقظ الوسنان، لقد اصطفاهم الله لصحبة نبيه، فلا غرو أن تكون هذه سيرَهم رضوان الله عليهم.
واليوم -بإذن الله- نعطّر أسماعنا بسيرة رجل من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، لم تطل أيام حياته، بل مات في صدر الإسلام، ولكنه سطّر تاريخًا مجيدًا لشباب المسلمين من بعده إنه أول سفير في الإسلام، مصعب بن عمير، شابٌ من أكثر شباب قريشٍ رقةً ووداعة وثراءً، نشأ منعّمًا في ظل والديه، في بيت يزخر بالفاخر من الثياب، والنادر من العطور، زينةَ فتيان قريش، ودرة مجالسه، تنقلب حياته فجأة، فإذا به يرضى بشظف العيش، ويلبس الجلد الخَشِن من الثياب! فما الذي غيّره وحوَّله هذا التحول العظيم؟ بهذا الرضا التام!!
إنه الإسلام، ذلك الدين الذي ما إن لامسَ قلب الشاب الغضّ اليافع، حتى وجد لديه قبولاً سريعًا، ذلك أنه -منذ صغره- لم يحمل للإسلام ذرة كراهية، وما نشأ ناقمًا عليه، بل على العكس، سعى إليه في يسر، واستمع إلى رسوله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وسرعان ما أعلن نفسه واحدًا من بين المسلمين.
إنه مصعب الخير؛ كما سماه رسول الله، أو مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف؛ كما تثبته كتب التاريخ.
كان حبيب أمه المدلل، فحرص على إخفاء إسلامه عنها، حتى لا يضايقها، لما يعلم من حبها إياه، ولكن سرعان ما عُرف أمر إسلامه، وأُخبِرت أمه التي سارعت بحبسه في منزله، حتى يرجع عن دينه، ولكنه استطاع أن يهرب من الحبس، ويفر بدينه مع غيره من المسلمين إلى الحبشة..
فعن ليلى بنت أبي حثمة قالت: "لما اجتمعوا على الخروج –أي: إلى الحبشة- جاءنا رسول الله فقال: إن مصعب بن عمير قد حبسته أمه وهو يريد الخروج الليلة إذا رقدوا، قال عامر بن ربيعة: فنحن ننتظره ولا نغلق بابًا دونه، فلما هدأت الرِجل جاءنا مصعب بن عمير فبات عندنا وظل يومه حتى إذا كان الليل خرج متسللاً فلحقهم، قالت: وهم يمشون على أقدامهم، وأنا على بعير لنا, وكان مصعب بن عمير رقيق البشرة، ولقد رأيت رجليه يقطران دمًا من الرقة، فرأيت عامر خلع حذاءه فأعطاه إياها حتى انتهينا إلى السفينة فحملتنا إلى الحبشة, ولقد كنت أرى عامر بن ربيعة يرق على مصعب بن عمير رقة ما يرقها على ولده، وما معه دينار ولا درهم وكان معنا خمسة عشر دينارًا".
هاجر مصعب بن عمير الهجرتين؛ وهاجر هجرة الحبشة الثانية، وما إن عاد إلى مكـة حتى كان رسول الله يعده لمهمة هامة وجليلة، وهي أن يكون رسولَ رسولِ الله، إلى معقل الإسلام الأول: إلى المدينة النبوية، فلما حضر الموسم حجَّ نفر من الأنصار من بني مالك بن النجار منهم: معاذ بن عفراء، وأسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وذكوان بن عبد قيس، وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة، فأتاهم رسول الله فأخبرهم خبره الذي اصطفاه الله من نبوته وكرامته وقرأ عليهم القرآن، فلما سمعوا قوله أنصتوا واطمأنت أنفسهم إلى دعوته، وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب من ذكرهم إياه بصفته وما يدعوهم إليه، فصدقوه وآمنوا به وكانوا من أسباب الخير..
وواعدوا النبي -صلى الله عليه وسلم- الموسم من العام المقبل، فرجعوا إلى قومهم فدعوهم سرًّا وأخبروهم برسول الله، والذي بعثه الله به ودعا إليه بالقرآن حتى قل دار من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناس لا محالة..
