البحث

عبارات مقترحة:

الرفيق

كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...

الحيي

كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...

القهار

كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...

حسن الجوار

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. مكانة الجوار في الإسلام   .
  2. إكرام الجار من علامات الإيمان   .
  3. حدود إكرام الجيران شرعًا   .
  4. السلف وأروع الأمثلة على حسن الجوار   .
  5. مساوئ إلحاق الأذى بالجار   .
  6. أعظم حقوق الجار   .
  7. الواجب على المسلم نحو جاره. .

اقتباس

الواجب على المسلم كفَّ أذاه عن جاره فلا يؤذيه بقوله أو فعله, كاطّلاعه على محارمه, أو إفشاء أسراره, أو تتبع عوراته, أو أنه لا يكف أبناءه عن أذية جاره, كمن يرى تعدي أولاده على بيت جاره بالأذى ولا يأخذ بأيديهم, فإنَّ هذا من سوء الجوار المخالف للآداب الإسلامية والأخلاقِ الممدوحة...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي يسَّر للسالكين إليه الطرق والأسباب، وفتح لهم من خزائن رحمته كل باب, وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بلا ارتياب, وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله الذي منّ الله به على المؤمنين يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الحكمة والكتاب, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الحساب وسلم تسليماً كثيراً.

فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.

عباد الله: إنَّ من محاسن الإسلام العظيمة وصيته بالجار؛ والحثّ على أداء حقوقه والإحسانِ إليه, وقد تضافرت الأدلةُ من الكتاب والسنة مبينةً هذا الأمر أتمَّ بيانٍ وأوضحَه, قال الله -عز وجل-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) [النساء: 36]، الجار ذو القربى: أي ذو القرابة, والجار الجنب: أي الجار الأجنبي منك. ولمكانة الجوار في الإسلام اقترنت الوصية بالجار بأعظم المأمورات وهو التوحيد ونبذ الشرك, وفي هذا أكبرُ دليلٍ على عظيمِ منزلةِ الجار وكبير حقِّه.

وقد عظّمت الوصية بالجار حتى قال النبيُّ فيما صح عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه" [البخاري(6015) ومسلم (2625)]؛ أي: حتى ظننت أن الوحي سينزل بتوريثه. وما كان النبيُّ ليظنَّ هذا الظن إلا لكثرة ما كان يؤمر به من الوصية بالجار, فتأملوا هذا -رحمكم الله-.

ويحصل امتثال الوصية بحسن الجوار بإيصال أصناف الإحسان للجار حسب الوُسْع والطاقة؛ من بذلِ السلام له, وطلاقةِ الوجه والبِشْرِ عند لقائه, وتفقُّدِ أحواله والسؤالِ عنه, وتقديمِ الهدية له, ومعاونتِه فيما يحتاج إليه, والنصحِ له, وتعليمِه ما يجهله.

وما جاءت الشريعة بالأمر بالإحسان إلى الجار إلا لما يكون بين الجيران من الملاصقةِ الطويلة, والاتصالِ الدائم, وبطبيعةِ الحال لن يستقرَّ الإنسانُ ولن يهنأَ له بالٌ إلا بتلقيه الإحسان من غيره وبذله للغير.

وقد جاءت السنة النبويّة بما يرقِّقُ القلوب وينشرُ السعادة بين الجيران, ويفتحُ لهم أبوابَ الإحسان حتى يكونوا كالأُسْرةِ في البيت الواحد, ومن ذلك قول النبي لأبي ذر: "إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك" [مسلم(2625)].

