الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
هذه الهداية شاملة للحيوان كله، ناطقه وبهيمه، طيره ودوابه، فصيحه وأعجمه، هداه لما يصلحه في معيشته ومطعمه ومشربه، ومنكحه، وتقلبه وتصرفه بإرادته. وكذلك كل عضو له هداية تليق به، فهدى الرجلين للمشي، واليدين للبطش والعمل، واللسان للكلام، والأذن للاستماع، والعين لكشف المرئيات، وكل...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، أعطى كل شيء من الخلق والتصوير ما يصلح به لما خلق له، ثم هداه لما خلق له وهو الحكيم الخبير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له في كل مخلوق حكمة باهرة، وآية ظاهرة، وبرهان قاطع يدل على أنه رب كل شيء ومليكه، وأنه المنفرد بكل كمال دون خلقه، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: هدى أمته هداية البيان والإرشاد، وأما هداية التوفيق والإلهام، فإلى الملك العلام.
أما بعد:
فيا عباد الله: ذكر الله -تبارك وتعالى- عن فرعون أنه قال: (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طه: 49 - 50].
أي أعطى لك شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره، وأعطى كل عضو شكله وهيئته، وأعطى كل موجود خلقه المختص به، ثم هداه إلى ما خلق له من الأعمال.
هذه الهداية شاملة للحيوان كله، ناطقه وبهيمه، طيره ودوابه، فصيحه وأعجمه، هداه لما يصلحه في معيشته ومطعمه ومشربه، ومنكحه، وتقلبه وتصرفه بإرادته.
وكذلك كل عضو له هداية تليق به، فهدى الرجلين للمشي، واليدين للبطش والعمل، واللسان للكلام، والأذن للاستماع، والعين لكشف المرئيات، وكل عضو لما خلق له.
وهدى الزوجين من كل حيوان إلى الازدواج والتناسل، وتربية الولد، وهدى الولد إلى التقام الثدي عند خروجه من بطن أمه، وهداه إلى معرفة أمه دون غيرها، حتى يتبعها أين ذهبت، والقصد إلى ما ينفعه من المراعي دون ما يضره منه، وهدى الطير والوحش إلى الأفعال العجيبة التي يعجز عنها الإنسان.
ومراتب هدايته سبحانه لا يحصيها إلا هو، فتبارك الله رب العالمين.
وهدى "النحل" أن تتخذ من الجبال بيوتًا، ومن الشجر ومن الأبنية، ثم تسلك سبل ربها مذللة لها، لا تستعصي عليها، ثم تأوي إلى بيوتها، وهداها إلى طاعة يعسوبها واتباعه والائتمام به أين توجه بها، ثم هداها إلى بناء البيوت العجيبة الصنعة المحكمة البناء.
ومن تأمل بعض هدايته المبثوثة في العالم شهد بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم.
وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات "النبوة" و"المعاد" بأيسر نظر وأول ولهة، وأحسن طريق وأخصرها وأبعدها عن كل شبهة، وأن من هدى هذه الحيوانات هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها لا يليق به أن يترك هذا النوع الإنساني الذي هو خلاصة الوجود الذي كرمه وفضله على كثير من خلقه تفضيلاً مهملا وسدى معطلا لا يهديه إلى أقصى كمالاته وأفضل غاياته.
وهذا أحد ما يدل على إثبات المعاد بالعقل والشرع.
وهذا النمل من أهدى الحيوانات، وهدايتها من أعجب شيء؛ فإن النملة الصغيرة تخرج من بيتها، وتطلب قوتها، وإن بعدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته وساقته في طريق معوجة بعيدة ذات صعود وهبوط في غاية من التوعر، حتى تصل إلى بيوتها، فتخزن فيها أقواتها في وقت الإمكان، فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها، ففلقته فلقتين لئلا ينبت، فإن كان ينبت مع فلقه باثنين فلقته بأربعة، فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن والفساد، انتظرت به يومًا ذا شمس، فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها، ثم أعادته إليها، ولا تتغذى منها نملة مما جمعه غيرها.
ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله -سبحانه- في القرآن عن النملة التي سمع سليمان -عليه السلام- كلامها، وخطابها لأصحابها، بقولها: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)[النمل: 18].
