الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | محمد بن عبدالله السحيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل |
أيها المؤمنون: في سوريا بؤس قد تناهى حين اجتمع في البلاء ذروة شدة وطول فترة، أذكى الأوارَ إسلامُ شعب سني مسلم؛ لعدو باطني ظلوم غشوم، من ورائه دول غطى حقدها خافقي فؤادها الشقيِّ الأسود، وانتزع منه كل وشائج الرحمة؛ فأوغل في نكال العزّل فتكاً وهتكاً، وسفكاً وبتكاً، وسط صمات عالمي ما بلغ النبْس، ولا أبقى النفْس!.
الخطبة الأولى:
الحمد لله ولي النصر، ذي العز والقهر، رفيع القدر، وشارح الصدر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نافذ الأمر، وقيوم الحشر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله مبدِّدَ حلكةِ الكفر صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أولي المناقب والطهر.
أيها المؤمنون: في سوريا بؤس قد تناهى حين اجتمع في البلاء ذروة شدة وطول فترة، أذكى الأوارَ إسلامُ شعب سني مسلم؛ لعدو باطني ظلوم غشوم، من ورائه دول غطى حقدها خافقي فؤادها الشقيِّ الأسود، وانتزع منه كل وشائج الرحمة؛ فأوغل في نكال العزّل فتكاً وهتكاً، وسفكاً وبتكاً، وسط صمات عالمي ما بلغ النبْس، ولا أبقى النفْس!.
تناهى شدةً فاض اصطباراً | بلاءُ الشام في وُلْدٍ وشيبِ |
وفي طول البلاء؛ فَتْنُ إيمان القلوب؛ فالمؤمنون صابرون محتسبون مجاهدون منتظرون حسنى النصر أو الشهادة، ما زادهم شدة البلاء إلا ثقة بربهم واستدناء لفرجه: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)[الأحزاب: 22].
أما المنافقون والذين في قلوبهم مرض، فيُعْمِل شدُّ البلاء في قلوبهم شكاً وارتياباً بوعد الله، ويحملهم ذلك على التفصّي من عقدة الإيمان، والهزءِ من ثقة المؤمنين بنصر ربهم، أخبر الله -سبحانه- عن تلكم الحال البائس بقوله: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)[الأحزاب: 11 - 12].
وقوله: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 49].
أيها المسلمون: إن البصيرة حال شدة البلاء، وطول أمده؛ من أعظم عُدد الثبات فيه، وتخطيّه بسلام، وجَأْبِ ثمرته اليانعة، ومن قوام تلك البصيرة: معرفة أسباب تأخر النصر، وتلمس مكاسب البلاء، والقيام بوظيفة الوقت؛ إذ للبلاء وتناهي شدته، وتأخر فرجه ونصره أمدٌ وحكمة، تسامت على هلكة الأولياء، وإدالة الأعداء.
معشر المؤمنين: إن إنجاء المؤمنين ونصرهم حق أوجبه الله على نفسه كرماً وفضلاً؛ كما قال سبحانه: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[الروم: 47].
(وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء: 88].
ولكنّ ذلك الأمر قد يتأخر لحكم يعلمها الله.
فقد يبطئ النصر؛ لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد، ولم يتم بعد تمامها، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً؛ لعدم قدرتها على حمايته طويلاً!.
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً، إلا بذلته هيناً رخيصاً في سبيل الله..
وقد يبطئ النصر حتى تجرّب الأمة المؤمنة آخر قواها؛ فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، وإنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله.
وقد يبطئ النصر؛ لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل ولا تجد لها سنداً إلا الله، ولا متوجَّهاً إلا إليه وحده في الضراء، وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله؛ فلا تطغى، ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله.
وقد يبطئ النصر؛ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته؛ فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله.
كما قد يبطئ النصر؛ لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقيةً من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصاً، ويذهبَ وحده هالكاً، لا تتلبس به ذرة من خير!.
وقد يبطئ النصر؛ لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفة للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة؛ فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه!.
وقد يبطئ النصر؛ لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار؛ فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه!.