ثم بعثوا إلى رسول الله أن ابعث إلينا رجلاً من قبلك فيدعو الناس بكتاب الله، فإنه أدنى أن يتبع فبعث إليهم رسول الله مصعب بن عمير، فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة فجعل يدعو الناس سرًّا ويفشو الإسلام ويكثر أهله وهم في ذلك مستخفون بدعائهم.
وكان إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير على يد مصعب، وذلك أن أسيد بن حضير خرج مع أسعد بن زرارة إلى حائط من حوائط بني النجار معهما رجال من المسلمين، فبلغ ذلك سعد بن معاذ فقال لأسيد بن حضير: "ائت هذا الرجل، فلولا أنه مع أسعد بن زرارة وهو ابن خالتي كما علمت كنت أنا أكفيك شأنه"، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم خرج حتى أتى مصعبا فوقف عليه متشتمًا، وقد قال أسعد لمصعب حين نظر إلى أسيد: هذا أسيد، من سادات قوم، له خطر وشرف، فلما انتهى إليهما تكلم بكلام فيه بعض الغلظة.
فقال له مصعب بن عمير: "أو تجلس فتسمع؟ فإن سمعت خيرا قبلته، وإن كرهت شيئا أو خالفك أعفيناك عنه"، قال أسيد: ما بهذا بأس، ثم ركز حربته وجلس، فتكلم مصعب بالإسلام وتلا عليه القرآن، فقال أسيد: ما أحسن هذا القول! ثم أمره فتشهد شهادة الحق، وقال لهم: كيف أفعل؟ فقال له: تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق وتركع ركعتين، ففعل ورجع إلى بني عبد الأشهل وثبتا مكانهما.
فلما رآه سعد بن معاذ مقبلاً قال: أحلف بالله لقد رجع إليكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم! فلما وقف عليه قال له سعد: ما وراءك؟ قال: كلمت الرجلين فكلماني بكلام رقيق، وزعما أنهما سيتركان ذلك، وقد بلغني أن بني حارثة قد سمعوا بمكان أسعد فاجتمعوا لقتله، وإنما يريدون بذلك إحقارك وهو ابن خالتك، فإن كان لك به حاجة فأدركه، فوثب سعد وأخذ الحربة من يدي أسيد، وقال: ما أراك أغنيت شيئا.
ثم خرج حتى جاءهما ووقف عليهما متشتمًا، وقد قال أسعد لمصعب حين رأى سعدا: هذا والله سيد من وراءه، إن تابعك لم يختلف عليه اثنان من قومه، فأبلى الله فيه بلاء حسنا، فلما وقف سعد قال لأسعد بن زرارة: أجئتنا بهذا الرجل يسفه شبابنا وضعفاءنا والله لولا ما بيني وبينك من الرحم ما تركتك وهذا، فلما فرغ سعد من مقالته قال له مصعب: "أو تجلس فتسمع؟ فإن سمعت خيرا قبلته وإن خالفك شيء أعفيناك".
قال: أنصفت، فركز حربته ثم جلس، فكلمه بالإسلام وتلا عليه القرآن، فقال سعد: ما أحسن هذا! نقبله منك ونعينك عليه، كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قال: تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق وتركع ركعتين، ففعل، ثم خرج سعد حتى أتى بني عبد الأشهل.
فلما رأوه قالوا: والله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم! فلما وقف عليهم قالوا: مما جئت؟ قال يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون رأيي فيكم وأمري عليكم؟ قالوا أنت خيرنا رأيًا، قال فإن كان كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله وحده وتشهدوا أن محمدا رسول الله، وتدخلوا في دينه، فما أمسى من ذلك اليوم في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا أسلم.
سرى النبأ في المدينة كالبرق بعد إسلام سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وتلاهم عدد من أشراف الأوس والخزرج. وارتجت أرجاء المدينة من فرط التكبير. وفى موسم الحج التالي لبيعة العقبة قدم من المدينة ثلاثة وسبعون مسلمًا من بينهم امرأتان، وكان ذلك فاتحةً مباركة لهجرة الرسول إلى المدينة.
اللهم اجعلنا من الدعاة في سبيلك يا رب العالمين..