وهذا من أعظم الإحسانِ؛ حيث إنه يدل على تحسُّسِ المرءِ لأحوال جيرانه ومحبةِ إشراكِه لهم في طعامه, وهذا فيه ما فيه من ردة الفعل النفسية الجميلة من الجار تجاه جيرانه حين تذكروه في طعامهم وأشركوه معهم، وليس بالضرورة أن يكون الجارُ مُحتاجاً لما يرسلونه له من الطعام, ولكنه يَنظُر لها من جانب آخر وهو أن جارَه لم ينسَه في هذا المقام, فيؤنسه ذلك ويُسَرُّ به, فهل فكرنا في أنْ نرسلَ من طعامنا لجيراننا؛ حتى تدومَ الألفةُ والمحبةُ بيننا؟.

وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره، عن عبد الله بن عمرو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ" [السلسة الصحيحة للألباني (103)]، وفي الحديث حث على الإحسان إلى الجيران، وكف الأذى عنهم، والانبساط إليهم.

كما أنَّ إكرامَ الجار من علاماتِ الإيمان ودليل عليه؛ قال –عليه الصلاة والسلام-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره" [البخاري (6019) ومسلم(47)], وكان ابن عمر إذا ذبح الشاة أرسل لجارٍ له يهودي. وكان يقول: "من حق الجار أن تبسط إليه معروفك؛ وتكف عنه أذاك".

وإكرامُ الجار ليس له حدٌّ محدود, فليجتهد المسلمُ بتحقيق ذلك على حسب ما تيسَّر له, وليعلم أنه بفعله ذلك قد تقرَّب إلى الله بعمل يحبه -سبحانه- ويرضاه, وليعلم أن المرء لازال بخيرٍ ما دام محبوباً إلى جيرانِه محسناً إليهم, فالجارُ أعظمُ شاهدٍ على سلوكِ جاره وأخلاقه, جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله, كيف لي أن أعلمَ إذا أحسنتُ أني قد أحسنت, وإذا أسأتُ أني قد أسأت, فقال رسول الله: "إذا قال جيرانُك: قد أحسنت، فقد أحسنت, وإذا قالوا: إنك قد أسأت فقد أسأت" [ صحيح ابن ماجه(3420) الألباني]. قال أبو قلابة -رحمه الله-: "خيرُ الناس خيرُهُم في أهله, وخيرُهم في جيرانه, فهم أعلم به", وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن رجلٍ, فقال: "هذا يُسأل عنه جيرانه, فإذا أثنوا عليه قُبِل منهم".

وقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن من سعادة الدنيا الجار الصالح، والمرأة الصالحة، والمسكن الواسع، ومن شقاوة الدنيا الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سعادة ابن آدم ثلاثة، ومن شقوة ابن آدم ثلاثة، من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء" [أحمد(1445) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1914)].

عباد الله: إن الديارَ لا تُقاس على الحقيقة بجميلِ بنيانها, وإنما تغلو وترخص بجيرانها, فعلى المسلم إن أراد أن يسكن بيتاً أنْ يجتهدَ وُسعه في اختيار جيرانه, فإنَّ بهم صلاحَ السكنى وفسادَها, وقد قيل:

اطلب لنفسك جيراناً تجاورهم

لا تصلح الدارُ حتى يصلحَ الجارُ

وإذا ابتُليتَ بجارٍ مؤذٍ, فاصبر على ما بُليت به حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً, فإنَّ من حسن الجوار الصبر على أذى الجار, حتى قال الحسن البصري: "ليس حسنُ الجوار كفّ الأذى, حسن الجوار الصبر على الأذى", وقال: "إلى جنْبِ كلِّ مؤمنٍ منافقٌ يؤذيه". فلا تقابل الإساءةَ بالإساءة, بل اصبر على ذلك, فإن الله ناصرُك, وفي الحديث: "واعلم أن النصر مع الصبر".

أيها المسلمون: إن من أعظمِ التوفيق وأسبابِ السعادة أن يُحسَن المرء إلى جيرانه ويُحسنوا إليه, وأن يبذلَ جهده في ذلك, وأن يبسطَ إليهم معروفه، ويحفظَ جوارهم غاية الحفظ، وبما استطاع إلى ذلك سبيلاً, فإن حفْظَ الجوار من كمال الإيمان, والموفق من وفقه الله تعالى والمخذول من تسلطت عليه نفسه وشيطانه، فأساء الجوار وقطع الأرحام، نعوذ بالله من الخذلان. ونسأله -سبحانه- أن يجعلنا من المحسنين للأهل والجيران، ونعوذ بالله من سوء الجوار، وسوء الأخلاق، يا رب العالمين.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير وسلم تسليمًا.

أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظموه حق تعظيمه، وأثنوا عليه بما هو أهله، وأحسنوا إلى جيرانكم، ولا تؤذوهم، واعلموا أن سلفكم قد ضربوا أروعَ الأمثلة في حسنِ الجوار, حتى أصبح هذا الوصفُ قريناً لأسمائهم, وضُرب بهم المثل في ذلك.

فهذا أبو بكر يحلب غنم جيرانه، حتى إذا ولي الخلافة وجاء ليحلبها منعوه من حلبها، استبقاء له عن المشقة، ثم إن الجيران إذا تزاوروا وتقاربوا، تعاطفوا وتواصلوا، وإذا تباعدوا تنافروا وتقاطعوا، على حد ما قيل:

وإن تدن مني تدن منك مودتي

وإن تنأ عني تلقني عنك نائيًا

كلانا غني عن أخيه حياته

ونحن إذا متنا أشـد تغانيا

وهذا أبو جهمٍ العدوي باع داره بمائة ألف درهم, ثم قال: "فبكم تشترون جوارَ سعيد بن العاص؟, قالوا: وهل يُشترى جوارٌ قط؟, قال: رُدُّوا عليَّ داري ثم خذوا مالكم, لا أدع جِوارَ رجلٍ إنْ قعدت سأل عنِّي, وإن رآني رحَّبَ بي, وإن غبتُ حفظني, وإنْ شهدْتُ قرَّبني, وإن سألتُه قضى حاجتي, وإنْ لم أسألْه بدأني, وإن نابتني جائحة فرَّج عني, فبلغ ذلك سعيداً فبعث إليه بمائة ألف درهم".

وكان للإمام عبد الله بن المبارك جارٌ يهودي أراد أن يبيعَ داره, فقيل له: بكم تبيع؟ قال بألفين, فقيل له: إنها لا تساوي إلا ألفاً, قال: صدقتم, ولكنْ ألفٌ للدار, وألفٌ لجوار عبد الله بن المبارك, فأُخبر ابنُ المبارك بذلك, فدعاهُ فأعطاه ثمن داره، وقال: لا تبعها.  وكان كعبُ بنُ أمامة يُضرب به المثلُ في حسنِ جواره, فيقال: جارٌ كجارِ أبي دؤاد, وكان أبو دؤاد -يعني كعباً- إن مات لجاره بعيرٌ أو شاةٌ أخلفها عليه, وإذا مات الجارُ أعطى أهلَه مقدارَ ديتِه من ماله.

ومن ظريف ما يُذكَر أن الإمامَ أبا حنيفةَ كان له جارٌ بالكوفة إسكاف, يعمل نهارَه أجمع, حتى إذا جنَّهُ الليلُ رجع إلى منزله وقد حمل لحماً فطبخه أو سمكة فيشويها, ثم لا يزال يشرب, حتى إذا دبَّ الشراب فيه وسكر غنى بصوت عال:

أضاعوني وأيُّ فتى أضاعوا

ليوم كريهةٍ وسدادِ ثغرِ

فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم, وكان أبو حنيفة يسمعُ صوتَه كلَّ ليلة وهو قائم يصلي الليل, ففقد أبو حنيفة صوته, فسأل عنه, فقيل له: أخذه العسس منذ ليال فحبسوه. فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غدٍ, وركب بغلته, واستأذن على الأمير, فقال الأمير: ائذنوا له, وأقْبِلُوا به راكباً, لا تدعوه ينزل عن بغلته, فلما دخل على الأمير وسَّع له في محله, وقال: ما حاجتك؟.  فقال: لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ليالٍ, يأمر الأمير بالإفراج عنه. فقال: نعم. فأمر بتخليته, فركب أبو حنيفة, والإسكافُ يمشي وراءه, فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه, وقال: يا فتى أضعناك؟ فقال: لا. بل حفظتَ ورعيتَ, جزاك الله عن حرمة الجوار ورعاية الحق, وتاب الرجلُ ولم يعد إلى ما كان عليه.