وقد يبطئ النصر بذنوب لم يُتب بعد منها، قال الإمام ابن عبد البر: "وُفِدَ على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بفتح، فقال: متى لقيتم عدوكم؟ قالوا: أول النهار، قال: فمتى انهزموا؟ قالوا: آخر النهار، فقال: إناّ لله! وأقام الشرك للإيمان من أول النهار إلى آخره! والله إن كان هذا إلاّ عن ذنب بعدي، أو أحدثتُه بعدكم، ولقد استعملت يعلى بن أميّة على اليمن أستنصر لكم بصلاحه".
من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله قد يتأخر النصر مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)[غافر: 51]. وحسن ظننا في الله -جل وعلا- أنه ما أخّر النصر إلا لعظمه، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تكفل لي بالشام وأهله"[رواه أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي].
يقول أبو إدريس -أحد رواة الحديث- إثر روايته: "وَمَنْ تكفَّل اللَّهُ بِهِ فَلا ضيعة عليه".
ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا طوبَى للشام! يا طوبَى للشام! يا طوبَى للشام! قالوا: يا رسول الله! وبِمَ ذلك؟ قال: تلك ملائكة الله باسطو أجنحتها على الشام"[رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي].
ويقول: "إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلَا خَيْرَ فِيكُمْ، لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ"[رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح].
وقال خُرَيْمُ بْنُ فَاتِكٍ الْأَسَدِيُّ -رضي الله عنه-: "أَهْلُ الشَّامِ سَوْطُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، يَنْتَقِمُ بِهِمْ مِمَّنْ يَشَاءُ، كَيْفَ يَشَاءُ، وَحَرَامٌ عَلَى مُنَافِقِيهِمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَى مُؤْمِنِيهِمْ"[رواه أحمد وصححه الألباني].
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أيها المؤمنون: وتلمس مكاسب البلاء من حسن البصيرة فيه؛ فيطمئن القلب، وتزداد المصابرة، ويقوى الفأل، ولا يتسرب للنفوس خور أو استخفاف.
ومن سوابغ منح المولى على مؤمني سوريا ببلائه، بل وعلى أهل الإيمان قاطبة: استشعار الافتقار إلى الله وإظهاره، وصفاء توحيده، والفيئة إلى دينه، وانتزاع مخافة غيره من القلوب؛ إذ خاب الرجاء إلا فيه، وانقطع الأمل إلا منه، وضعف الاعتماد إلا عليه؛ فانطلقت من شفاه الصغار والكبار كلمات التوحيد النابعة من صدق الاعتقاد والفعال مجلجلة في أصقاع الدنيا، بل وتحت أزيز الطائرات ودوي الانفجارات: "لن نركع إلا لله"، "ما لنا غيرك يا الله".
وتمايز الصف، وسقوط أقنعة الخداع، ووضوح حقيقة العدو المتدثر بعباءة التشيع، وحب آل البيت من أعظم المكاسب التي لم تَبِنْ إلا بهذا البلاء، واستعادة المهابة المسلوبة بالقيام بذروة سنام الإسلام في أرض الملاحم، وشهود اليقين بنصر الله الفئةَ القليلةَ إن قامت بنصره، واصطفاء الشهداء، وتعظيم الأجور، وتكفير الأوزار، وحدب المسلمين على بعضٍ، وعيشهم بشعور الجسد الواحد، وصقل قادة الفتح، وتربية طلائع التمكين، كلُّها منح من المولى أسداها من محن بلائه، وما خفي من حِكم البلاء أوفر مما ظهر، وأعظم من أن يُستقصى.
إخوة العقيدة: إن دَركَ واجب الوقت والقيامَ به في خضم تناهي البلاء من أعظم ما يُستجلب به الفرج، ويُستنجح به النصر، وإن حسن الظن بالله، واليقين بنصره، وتجديد التوبة ولزوم الفرائض وعلى رأسها الصلاة، والائتلاف على كلمة الحق السوية، والاصطفاف وراء لوائها، والجؤار بدعاء الله، وبذل المستطاع في إعداد القوة، والمصابرة في منازلة العدو وكيده، والقيام بواجب النصرة حسب الاستطاعة كلها من وظائف شدة البلاء التي لا ينجلي إلا بها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200].