أقول قولي هذا ....
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا أيها الناس: فلا نزال نعبق من سيرة الفتى الصالح مصعب بن عمير ما يحثنا أن نبذل للدين والدعوة إليه ما نستطيع إليه سبيلاً، فها هو مصعب بن عمير يعود إلى رسول الله، يحمل له البشرى في مكة، وبلغ أمه أنه قد قدم فأرسلت إليه يا عاقّ أتقدم بلدًا أنا فيه لا تبدأ بي, فقال: "ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله", فلما سلم على رسول الله وأخبره بما أخبره ذهب إلى أمه, فقالت: إنك لعلى ما أنت عليه من الصبأة بعد, قال: أنا على دين رسول الله وهو الإسلام الذي رضي الله لنفسه ولرسوله, قالت: ما شكرت ما رثيتك به، مرة بأرض الحبشة ومرة بيثرب, فقال: أفر بديني أن تفتنوني, فأرادت حبسه, فقال: لئن أنت حبستني لأحرصن على قتل من يتعرض لي.
قالت: فاذهب لشأنك, وجعلت تبكي, فقال مصعب: يا أمة إني لك ناصح وعليك شفيق, فاشهدي أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله, قالت: والثواقبِ لا أدخل في دينك, فيزرى برأيي ويضعف عقلي, ولكني أدعك وما أنت عليه وأقيم على ديني.
وهكذا أتيح له هو الوحيد أن يسلم على يده هذا العدد من الأنصار، حتى كادت المدينة كلها تدين بإسلامها لمصعب.
وكان مصعب بن عمير أول من جمع الناس للجمعة بالمدينة: روى الزهري قال: بعث رسول الله مصعب بن عمير بن هاشم إلى أهل المدينة ليقرئهم القرآن فاستأذن رسول الله أن يجمع بهم, فأذن له رسول الله وليس يومئذ بأمير, ولكنه انطلق يعلم أهل المدينة, قال معمر: فكان الزهري يقول: "حيث ما كان أمير فإنه يعظ أصحابه يوم الجمعة، ويصلي بهم ركعتين".
شهد مصعب بن عمير بدرًا واختاره الله للشهادة في سبيله يوم أُحد: حمل مصعب لواء المسلمين في أحد، في الطبقات لابن سعد قال: حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أُحد, فلما جال المسلمون ثبت به مصعب فأقبل ابن قميئة وهو فارس فضرب يده اليمنى فقطعها, ومصعب يقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144].
وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه فضرب يده اليسرى فقطعها, فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ), ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه واندق الرمح ووقع مصعب وسقط اللواء, وسقط شهيدًا رضي الله عنه وأرضاه.
أخرج الشيخان في صحيحيهما قول خباب بن الأرت: "هاجرنا مع رسول الله ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى لسبيله لم يأكل من أجره شيئًا منهم: مصعب بن عمير؛ قُتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله: "غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر".
عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم أن عبد الرحمن بن عوف أُتي بطعام وكان صائمًا فقال: "قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني, كُفِّن في بردة إن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه, وأراه قال: وقُتل حمزة وهو خير مني, ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسط, أو قال: أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا, وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلت لنا", ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
قتل يوم أحد على رأس اثنين وثلاثين شهرًا من الهجرة، وهو ابن أربعين سنة أو يزيد شيئًا.
رحم الله مصعبا ورضي عنه وأرضاه.
أيها الإخوة: إذا أردنا أن ننهض بشباب الأمة فيجب علينا أن نربيهم على سيرة رسول الله، وعلى سيرة الرعيل الأول كأمثال حمزة ومصعب وجعفر وابن رواحة وابن عمر وابن عباس وأسامة بن يزيد وغيرهم، وهم كثير -ولله الحمد- ونغرس فيهم التفاني من أجل الدين ونرتفع بهم من ثقلة الأرض إلى علو السماء، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وأن نؤدبهم على ذلك من الصغر حتى تصبح عزة أحدهم بدينه طابعًا لا تطبعًا وخُلقًا لا تخلقًا، فحينئذ نجني الثمرة المرجوة من شبابنا..
اللهم اهدِ شباب المسلمين ....