الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - كتاب الجهاد |
والنفوس لا تنتصر في المعارك الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية، وتُؤْثر طاعة ربها على كل ما سواه. والذين تولوا يوم التقى الجمعان في أُحد إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب، والذين انتصروا في معارك العقيدة مع الأنبياء هم الذين بدؤوا المعركة بالدعاء والاستغفار من الذنوب، وصدق اللجوء إلى الله وطاعته فتلك عُدَّة النصر...
الخطبة الأولى:
(الحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ) نحمده حمدًا كثيرًا، ونشكره شكرًا مزيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, لا يقضي للمؤمنين قضاء إلا كان خيرًا لهم؛ فإن أصابتهم سراء شكروا فكان خيرًا لهم، وإن أصابتهم ضراء صبروا فكان خيرًا لهم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, كان عظيم اليقين بالله تعالى، شديد الرجاء له -سبحانه-، كثير التفكر في خلقه -عز وجل-، دائم التعلق به -تبارك وتعالى-؛ فشرح صدره، ووضع وزره، ورفع ذكره، صلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعبدوه في الرخاء، واشكروه على النعماء، واصبروا على الضراء، واعلموا أنه -سبحانه- حكيم في قدره وقضائه، لطيف بعباده، عليم بأحوالهم، خبير بمصالحهم، لا يخفى عليه شيء من أمرهم، فسلموا لله أمركم وقوموا بما عليكم.
أيها الإخوة: إن الأمة الإسلامية اليوم تتطلع إلى نصر عاجل يرفع عنها هذا الذل والهوان الذي تسربلت به، وينقلها من دركات المهانة والإذلال إلى درجات العزة والرفعة والسمو, نصرًا يعيد لها مجدها السابق، وحماها المستباح, ولا شك أن الناصر هو الله تعالى وحده, فهذه عقيدة الموحدين التي لا يساومون عليها, ولا يشكون فيها, عقيدة ثابتة مغروسة في النفوس.
إن وصول الأمة في هذا الزمن إلى التمكين ليس بالأمر السهل، ولكنه كذلك ليس بالمستحيل إذ على الرغم من التضييق الشديد والحرب الضروس التي تشن على الإسلام، إلا أن الكثير يرون أن التمكين لدين اللـه قاب قوسين أو أدنى، ومهما رأى الأعداء أن التمكين للإسلام بعيد يشبه المستحيل؛ فإن المسلم واثق بوعد اللـه أن الأرض يرثها عباده الصالحون.
في هذا الكون إله واحد لا شريك له وهو الله وحده, وفيه قوة واحدة هي قوة الله وحده, وفيه قيمة واحدة للإنسان هي قيمة الإيمان بالله, فمن كان الله وحده إلهه ومعبوده فهو أسعد الناس في الدنيا والآخرة، ومن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه ولو كان مجردًا من كل مظاهر القوة، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع قوى الكون كله.
وقد جعل الله -سبحانه- انتصار الحق سُنة كونية كخلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، سنة لا تتخلف، قد تبطئ لحكمة يعلمها الله، وقد تأتي في موعدها حسب سنة الله.
عباد الله: إنه لا بدَّ للبشر من معرفة حقيقة القوى في هذا الوجود، ليعرف الناس أين يتوجهون؟ وعلى من يتوكلون؟ ومن يعبدون؟ فلا تخدعهم قوة الحكم والسلطان، ويحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض، فيتوجهون إليها، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها، ولا تخدعهم قوة المال، فيحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس، وأقدار الحياة، فيسعون للحصول عليها، ليستطيلوا بها، ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون، ولا تخدعهم قوة العلم الإنساني، فيحسبونها أصل القوة، وأصل سائر القوى التي يصول ويجول بها من يملكها، فلا تخدعهم هذه القوى الظاهرة، سواء كانت في أيدي الأفراد أو الجماعات أو الدول، فيدورون حولها ويتهافتون عليها كما يتهافت الفراش على النار.
