الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم الشعلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل |
إن شريعتكم الغراء، التي جاء بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كاملة في أحكامها وأخلاقها وآدابها، وكفيلة لمن تمسك بها بالسعادة الدنيوية والسعادة الأخروية، وفيها الحماية -بإذن الله- من الضلال، والوقاية من الفساد والانحلال، قال -سبحانه وتعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3]...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وشرفنا ببعثة سيد الأنام، أحمده -سبحانه- وأشكره على الدوام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله خاتم الأنبياء، وسيد الأتقياء، صاحب الرسالة العصماء، الكاملة في الحكم والأحكام.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه النجباء، أهل الفضل والسخاء، والشجاعة والإقدام، وعلى من اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال:24].
عباد الله: إن شريعتكم الغراء، التي جاء بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاملة في أحكامها وأخلاقها وآدابها، وكفيلة لمن تمسك بها بالسعادة الدنيوية والسعادة الأخروية، وفيها الحماية -بإذن الله- من الضلال، والوقاية من الفساد والانحلال، قال -سبحانه وتعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3]، وقال -جل وعلا-: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الزخرف:43]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا..." الحديث.
أعَزَّتْ وأكرمت من تمسك بها بعد الذل والهوان، وأصلحت وهدت من تمسك بها بعد الفساد والضلال، وقوّت وأعلت من تمسك بها بعد الضعف والسفال، جعلت أجلاف العرب ورعاة الإبل والغنم، سادة على غيرهم من العجم، وشامة بين الأمم.
أعتقتهم من رق العبودية للشيطان والهوى إلى رق العبودية لخالق الأرض والسماء، الذي هو في الحقيقة أعلى أنواع الحرية، وأشرف أنواع الخلاص والفكاك من ذل الاستعباد البشري، والانقياد الفكري، والاستسلام الجسدي، الذي وقع فيه من تنكب صراط الله المستقيم، وحاد عن شريعته ومنهجه القويم، في الحديث من الزمان والقديم.
من أجل هذا؛ عز على أعداء هذه الشريعة الغراء أن يروا المسلمين وقد أكرموا بهذه الشريعة الكاملة، وغاظهم أن يكون رسول هذه الشريعة من سلالة إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-، فقد قال قائلهم لعمر بن الخطاب –رضي الله عنه-: آية في كتابكم، لو أنزلت علينا معشرَ اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً...الحديث.
وقال عنهم ربنا -جل وعلا-: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة:89]، وقال -تعالى-: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء:54].
فغمر الحسد نفوسهم، واستولى المكر على عقولهم، وغلي الحقد والبغض في قلوبهم لأمة الإسلام، وأتباع خاتم الأنبياء وسيد الأنام، فأخذوا على عواتقهم في الكيد لأمة الإسلام، وعاهدوا أنفسهم وشياطينهم على محاربة المسلمين باليد والسنان، والفكر والبيان، وإيراد الشبه والضلالات، وتنويع الفتن والشهوات، حتى يشككوا المسلمين في شريعتهم القويمة، فيتخلى المسلمون عن شريعتهم، ويتنكروا لها، أو يصابوا بالحيرة والتذبذب؛ لأنهم يعلمون علم اليقين، أن لا استقرار لهم وسيادة وقوة مع قوة المسلمين وعزتهم، وأن قوة المسلمين وعزتهم تكمن في تمسكهم بهذه الشريعة الغراء، فلا بد من الحيلولة بين المسلمين وبين شريعتهم.
من أجل هذا -عباد الله- نوعوا أساليب الكيد والمكر لأمة الإسلام، ومن أعظم ما يقومون به في هذا الزمان، من أنواع المكر والكيد، وأساليب الحرب والغزو، ثلاثة أنواع خبيثة سيئة:
النوع الأول: التفريق بين بلاد المسلمين...، وإلقاء العداوة بينها، واختلاق الأسباب الواهية التي توقع البلاد الإسلامية في تنافر وتناحر، وتباغض وتدابر؛ لأنهم لا يستطيعون السيطرة على المسلمين وبلادهم إلا بهذا، ولا يتمكنون من السيادة عليهم إلا بحصول هذا التنافر؛ ولهذا، اشتهرت هذه العبارة عنهم، وهي: "فرِّقْ تَسُدْ"، ومعناها: إنك إذا أردت أن تسود قوما ففرق بينهم، قال الشاعر:
تأبي الرماح إذا اجتمعن تكسراً | وإذا افترقن تكسرت آحادا |
النوع الثاني: إيجاد الفجوة الواسعة بين علماء المسلمين وبين قادتهم؛ لتحصل الوحشة بينهم، ويقع التنافر بينهم، فتزول الثقة والمحبة والألفة بينهم، وإذا ما وقع هذا -لا قدر الله- وتحقق للأعداء ما أرادوه، فإن المسلمين سيقعون ضحية هذا التنافر بين علماء المسلمين وبين أولياء الأمور، وسيدخل الأعداء بين الصفين، إما بأنفسهم، أو بمن شرب من أفكارهم وارتوى من مبادئهم وثقافتهم، ليزيدوا النفرة نفرة، والوحشة وحشة، وحينئذ يسهل عليهم الوصول إلى مرادهم وغايتهم في المسلمين وبلادهم.
النوع الثالث: إغراق مجتمعات المسلمين بالفتن والشهوات... وهذا ما فعلوه في هذا الزمان، الذي لم يمر على المسلمين -فيما أظن- زمان مثله في كثرة الفتن.
