المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
العربية
المؤلف | سلطان بن سعد السيف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
إن مَن تأمَّل ما قص الله في كتابه الكريم من قصص الأمم الغابرة، الأمم التي أزال الله عنها النعَم - أيقن بأن أبرز سبب لذلك هو مخالفة أمره وعصيان رسله؛ وإلا فما الذي أخرج آدم وحواء من الجنة؟! وما الذي أغرق قوم نوح حتى علا الماء رؤوس الجبال؟! وما الذي سلَّط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى؟! وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة؟! ..
أما بعد:
فيا عباد الله: إن دلائل قدرة الله -تعالى- وعظمته لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، آيات كثيرة تعجز النفوس عن عدِّها وذكرها، وتقصر الألسنة عن وصفها وحالها؛ فالسماوات والأرَضون من آياته، والبحار من آياته، والجبال من آياته، والقطر والمطر والسيل من آياته.
أيها المسلمون: إن قدر المولى وجلاله -جل جلاله- في قلوب المؤمنين لَتزداد عندما يرون تلك الآيات، على اختلاف حجمها وزمانها ومكانها وتنوعها.
ألا وإن من آيات الله العظيمة تلك البراكينَ المحرِقة، والزلازل المروِّعة، والفيضانات المهلِكة، والأعاصير المدمِّرة، والكوارث الأرضية، والحوادث البحرية والجوية، والأمراض المتنوعة: جنسية وجسدية ونفسية، والناس حولها يهلكون فرادى وجماعات.
بينما الناس في صحة وأمن، وعافية وحلم، وعقارب الثواني والدقائق في حينٍ إذا بأمر الله يحين، فلا ترى إلا الهلاك بالناس قد عمَّ وطمَّ، ولا تسمع لهم حسًّا ولا همسًا؛ فما أعظمَ اللهَ! وما أجلَّ قدرة الله وحكمته! وما أعظم تدبيره وقدره! إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون، لا رادَّ لما قضى ولا معقِّب لحكمه ولا غالب لأمره.
فَوَاعَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَ
وقعت هذه الكوارث والأمراض وأهل الخبرة والأرصاد عاجزون؛ من هَوْل ما يسمعون ويبصرون، انغلقت أفهامهم وحارت عقولهم، مع ما لديهم من علم وحرص وتقنية وسلامة ووسائل، في طرفة عين يأمر الله فيكون، فأين الدراسات والأبحاث؟! وماذا قدمت الكراسي والمكتَشَفات؟! هل ردَّت لله أمرًا؟! وهل رفعت عن الناس عذابًا أو منعت عنهم بلاءً؟! كلاَّ، فما شاءه الله كان، وما لم يشأ لم يكن، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك، سبحانك أنت ملاذ الخائفين، وملجأ المتشردين، وأنيسهم في الوحشة.
عباد الله: لئن كان بعض علماء الفلك، وبعض الملحدين يعزون الأمطار الغزيرة المغرِقة والزلازل إلى الطبيعة، وإلى أسباب مادية فقط؛ فإن المؤمنين يدركون أيضًا أن هذه الرياح والأعاصير والسيول الجارفة وغيرها إنذارٌ لهم، وتذكير من الله -تعالى- لهم؛ (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]. يقول أحد السلف: "والله إني لأَرى أثر معصيتي على خلُق دابتي وزوجتي".
قال ابن تيمية: "وإذا كان في المسلمين ضعف وكان عدوهم مستظهرًا عليهم، كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم؛ إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرًا، وإما لعدوانهم بتعدِّي الحدود باطنًا وظاهرًا".
وقال -رحمه الله تعالى-: "ومن المعلوم بما أرانا الله -تعالى- من آياته في الآفاق وفي أنفسنا، وبما شهد به في كتابه: أن المعاصي سبب المصائب؛ فسيئاتُ المصائبِ والجزاء من سيئات الأعمال، وإنَّ الطاعة سبب النعمة؛ فإحسانُ العمل سببٌ لإحسانِ الله -تعالى" "الفتاوى" (28/138).
عباد الله: إن مَن تأمَّل ما قص الله في كتابه الكريم من قصص الأمم الغابرة، الأمم التي أزال الله عنها النعَم - أيقن بأن أبرز سبب لذلك هو مخالفة أمره وعصيان رسله؛ وإلا فما الذي أخرج آدم وحواء من الجنة؟! وما الذي أغرق قوم نوح حتى علا الماء رؤوس الجبال؟! وما الذي سلَّط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى؟! وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة؟! وما الذي رفع قرية قوم لوط فجعل عاليها سافلها فأهلكهم جميعًا؟! وما الذي خسَف بقارون؟! وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرًا؟! أليس هذا بسبب كفر المولى وعصيانه؟!
قال كعب بن مالك -رضي الله عنه-: "إنما تزلزل الأرض إذا عُمِل فيها بِالمعاصي"؛ ابن أبي الدنيا.