أيها الإخوة: إن المؤمن لا بدَّ أن يعلم أن القوة الوحيدة التي تتولد منها سائر القوى الصغيرة والكبيرة، وتملكها وتوجهها، وتسخرها حيثما تريد كما تريد، إنما هي قوة الله وحده: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [هود: 66]، ولا بدَّ كذلك أن يتيقن المؤمن أن الالتجاء إلى تلك القوى مهما كانت كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت.
وليس هناك إلا حماية الله، وركنه القوي، فهو -سبحانه- القوي، وكل قوة في العالم من قوته, وبهذه الحقيقة الإيمانية العظمى، والتي رسخت في قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- كانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها، وداست بها على كبرياء الجبابرة والطغاة في الأرض، ودكت بها المعاقل والحصون.
عباد الله: لقد استقرت هذه الحقيقة في كل نفس، وعمرت كل قلب مؤمن، قوة الله وحدها هي القوة، وولاية الله وحدها هي الولاية، وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل مهما علا واستطال، ومهما تجبر وطغى، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل والإرهاب، إنها أضعف من العنكبوت وبيتها الواهن: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 41].
وإن المؤمنين عامة، والعلماء والدعاة والمجاهدين خاصة، الذين يتعرضون في كل وقت للفتنة والأذى، وللإغراء والإغواء، لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة، ولا ينسوها لحظة وهم يواجهون القوى المختلفة من بين أيديهم ومن خلفهم (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة: 165].
والمؤمن دائمًا يسأل ربه ألا يجعله فتنة للكفار، ويسأله مغفرة ذنوبه كما قال خليل الرحمن: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الممتحنة: 5]، أي لا تسلط الكفار علينا فيكون في ذلك فتنة لهم, إذ يقولون لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم، وفتنة لنا بتسلطهم علينا، وهي شبهة كثيرًا ما تحيك في الصدور حين يتمكن الباطل من الحق، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان لحكمة يعلمها الله في فترة من الفترات.
عباد الله: إن الله -سبحانه- يطمئن رسله وأولياءه أنه -سبحانه- سيتولى حرب هؤلاء الكفار، ويحذر أعداءه ويصفهم بأنهم كالهباءة المنثورة التي لا تعني شيئًا أمام جبروت الجبار العظيم القهار قائلاً: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم: 44، 45]، وإذا كان هذا حالهم وهم في مكة قلة مستضعفون، فقد قال لهم ذلك وهم منتصرون في بدر: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 17]، وقال بعد أن أمدهم بالملائكة في بدر: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران: 126].
وذلك كله ليقرّ في قلوب المؤمنين هذه الحقيقة، حقيقة أن المعركة معركته -سبحانه-، وأنه حين يجعل للمؤمنين فيها دورًا، فإنما ذلك ليبليهم منه بلاء حسنًا، وليكتب لهم بهذا البلاء أجرًا؛ أما حقيقة الحرب فهو -سبحانه- الذي يتولاها، وأما حقيقة النصر فهو الذي يكتبه، وهذه حقيقة تسكب الطمأنينة في قلب المؤمن في حالتي قوته وضعفه على السواء، ما دام يخلص قلبه لله، ويتوكل في جهاده على الله، فقوته ليست هي التي تنصره في معركة الإيمان والكفر، والحق والباطل، إنما هو الله الذي يكفل له النصر بعد قيام العبد بأسبابه التي أمره الله بها.
عباد الله: أما متى يكون النصر؟, ومتى تتوفر أسبابه؟, فذلك في علم الله المكنون، فعلينا الدعاء، وعلى الله الإجابة, وعلينا الجهاد، وعلى الله النصر, وعلينا العمل، وعلى الله الأجر, وعلينا الدعوة، وعلى الله الهداية، وأمام هذه الحقيقة يوجهنا الله إلى الصبر والتقوى، الصبر على الدعوة، والصبر على الجهاد، والصبر على أوامر الله، والصبر على أقدار الله، والصبر عن معاصي الله، والصبر على شهوات النفوس، والصبر على الأذى والتكذيب, والصبر على السخرية والاستهزاء. الصبر في هذا كله حتى يحكم الله في الوقت المقدر كما يريد، فيحصل للمؤمنين الفوز والفلاح: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
وقد وعد الله المؤمنين إذا نصروا الله بالقيام بدينه والدعوة إليه وجهاد أعدائه أن ينصرهم على عدوهم ويثبت أقدامهم كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 7 - 9].