لقد أغرقوا مجتمعات المسلمين بفتن الشهوات، وأعظمها شهوة الجنس، ونوعوا مصادر نشرها في مجتمعات المسلمين، عن طريق الإعلام المرئي، والإعلام المسموع، والإعلام المقروء، ونوعوا كيفية نشرها، إما بالصورة المكشوفة الفاضحة، أو الدعاية لها والدعوة إليها، أو إقامة الندوات واللقاءات والمؤتمرات للبحث والمناقشة في أهم محور لشهوة الجنس، ألا وهو المرأة، أو بهذه الأمور جميعاً.
ومع الأسف الشديد! إنهم وجدوا من المسلمين أنفسهم من يعينهم على نشر هذه الشهوات وبثها بين المسلمين، بحجة التحضر والتمدن والانفتاح!.
عباد الله: إن الذي جعل أعداء الدين يقومون بهذا الكيد والمكر للمسلمين أمور عدةـ، منها: الوضع المأسوي الذي تعيشه مجتمعاتهم: انحلال في الأخلاق، وفساد في الأعمال، وخلل في الإدارة ورموزها، وتفكك في الأسر، وتنوع في الجريمة، وتزايد فيها؛ بسبب إعراضهم عن دين الله القويم، وقد قال -سبحانه وتعالى- في كتابه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [طه:124-126].
ومنها: ما يرونه في المسلمين من استقرار في الحياة، واستقامة في الأحوال، وترابط بين الأسر، وتعاون بين الأفراد، وعلاقات متينة بين القادة والشعب، فإن هذا يغضبهم ويحزنهم، ولهذا قال -سبحانه- عنهم: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء:89].
من أجل هذا -عباد الله- يجب علينا أن ننتبه لما يخطط له الأعداء، ويرسمون له، من توريط هذه البلاد في الفتن التي تعصف بالناس، وتلقيهم في مهاوي الردى.
وعلينا أن نقطع عليهم الطريق، ونعيقهم عن الوصول إلى أهدافهم وغاياتهم، وذلك بفعل هذه الأمور:
أولا: تقوية العلاقة بين الناس والعلماء والدعاة إلى الله، وتقوية العلاقة بين الناس وأولياء الأمور، وعدم الإصغاء لأي ناعق يهدف إلى زعزعة هذه العلاقة وتفكيكها.
ثانيا: الإعراض عن الإشاعات التي تلقى بين الناس في مجتمعهم، والتي لا أساس لها صحيحاً، وهدفها الإرجاف بين الناس، وخلخلة التماسك والتكاتف الذي بينهم، فعلى الناس أن يمسكوا عنها ويردوها إلى أولي الأمر من العلماء والأمراء، والحذر من التصديق بها والعمل بمقتضاها، فقد قال الله -عز وجل- في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].
وقال -جل ذكره-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:83].
ثالثا: القضاء على الفتن بقسميها: فتن الشبهات، وفتن الشهوات. أما القضاء على فتن الشبهات فبتعلم العلم الشرعي والتفقه في الدين، وسؤال أهل العلم عما يشكل من أحكام الدين والدنيا، ورد الأفكار والآراء والنظريات التي ترد إلينا في مجتمعنا إلى أهل العلم؛ ليكشفوا حالها، ويبينوا صلاحها أو فسادها.
وأما القضاء على فتن الشهوات فبالعمل الصالح، والخوف من الله، والخشية منه، وتقواه، وتربية النفس، وتزكيتها، وتربية الأولاد، وتزكيتهم، والتخلص من وسائل نشر هذه الفتن، سواء كانت وسائل مرئية أو مسموعة أو مقروءة.
وبغير هذا لا يمكن القضاء على هذه الفتن، إذ كيف يرجو الناس خلاصا منها وهم يهيئون أسباب انتشارها وكثرتها؟ وكيف يرجون صلاحاً في الأخلاق واستقامة في الدين وهم يعينون على فشوها في مجتمعهم؟ فهل هم بهذا إلا كما قال القائل:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له | إياك إياك أن تبتل بالماء! |
فلنتق الله عباد الله، ولْنحذر من مكر أعداء الله.
بعد المقدمة: عباد الله: من أهم الأسباب التي تعين على التخلص من مكر أعداء الله أن لا يكون اختلاف الأحوال المعيشية من رخص إلى غلاء، سببا للبغض والعداء، وإثارة الفتنة والشحناء، مهما كان سبب ارتفاعها؛ فإن الأحوال تتغير وتتبدل، فالدنيا لا تدوم على حال، وأهم شيء أن يسلم الدين من الثّلمة والنقص أو الزوال، وأن تسلم الأخلاق من الفساد والانحلال، وأن يسلم المجتمع من الخوف والاضطراب وسوء الأحوال.
ومن أهم الأسباب التي تعين -بإذن الله- على التخلص من مكر أعداء الله: الدعاء الصادق لرب الأرباب، ومسبب الأسباب، جل في علاه، أن يكفي المسلمين شر الفتن والمحن، وشر من يريد بالمسلمين شراً في دينهم ودنياهم، فالدعاء من أعظم الأسلحة التي يدفع بها السوء والمكروه.
هذه -عباد الله- بعض الأسباب التي تدفع -بإذن الله- كيد أعداء الله ورسوله والمؤمنين.