فجمعت بين الاعتذار عن مضرة الجيش بكونهم لا يشعرون، وبين لو أمة النمل حيث لم يأخذوا حذرهم، ويدخلوا مساكنهم، ولذلك تبسم سليمان ضاحكًا من قولها، وإنه لموضع تعجب وتبسم.
ومن عجب هدايتها: أنها تعرف ربها بأنه فوق السموات على عرشه، كما رواه الإمام أحمد في "كتاب الزهد" من حديث أبي هريرة يرفعه قال: "خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون، فإذا هم بنملة رافعة قوائمها إلى السماء تدعو مستلقية على ظهرها، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك، ورزقك، فإما أن تسقينا وترزقنا، وأما أن تهلكنا، فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم" [وهي تدرك بالشم من البعد ما يدركه غيرها بالبصر أو السمع، فتأتي من مكان بعيد إلى موضع أكل فيه الإنسان، وبقي فيه فتات من الخبز أو غيره، فتحمله وتذهب به، وإن كان أكبر منها، فإن عجزت عن حمله ذهبت وأتت معها بصف من النمل يتساعدون على حمله ونقله، ولها قصص من ذلك، انظر: البدائع، ج(1) ص(70)].
وهذا "الهدهد" من أهدى الحيوان وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض لا يراه غيره.
ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه: أنه قال لنبيه سليمان -عليه السلام- وقد فقده وتوعده، فلما جاء بدره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة، وخاطبة خطابًا هيجه على الإصغاء إليه والقبول منه، فقال: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ)[النمل: 22].
ثم كشف عن حقيقة الخبر كشفًا مؤكدًا بأدلة التأكيد، فقال: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ)[النمل: 23].
ثم أخبر عن شأن تلك الملكة، وأنها من أجل الملوك بحيث أوتيت من كل شيء يؤتاه الملوك، ثم زاد في تعظيم شأنها بذكر عرشها الذي تجلس عليه، وأنه عرش عظيم، ثم أخبره بما يدعوه إلى قصدهم وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله، فقال: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)[النمل: 24].
ثم أخبر عن المغوي لهم الحامل لهم على ذلك، وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم، حتى صدهم عن السبيل المستقيم، وهو السجود لله وحده، ثم أخبر أن ذلك الصد حال بينهم وبين الهداية والسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلا له، ثم ذكر من أفعاله سبحانه إخراج: (الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[النمل: 25].
وهو المخبوء فيهما من المطر والنبات والمعادن، وأنواع ما ينزل من السماء، وما يخرج من الأرض.
وهذا "الحمام" من أعجب الحيوان هداية، حتى قال الشافعي: "أعقل الطير الحمام".
وبرد الحمام، هي التي تحمل الرسائل والكتب في لأزمان السابقة، ربما زادت قيمة الطير منها على قيمة العبد، يذهب ويرجع إلى مكانه من مسيرة ثلاثة آلاف ميل فما دونها.
وهداية الحيوان إلى مصالح معاشها، كالبحر حدث ولا حرج.
ومن عجائب أمر "القرد": ما ذكره البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي قال: رأيت في الجاهلية قردًا وقردة زنيا فاجتمع عليهما القرود فرجموهما حتى ماتا.
فهؤلاء القرود أقاموا حد الله حين عطله بنو آدم.
و"البقرة" يضرب ببلادتها المثل، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن رجلاً بينما هو يسوق بقرة إذ ركبها، فقالت: إني لم أخلق لهذا، فقال الناس: سبحان الله، بقرة تتكلم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر، وما هما ثم، ثم قال: بينما رجل يرعى غنمًا له إذ عدى الذئب على شاة منها فاستنقذها منه، فقال الذئب: هذه استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري، فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني أومن بهاذ أنا وأبو بكر وعمر، وما هما ثم".
ومن هداية "الحمار" الذي هو من أبلد الحيوان أن الرجل يسير به ويأتي به إلى منزله من البعد في ليلة مظلمة، فيعرف المنزل، فإذا خُلِّيَ جاء إليه، ويفرق بين الصوت الذي يستوقف به والصوت الذي يحث به على السير.