أخي في الله:
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَـا
أيها المسلمون: قال -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25]، لئن كان أحد أسباب هذه الحوادث المعصية والمجاهرة والمكابرة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - إلا أن العقوبة والهلاك إذا حلَّ شمل الجميع إلا مَن رحم الله؛ فإن زينب بنت جحش سألت المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فقالت: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث"؛ متفق عليه، فإذا قيل هذا لخير جيل -وهم الصحابة الكرام-؛ فما الظن بغيرهم؟ والله المستعان.
ولكن هذا الفيضان وهذه السيول هي في نفس الوقت للمؤمنين والصابرين امتحانٌ وابتلاء وتمحيص وتكفير للسيئات -بإذن الله-؛ فالمرء يُبْتَلى على قدر دينه كما صحَّ بذلك الخبر، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أنزل الله بقوم عذابًا أصاب العذاب مَن كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم، فيكون هلاك الصالحين في البلاء هو موعد آجالهم، ثم يبعثون على نياتهم"؛ رواه مسلم.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/61): "وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لِمَن سكت عن النهي؛ فكيف بِمَن داهن؟!؛ فكيف بِمَن رضي؟!؛ فكيف بِمَن عاون؟! نسأل الله السلامة".
عباد الله: على مدى الأزمان وسالف الأوان كانت كوارث وزلازل وفيضانات، لكن المؤمنين يتَّعظون ويتذكَّرون ويذكِّر بعضهم بعضًا؛ أخرج ابن أبي شيبة (2/473) عن صفية بنت أبي عبيد قالت: "زُلزِلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، فوافق ذلك عبدالله بن عمر وهو يصلي فلم يدرِ، قالت: فخطب عمر للناس فقال: أحدثتم لقد عجلتم، قالت: ولا أعلمه إلا قال: لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم".
والشقي عباد الله مَن غفل وبيَّت النية، والمعاصي له طبع وسجية، سرًّا وعلانية، فلا عبرة ولا عظة، فهو كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، فلا ينتفع بالقرآن ولا بكلام سيد الأنام، ولا بعبر الزمان، والله المستعان.
معاشر الإخوة: هل اعتبرنا بما حدث لإخواننا في جدة؟! هل اتعظنا من المصائب والكوارث التي شاهدناها بأم أعيننا وأصابت حيًّا من أحيائنا وإخواننا وأهلنا؟! هل غيَّرنا أحوالنا، وأصلحنا أوضاعنا؟! هل طهَّرنا بيوتنا من المفاسد والفضائيات الفاسدة بل المُفْسِدة؟!
هل أناب المضيِّع للصلاة، أو المتكاسل عنها فحافظ عليها في الجماعة؟! هل أدَّى التجار زكاة أموالهم، وهل صام الشباب شهرهم؟! وهل أدَّى الناس فريضة حجهم؟! هل أقلع وارتدع المرابي المبارز لرب العزة والجلال، والمرتشي والظالم والغاشُّ في بيعه وشرائه وكلامه؟! هل يتوب الشباب من جرم المعاشرات المحرمة، واللقاءات الهاتكة للأعراض؟! هل ترجع النساء والفتيات إلى لباس العفة والطهر والستر؟!
عباد الله: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
فَلَيْتَ قُلُوبَ العُصَاةِ تُفِيقُ
قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "فالواجب عند الفيضانات وغيرها من الآيات: البدار بالتوبة إلى الله -سبحانه- والضراعة إليه، وسؤاله العفو والعافية، والإكثار من ذكره واستغفاره؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره"، ومن أسباب العافية والسلامة من كل سوء: مبادرة ولاة الأمور بالأخْذ على أيدي السفهاء، وإلزامهم بالحق، وتحكيم شرع الله فيهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" "فتاوى الإسلام" (1/2730) نستغفر الله، نستغفر الله ونتوب إليه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: بيَّن لنا الإسلام موقف المسلم من الكوارث ومقدماتها، فشرع الذكر عند الريح ونزول المطر وغير ذلك، لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يخاف عذاب الله ويحاذر مكره؛ تقول عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِف في وجهه، قالت: يارسول الله، إن الناس إذا رأوا الغَيْم فرحوا؛ رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ياعائشة، مايؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذِّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا"؛ متفق عليه.
وهذه الأمة جسَد واحد يتألم أقصاها لأدناها، وأدناها لأقصاها، وكرب إخواننا كربنا، وهمهم همنا، فكيف إذا كان في بلدنا، وقريب منَّا؟! فنحن في جميع البقاع من هذا الوطن يعتصرنا الألم أمام هذه الفاجعة التي يتمت ورملت وأحزنت وطافت برياح العزاء في أيام العيد، بكاء وعَوِيل، وصرخات لنساء وأطفال، وشيوخ وعجَزة تبثُّها تسجيلات مرئية بسبب الكارثة.