وقد كان أهل الجاهلية يفتخرون بإحسانهم إلى الجار، والتفاني في حماية الجار، وكفِّ الأذى عنه, قال عنتر بن شداد:

أغضُّ طرفي إن بدت لي جارتي

حتى يواري جارتي مأواها

وقال غيره:

وإن جارتي ألوت رياحُ ببيتِها

تغافلت حتى يستر البيت جانُبه

ويكون حسن الجوار يكون ببذل الندى، ويكون بتحمل الأذى, كما قيل:

عَف الإزار ينال جارة بيته

إرفادهُ ويجانب الأرْفَاثا

فهذا الشاعر يخبر عن كرم هذا الشخص، وحسن أخلاقه، من إحسانه وإحصانه، واحترامه لحرمة جاره، وأنه ينيل جارة بيته إرفاده أي كرمه ومعروفه.

فإذا كانت هذه أخلاق أهل الجاهلية, أفلا يحسن بالمسلم الذي أكرمه الله بالإسلام أن يكون متصفاً بها من باب أولى؟!.

إن إلحاق الأذى بالجار بأي نوع من الأنواع خلقٌ دنيءٌ لا يليق بمسلم يتخلق بأخلاق الإسلام أن يتصف به, كما أنه باب من أبواب الإثم, وسبيل إلى دعاء الناس على هذا المؤذي, وليس بخيرٍ ولا موعود بخير من دعا عليه الناسُ.

وكما أن حفظ الجوار من علامات كمال الإيمان, فإنَّ أذية الجار من منقصات الإيمان, فالواجب على العاقل الحذر منها, فقد روى  أبو هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره" [البخاري(6018)], حيث جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- كفَّ الأذى عن الجار دليلاً على كمال الإيمان.

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- يَشْكُو جَارَهُ فَقَالَ: "اذْهَبْ فَاصْبِرْ". فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا فَقَالَ: "اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ" فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ "ارْجِعْ لاَ تَرَى مِنِّى شَيْئًا تَكْرَهُهُ". [صحيح أبي داود (5153)]، فهل يريد ذلك المؤذي أن يدعو عليه جارُه حين يرى تفاقمَ ظلمه وعدوانه.

عباد الله: إن من أعظم حقوق الجار: كفُّ الأذى عنه سواء كان بالقول أو الفعل, قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب: 58]، والجار من عموم المؤمنين وله حقوق فوق مسألة الإيمان, وهو حق الجوار.

وقد حذَّر النبي من ذلك أشدّ التحذير فقال كما في حديث أبي شريح -رضي الله عنه-: "والله لا يؤمن, والله لا يؤمن, والله لا يؤمن". قيل: مَن يا رسولَ الله؟ قال: "الذي لا يأمن جارُه بوائقه" [البخاري(6016)], أي: الذي لا يأمن جاره ظلمه وغدره وخيانته وعدوانه, وهذا دليلٌ على تحريم العدوان على الجار بأي صورة كانت، وأنَّ ذلك من كبائر الذنوب, فليحذر المسلم أشدَّ الحذر أن يكون متصفاً بشيءٍ من هذه الأوصاف.

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر فنادى بصوت رفيع، فقال: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين, ولا تعيروهم, ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله" [الترمذي (2032) وصححه الألباني].