فعلى المؤمنين بالله أن يقوموا بنصرة دينه، وإعلاء كلمته، والدعوة إليه، وجهاد من عانده ونابذه بالأنفس والأموال, كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [الصف: 14]. فكونوا أنصار الله، ودعاة دينه، ينصركم على عدوكم كما نصر من قبلكم، ويظهركم على عدوكم كما أظهر من كان قبلكم.
معاشر المسلمين: إن جميع الأنبياء دعوا أممهم إلى ثلاثة أشياء: التوحيد, والإخلاص, والنصيحة، وضحوا بكل ما يملكون من أجل الدين تضحية كاملة، فالاستقامة الكاملة والتضحية الكاملة معها نصرة كاملة من الله، وذلك خاص بالأنبياء وأتباعهم من المؤمنين، وهي سُنّة جارية لا تتبدل.
فنصرة الله دائمًا إلى يوم القيامة لأهل الإيمان والتقوى، سواء كان نبيًّا أو خليفة أو من سائر الناس، فردًا أو جماعة أو أمة، وبعد بذل كل شيء، وكمال الاستقامة، وكمال التضحية، الله يفصل بأمرين: نصر أوليائه المؤمنين, وخذلان أعدائه الكافرين.
فنوح -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لله، ونصحهم بطاعة الله ورسوله، فلما لم يستجيبوا ولم يؤمنوا جاء أمر الله بنجاة المؤمنين، وإهلاك الكافرين كما قال -سبحانه-: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود: 40].
وهود -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه عادًا كذلك، ولما لم يستجيبوا له جاء أمر الله بإهلاكهم كما قال -سبحانه-: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) [هود: 58 - 60].
وصالح -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه إلى الله، ولما لم يستجيبوا له أهلكهم الله, كما قال -سبحانه-: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [هود: 66، 67].
وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه إلى الله فأبوا وأشعلوا له النار لإحراقه فأنجاه الله من النار، وجعلها بردًا وسلامًا عليه كما قال -سبحانه-: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 68 - 71].
ولوط -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه إلى الله، ولما لم يستجيبوا رفع الله ديارهم إلى السماء وقلبها عليهم كما قال -سبحانه-: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود: 82، 83].
وشعيب -صلى الله عليه وسلم- قال لقومه: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) [هود: 84]، ولما لم يستجيبوا له وسخروا منه نزل بهم أمر الله, كما قال -سبحانه-: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) [هود: 94، 95].
وموسى -صلى الله عليه وسلم- دعا فرعون وملأه إلى الله، ولما لم يستجب أغرقه الله وقومه في البحر, قال -سبحانه-: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) [الشعراء: 61 - 66].
وعيسى -صلى الله عليه وسلم- دعا بني إسرائيل إلى الله والاستقامة على الدين، فلما لم يستجيبوا له أظهر الله من آمن به على من خالفه, قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [الصف: 14].
ومحمد -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه قريشًا إلى الله فلم يؤمن منهم إلا القليل، ولما أعرضوا عنه وسبوه، ثم آذوه وأرادوا قتله حفظه الله وهاجر إلى المدينة فأعز الله دينه ورسوله والمؤمنين، ثم أظهره الله على جميع أعدائه ودخل مكة فاتحًا معه المهاجرون والأنصار، وحينها دخل الناس في دين الله أفواجًا كما قال -سبحانه-: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابً) [النصر: 1 - 3].
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينصر من نصر دينه، وأن يخذل من خذل دينه، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين, أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
عباد الله: لما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وانشغل الناس بموته، ومن يكون خليفة بعده، انخفض جهد الدعوة فنقص الدين، وحصلت في الإسلام خمس مصائب: اشرأب النفاق, ومنع قوم الزكاة, وترك قوم الصلاة, وارتد كثير من قبائل العرب, واجتمع الأعداء لغزو المدينة.