ولكن -يا عباد الله - لا يجوز الاعتراض على قدَر الله؛ فالمؤمن يرضى ويسلم، وكذا لا يجوز سب الدهر والأيام وتسميتها بقبيح الصفات والألقاب؛ كالأربعاء الأسود، أو البغيض أو الكئيب.
ونحن -بلا شك- كحال أهل الإيمان في جدة مؤمنون بأقدار الله صابرون محتسبون، حامدون الله على الضراء والسراء، لكن هذا الإيمان يلزمه إيمان آخر حتى يكتمل وهو أول واجب على المجتمع، ألا وهو التضامن في البلاء بروح الجسد الواحد؛ ففي الأحاديث المتفق عليها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مثَل المؤمنين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى"؛ متفق عليه، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" وشبك بين أصابعه.
بل نفى كمال الإيمان عمَّن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والحديث متفق عليه أيضًا.
فلا بُدَّ من التعاون والاحتساب، وهذا يتأكد في حق التجار والموسرين، فتجار الملابس، والأغذية، والسيارات، كلٌّ حسب طاقته، ويحسن بمُلاَّك الشقق والفنادق إنزال المحتاجين فيها بالمَجَّان، والقيام بخدمتهم، فصنائع المعروف تقي مصارع السوء، وتفريج الكربات ثواب وفرج عظيم يوم القيامة، فلا بُدَّ من التضحية، فقد أثنى الله على الأنصار، لماذا؟ لأنهم (آووا ونصروا)، واليوم إخواننا في جدة ومَن هو حول بحيرة المسك بحاجة ماسة إلى الإيواء، فطُوبى لِمَن آوى وأسكن وفتح ما زاد من بيته وعقاره للمسلمين، فهذا والله الاستثمار الصالح، ولقد ضرب أهلها أروع الأمثلة في إنقاذ الغرقى؛ فلقد كان أحدهم صائمًا وأنقذ العديد ثم توفاه الله مع أحد الغرقى، ومثل هذه القصص كثير.
ولقد كنت ذلك اليوم يوم الأربعاء في جدة فاحتجزتنا السيول بضع ساعات عن الذهاب إلى مكة، فرأيت بعض المشاهد بنفسي؛ بل وأدركني شيء من بلائها؛ فالحمد لله على كل حال، وإلا فالماء وصل إلى أنصاف الأفخاذ، وربما زاد ونحن محرمون بالحج، بيوت تهدَّمت، وأنفاق امتلأت، ومحلات خربت، ومحطات وقود انطفأت، ومركبات انجرفت وانقلبت وغرقت، وأعظم من هذا كله أرواح أزهقت وأخرى فقدت، ولكن ما عند الله خير وأبقى؛ فعند مسلم: "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله"، قال النووي (13/62): "قال العلماء: المراد بشهادة هؤلاء كلهم غير المقتول في سبيل الله: أنهم يكون لهم في الآخرة ثواب الشهداء، وأما في الدنيا فيغسَّلون ويصلى عليهم".
وإن كان أفرحنا وأثلج صدورنا قرار الدعم السخي من الملك -سدَّده الله- لهؤلاء الغرقى والشهداء، الذين أسأل الله أن يفرج عنهم، وأن يكون خفف من مصابهم، ولكن لا بُدَّ من وقفة جادة، ومحاسبة شديدة لمسؤولين لا يخافون الله، ولا يقيمون وزنًا لدينهم ووطنهم ولا لإخوانهم، ألا يتقون الله؟ ألا يعلمون أنهم سبب للفساد والإزهاق؟ المؤمن يتألم لفقد مسلم واحد، فكيف بأنفس؟! لقد استشرى الفساد متزامنًا مع وجود إعلام صامت، سلط نفسه وسخر إمكاناته لخوض المواجهة مع العلماء والدعاة وأهل الخير، ولو كان على حساب هدم الدين.
في إحدى الصحف الإلكترونية سأل شخص صديقه وهما يشاهدان مناظر الدمار بجدة: ماذا لو كان المسؤول رجلاً مستقيمًا تظهر عليه علامات الاستقامة، أو رجلاً من أهل العلم؟
يقول صديقه: سأترك لكم الإجابة، وسأبتسم كما ابتسمت عندما احترقت مدرسة بمكة، وكيف عمدت الصحف والصحفيون بصراحة متناهية، ورموا سمَّهم وسهامهم، ولم يألوا جهدًا، لماذا؟ لأن المقصود كان من أهل العلم، والله المستعان.
اللهم اجبر ضعف إخواننا في جدة، اللهم أمِّنهم يا رب العالمين، اللهم احفظهم، اللهم كن لهم عونًا وحفيظًا، اللهم اشفِ مرضاهم ورُدَّ مفقودهم، واجبر كسر قلوبهم، ورُدَّ لهم أبناءهم وإخوانهم وآباءهم يا رب العالمين.
اللهم يا مَن حفظت نوحًا ومَن معه من الغرق احفظهم وممتلكاتهم، الله يا مَن نجيَّت يونس من بطن الحوت، اللهم نجِّ إخواننا من بطون الأمطار والسيول.