ويعظم المصاب إذا وقع الأذى على الجار في دار إقامته في مثل هذه البيوت المتلاصقة التي لا سبيل للانتقال عنها, فإذا كان هو في بيت إقامتِه وجارُه لا يكفّ عنه أذاه وأذى أبنائه فكيف السبيل إلى الخلاص؟ ومثل هذا استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- منه فقال: "اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة, فإن جار البادية يتحول" [صحيح الجامع (2967)], وما استعاذ النبي من جار السوء إلا لعظم ضرره, حيث إنه مطلعٌ على أسرار جاره, قريبٌ من الأحداث التي تمرُّ به, ولذلك فإنه يبلغ في أذاه ما لم يبلغه غيره.

وكان لأبي الأسود الدؤلي بالبصرة دار، وله جارٌ يتأذى منه في كل وقت, فباع داره, فقيل له: بعت دارَك؟, قال: "بل بعت جاري". فأرسلها مثلاً. وباع رجلٌ منزله بثمن رخيص فعُوتب على ذلك، فقال:

يلومونني إذ بعت بالرخص منزلي

وما علموا جاراً هناك ينغِّصُ

فقلت لهم كفوا الملامَ فإنهــا

بجيرانها تغلو الديار وترخـصُ

نعم؛ إنها بجيرانها تغلو الديار وترخص، فشر الجيران من يتتبع العثرات ويتطلع على العورات، إن رأى حسنة سترها، أو رأى سيئة نشرها، والقرآن والسنة يحثان على التوادد والتواصل بين الجيران، فبدل الناس قولاً غير الذي قيل لهم، فكانوا يتعاملون بالإساءة والقطيعة والهجران، فالرجل لا يسلم على جاره، والمرأة لا تسلم على جارتها، ولعل هذا التقاطع والهجران على إثر نزاع بين النساء والصبيان، ومن الجفاء وعدم الوفاء أن تهجر جارك من السلام، بسبب أمر ليس له شان، وقد قال -عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام-: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" [البخاري (6077) ومسلم (2560)]. وجاره أخوه في الإسلام وأوصى الشرع به.

وإن من حق الجار على الجار إذا لقيه أن يسلم عليه، وإذا دعاه إلى طعام أجاب دعوته، ويعوده إذا مرض، ويقضي حاجته من السوق إذا لم يستطع قضاءها, كشيخ كبير، وكامرأة أرملة، ونحوها ليكتسب بذلك الثناء الجميل، والأجر الجزيل.

فليتق اللهَ المسلمُ بكف أذاه عن جيرانه, وليأخذ على يد زوجته وأبنائه, وليكن كفُّ الأذى قولاً وفعلاً, ولا يستغلُّ حياءَ بعض جيرانه أو ضعفهم, وليحذر أنْ يسلِّط اللهُ عليه من لا يرحمُه, جزاءً وفاقاً بعمله السيئ.

عباد الله: إن الواجب على المسلم كفَّ أذاه عن جاره فلا يؤذيه بقوله أو فعله, كاطّلاعه على محارمه, أو إفشاء أسراره, أو تتبع عوراته, أو أنه لا يكف أبناءه عن أذية جاره, كمن يرى تعدي أولاده على بيت جاره بالأذى ولا يأخذ بأيديهم, فإنَّ هذا من سوء الجوار المخالف للآداب الإسلامية والأخلاقِ الممدوحة.

فاحرصوا -أيها الإخوة- على حسن الجوار واعلموا حسن الجوار في الدنيا يفضي لجوار محمد -عليه الصلاة والسلام- والأنبياء، وأن سوء الجوار يفضي إلى جوار أهل النار كفرعون وهامان وغيرهما وحمالة الحطب.

نسأل الله أن يجعلنا من المحسنين إلى جيراننا وأهلينا، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر يا رب العالمين.

اللهم ألف بين قلوب المسلمين ووحد صفوفهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، وانصرهم على أعدائهم، اللهم انصر من نصر دينك، واخذل من خذله، ووفق من أراد بالإسلام والمسلمين خيرًا.