ونزل بأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، ولكن لكمال إيمانه ويقينه على ربه وكمال تضحيته ثبته الله، فوقف لهذه الفتن العظام موقف المؤمن الواثق من نصر الله، فأمر الخليفة أبو بكر -رضي الله عنه- بإنفاذ جيش أسامة -رضي الله عنه-، على الرغم من مخالفته الأحوال الظاهرة، وأمر جميع الصحابة -رضي الله عنهم- أن يخرجوا لحرب المرتدين ومانعي الزكاة، وإقناعهم بالرجوع إلى دينهم، فخرجوا جميعًا ولم يبق في المدينة إلا الأطفال، والنساء، وأمهات المؤمنين.
إن حراسة أمهات المؤمنين مهمة، لكن حفظ الدين من النقصان أهم وأعظم، وشرح الله صدر أبي بكر -رضي الله عنه- لجهاد المرتدين فعقد الألوية، وجهز الجيوش إلى كل ناحية، وخرج الصحابة لإكمال ما نقص من الدين بسبب الردة، وبعد ثلاثة أشهر تم القضاء على هذه الفتن، ورجع الناس إلى الدين عابدين لله، ممتثلين لأوامره، مجاهدين في سبيل الله، وبعد توبتهم ورجوعهم إلى حظيرة الإسلام جاءت في نفوسهم الرغبة في الجهاد في سبيل الله؛ تكفيرًا لما سلف منهم من المعاصي، فأرسلهم أبو بكر فورًا لفتح العراق والشام، فسارعوا لامتثال أمره، وكانت في صحائفهم مع بقية الصحابة جميع فتوحات العراق والشام وخراسان والسند وغيرها من بلاد ما وراء النهر.
فبسبب تضحية أبي بكر -رضي الله عنه- وكمال إيمانه أكمل الله به ما نقص من الدين، ورد به المرتدين إلى المؤمنين، وجعلهم من المجاهدين في سبيل الله. وهكذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لكمال إيمانه وتقواه، وكمال تضحيته فتح الله به الفتوح، ومَصَّر الأمصار، وجعله سببًا للهداية وإقامة العدل.
وهكذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- بسبب استقامته، وصدق تضحيته، ورغبته في أن يطاع الله، أصلح الله به أحوال الأمة، فعم الأمن في البلاد، واستقام الناس، واستغنى الفقراء والأغنياء، وامتلأت الخزائن بالأموال من صدقة وزكاة حتى لم يجد من يأخذها، بل أصلح الله به ما بين السباع والبهائم، وتمت النصرة الكاملة مع التضحية الكاملة مع أن حكمه كان سنتين تقريبًا، فلما مات تغيرت أحوال الأمة، وكل رجل ذو همة يحيي الله به أمة.
والإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- ضحى بنفسه من أجل الدين، وإحياء السنة، فحفظه الله، ونشر به السنة، وقمع البدعة. وهكذا الغلام الذي تعلم الإيمان على يد الراهب، ثم ضحى بنفسه من أجل الدين تضحية كاملة، فجعله الله سببًا لهداية الناس، وترك دين الملك الضال، وبكمال تضحية من آمن به وأطاعه أزال الله الباطل وأحق الله به الحق.
وحتى تحصل الأمة على النصرة والعزة لا بدَّ من التضحية الكاملة لتحصل النصرة للأمة، والهداية للبشرية, ونصرة الله تكون لمن نصر الله كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].
عباد الله: ويكون نصر المؤمنين لربهم بأمرين:
الأول: أن تتجرد نفوسهم لله وحده، فلا تشرك به شيئًا ظاهرًا أو خفيًا، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى، وأن تحكمه في رغباتها وشهواتها، وحركاتها وسكناتها، وسرها وعلانيتها فهذا نصر الله في ذوات النفوس.
الثاني: أن لله -عزَّ وجلَّ- شريعة ومنهاجًا للحياة، ونصر الله يتحقق بنصر شريعته ومنهاجه، وتحكيم أمره في كل شيء، فهذا نصر الله في واقع الحياة.