وهذا "الثعلب" إذا اشتد به الجوع انتفخ، ورمي بنفسه في الصحراء كأنه جيفة، فتتداوله الطير، فلا يظهر حركة ولا نفسًا، فلا تشك أنه ميت، حتى إذا نقر بمنقاره وثب عليها فضمها ضمة الموت.
وهذا "ابن عرس" و"القنفذ" إذا أكلا الأفاعي والحيات عمدا إلى الصعتر النهري، فأكلا منه كالترياق لذلك.
وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوان البهيم أمورًا تنفعه في معاشه، وأخلاقه، وصناعته، وحربه، وحزمه، وصبره.
فتفكروا -عباد الله- في هداية هذه الحيوانات لما خلقت له، واعرفوا عظمة باريها، وتفهموا قوله: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)[الأعلى: 1- 3].
(قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طه: 50].
بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي سبحت الكائنات بحمده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا مثل له من خلقه.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكمل خلق الله خلقًا، وأرفعهم عنده منزلا.
اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد قال الله -تعالى-: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)[الأنعام: 38].
قال ابن عباس: "يعرفونني، ويوحدونني، ويسبحونني، ويحمدونني".
وقال ابن قتيبة: (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) في طلب الغذاء، وابتغاء الرزق، وتوقي المهالك.
وقال سفيان بن عيينة: "ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم، فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي إليها الطعام الطيب عافته، فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه، فلذلك تجد في الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، وإن أخطأ رجل تروَّاه وحفظه.
قال الخطابي: "ما أحسن ما تأول سفيان هذه الآية، واستنبط منها هذا الحكم أن المراد المماثلة في الطبائع والأخلاق".
والله -سبحانه- جعل بعض الدواب كسوبًا محتالًا، وبعضها متوكلاً غير محتال، وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنة، وبعضها يتكل على الثقة بأن له في كل يوم قدر كفايته رزقًا مضمونًا، وأمرًا مقطوعًا، وبعضها يدخر وبعضها لا كسب له.
وبعض الذكورة يعول ولده، وبعضها لا يعرف ولده البتة.
وبعض الإناث تكفل ولدها لا تعدوه، وبعضها تضع ولدها وتكفل ولده غيرها.
وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغنى عنها، وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه، وبعضها لا يلتمس الولد، وبعضها يستفرغ الهم في طلبه.
وبعضها يعرف الإحسان ويشكره، وبعضها ليس ذلك عنده شيئًا.
وبعضها يؤثر على نفسه، وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمه من جنسه لم يدع أحدًا يدنو منه.
وبعضها يحب الفساد ويكثر منه، وبعضها لا يفعله إلا في السنة مرة.
وبعضها يقتصر على أنثاه، وبعضها لا يقف على أنثى ولو كانت أمه أو أخته.
وبعضها لا تمكن غير زوجها من نفسها، وبعضها لا ترد يد لامس.
وبعضها يألف بني آدم، ويأنس بهم، وبعضها يستوحش منهم، وينفر غاية النفار.
وبعضها لا يأكل إلا الطيب، وبعضها لا يأكل إلا الخبائث، وبعضها يجمع بين الأمرين.
وبعضها لا يؤذي إلا من بالغ في أذاها، وبعضها يؤذي من لا يؤذيها، وبعضها حقود لا ينسى الإساءة، وبعضها لا يذكرها البتة.
وبعضها لا يغضب، وبعضها يشتد غضبه فلا يزال يسترضى حتى يرضى.
وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة لا يهتدي إليها أكثر الناس، وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك البتة.
وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه، وبعضها الحسن والقبيح منه سواء.
وبعضها يقبل التعليم بسرعة، وبعضها مع الطول، وبعضها لا يقبل ذلك بحال.
وهذا كله من أدل الدلائل على الخالق لها سبحانه، وعلى إتقان صنعته، وعجيب تدبيره، ولطيف حكمته، فإن فيما أودعها من غرائب المعارف وغوامض الحيل، وحسن التدبير والتأني لما تريده ما يستنطق الأفواه بالتسبيح، ويملأ القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته سبحانه، وما يعلم كل عاقل أنه لم يخلق عبثًا ولم يترك سدى[شفاء العليل، ص (66- 68، 74، 75، 77، 70، 71، 74) البدائع، ج(1/35، 36)].