وغزوة أحد -على سبيل المثال- لم تكن معركة في الميدان وحده، وإنما كانت كذلك معركة في ميدان النفس البشرية، والمعارك الحربية في الإسلام ليست معركة أسلحة وخيل ورجال فحسب، فتلك معركة جزئية، إنما المعركة الكبرى في عالم القلب، عالم الإيمان، عالم السلوك، عالم الأخلاق، لتتعلق القلوب والنفوس بالله وحده، وتتلقى منه ومن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتُؤْثر طاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وما يحبه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- على كل شيء مهما كان.
والنفوس لا تنتصر في المعارك الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية، وتُؤْثر طاعة ربها على كل ما سواه. والذين تولوا يوم التقى الجمعان في أُحد إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب، والذين انتصروا في معارك العقيدة مع الأنبياء هم الذين بدؤوا المعركة بالدعاء والاستغفار من الذنوب، وصدق اللجوء إلى الله وطاعته فتلك عُدَّة النصر.
وقدر الله وراء أفعال البشر، ففي غزوة أحد نصر الله المؤمنين في البداية، وما أن ضعف المسلمون وتنازعوا وعصوا وانصرفوا لجمع الغنائم إلا وصرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين، وصرف الرماة عن ثغرة الجبل، وصرف المقاتلين عن الميدان فلاذوا بالفرار، ووقع كل هذا مرتبًا على ما صدر منهم, كما قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152]، وما حدث لهم مدبَّر من الله ليبتليهم لتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف, ولقد عفا الله عن المؤمنين لضعفهم وعدم إصرارهم على الخطيئة، وحسن نيتهم، وثباتهم على دينهم، والله ذو فضل على المؤمنين.
والصحابة -رضي الله عنهم- وإن كانوا خير أمة أخرجت للناس إلا أنهم بَشَر فيهم الضعف والنقص، ولذلك حصل منهم ما حصل في أُحد؛ لأنهم في دور التربية والتكوين، وفي أوائل الطريق، ولكنهم جادون في أخذ هذا الأمر، مسلمون أمرهم لله مولاهم، ومن ثم رحمهم الله وعفا عنهم ولم يطردهم, وأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يعفو عنهم ويستغفر لهم، ويشاورهم في الأمر؛ تربية لهم.
فعاد إليهم الإيمان في اليوم الثاني، وخرجوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حمراء الأسد متعقبين كفار مكة فزادهم إيمانًا كما قال -سبحانه-: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 172- 174].
إن الله -عزَّ وجلَّ- في مواطن التربية والابتلاء لا يعد المؤمنين بالنصر في الدنيا, ولا يعدهم بقهر الأعداء, ولا يعدهم بالتمكين في الأرض، ولا يعدهم بشيء من الأشياء في هذه الحياة، إنما يعدهم شيئًا واحدًا هو الجنة, كما قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) [التوبة: 111]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" [مسلم(1901)]، وهذا هو الأصل في الدعوة، التجرد المطلق من كل هدف، ومن كل غاية، ومن كل مطمع، فهذه العقيدة عطاء ووفاء وأداء فقط، وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض.
ثم يقع النصر والتمكين والعزة والغنائم، ولكن كل هذا ليس داخلاً في البيعة، فليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا، ليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء والابتلاء، وعلى هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة، وعلى هذا كان البيع والشراء، وعلى هذا يسير الدعاة إلى الله إلى يوم القيامة.
وفي حنين مع كثرتهم هزمهم الله وسلط عليهم الأعداء؛ لأن قلوب بعضهم متوجهة إلى الأسباب حين أُعجبوا بكثرتهم, (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة: 25]، ثم جاء الاتباع، ثم جاء النصر كاملاً، كما قال -سبحانه-: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ) [التوبة: 26].
أيها الإخوة: والنصر له أسباب, والهزيمة لها أسباب, والعزة لها أسباب, والذلة لها أسباب, والنجاة لها أسباب, والهلاك له أسباب؛ فالنصر الكامل, والعزة الكاملة, والنجاة الكاملة, تكون بالإيمان الكامل, والاتباع الكامل, والتضحية الكاملة كما قال -سبحانه-: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 40، 41]، ومدار ذلك كله على الصبر واليقين.
نسأل الله أن ينصرنا على أنفسنا وأعدائنا، ونسأله -سبحانه- أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يعلي دينه وشريعته وسنة نبيه، اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين.