العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن شياطين الإنس والجن مشمرون في الترويج للضلال وزخرفته، وإلباسه بحلل قشيبة، والترويج له بطرق مقبولة، ووضعه في قوالب من الأقوال مزخرفة، وألفاظ من القول خادعة، وصور وأشكال من الأفعال مقبولة، فَضَلّ بسبب ذلك كثير من الناس، وأصبح العاقل منهم من وقف حائراً، لا يدري أين وجهة الحق فيما يسمع ويرى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتقين، ونبراسا منيراً للمهتدين، فكان شفاء لما في الصدور، ومصلحاً لجميع الأمور.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المصطفى على جميع النبيين -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه- ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: يقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه العظيم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام : 112].
إن هذه الآية الكريمة يخاطب الله فيها رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيقول مسلياً له، وآخذاً بخاطره بعد أن بالغ المشركون في أذيته، وارتفعت حدة مواجهته، وناصبوه كل أنواع العداء، يارسول الله: إن لكل نبي من الأنبياء أعداء يناصبونه العداء، ويكيدون له بشتى أنواع المكر والكيد، ومثلما أن قومك قد عادوك وآذوك، فلتعلم أن هذه سنة ربانية لكل رسول ونبي.
إن لكل نبي أعداء يردون دعوته، ويحاربون منهجه، ويحسدونه على ما جاء به، ويعادون قومه ويحاربون من آمن معه، فلا تهتم بهم ولا تقلق منهم، ولا تبالي بهم، فإنها سنتنا التي لن تتغير، وقاعدتنا التي لن تتبدل، والتي سرت مع كل الأنبياء والرسل.
هذه حقيقة يجب أن يفهمها كل مصلح وكل داعية إلى الحق، وكل مسلم يبلغ رسالة ربه، ويدعو الناس إلى دين الله ومنهجه، ويسعى إلى تغيير المنكر وإزالة الباطل.
يجب أن يفهم أن العداء سينصب له، وهناك أعداء سيقفون ضده، ويقاومون دعوته، ويقفون في وجهه، ويوصدون أبواب الخير التي يفتحها. فلا يظن المصلحون أن الطريق ممهد، ولا يحسبون أن الأبواب مشرعة مفتوحة لا أشواك حولها؛ وإنما هي طريق وعرة، ومسلك محفوف بالمكاره والشدائد والمصاعب.
يقول سَعْد بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه-: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً؟ قَالَ: "النَّبِيُّونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، إِنْ كَانَ صُلْبَ الدِّينِ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَدَعَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ" [المستدرك للحاكم (121)].
بل يجب أن نعلم أن هؤلاء المعادين لدين الله، المحاربين لأولياء الله، الناصبين لأهل الحق العداء، ليس في قلوبهم عداء عابر، أو حرب باردة، أو مكر بسيط على المسلمين؛ وإنما هم أعداء ألداء، وخصوم أشداء، ومحاربون دهماء، بلغوا حد الإجرام، ووصلوا القمة في الأذية والأذى، وتعدوا كل الحدود والخطوط الحمراء وغير الحمراء, حتى وصفهم الله من قوة عنادهم، وشدة حربهم على أهل الإسلام بأنهم "شياطين" بلغوا حد الشيطنة والعتو في الحرب والكيد والمكر (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) [الأنعام : 112].
ومع قوة عدائهم، وشدة مكرهم، وعظيم إجرامهم، وكثرة حقدهم وحسدهم على المسلمين فإنهم في نفس الوقت فهم كُثر وليسوا قلة، وأعدادهم كبيرة وليست قليلة، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله -سبحانه وتعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) فهم شياطين، وفي نفس الوقت شياطين من الثقلين الإنس والجن، وليسوا من الجن فقط الذين يوسوسون في صدور الناس، وإنما هم من الجن والإنس (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [الناس 4: 6].
أيها المسلمون: لقد ذكر الله -جل جلاله- أساليبهم الشيطانية في حربهم على المسلمين، وبيّن طريقتهم في محاربتهم، والقضاء عليهم وعلى دينهم ومنهجهم، فقال: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) أي: يزين بعضهم لبعض الأمر الذي يريدون أن يدعوا إليه من أمور الباطل، فيزخرفون له العبارات، ويختارون له أجمل الكلمات، ويعبرون عنه -مع أنه باطل- بأعذب الأساليب وأحسن الألفاظ والتعبيرات، حتى يجعلوه في أحسن صورة، ويقدموه في أفضل الأشكال وأحسن الوجوه، لكي يغتر به السفهاء، وينقاد له الأغبياء، ويصدقه الدهماء الذين لا يفهمون الحقائق، ولا يفقهون المعاني، ولا يميزون بين الحق والباطل، فيسحرونهم بالألفاظ المزخرفة، ويجذبون عقولهم بالعبارات المموهة، ويلبسون عليهم بالعبارات المنمقة، التي تجعلهم يعتقدون الحق باطلاً والباطل حقاً.
إنه مكر الشياطين ووسائل المحاربين والمعاندين يقدمون الباطل في صورة حسناء، ويأتون بالشر على طبق من ذهب، ويزينون المنكر حتى يظهر في صورة المعروف، ويفعلون كل الأساليب؛ لتحسين القبيح وتقبيح الحسن، ويستخدمون كل أنواع الدعايات في تجميل الشر وإظهاره بصورة جميلة وشكل حسن، ويختارون للشر والباطل الأسماء المنمقة، التي تجعل الناس يتقبلونه ولا يأنفون منه، فيردونه وبالتالي لا يتأثرون به.
إنهم يعرفون من أين تؤكل الكتف؟ وكيف يلبّسون على الناس دينهم؟ وكيف يقدمون الباطل لهم؛ فيتقبلونه على أنه خير وليس شر، وحق وليس باطل.
إنهم السَّحَرة الجدد، سحرة الصور المتحركة، والبث المباشر، والإعلام الحي، والحركات الخفية، والأنباء السريعة، والأساليب الدبلوماسية في تزييف الحقائق ودبلجة الأكاذيب، وتنميقها وعرضها على الناس بأساليب جذابة، وبطرق خلابة؛ لتؤثر على توجهات الشخص، وتغير قناعاته، وتساهم في تغيير أفكاره وحرف أصوله وعقائده.
إن شياطين الإنس والجن مشمرون في الترويج للضلال وزخرفته، وإلباسه بحلل قشيبة، والترويج له بطرق مقبولة، ووضعه في قوالب من الأقوال مزخرفة، وألفاظ من القول خادعة، وصور وأشكال من الأفعال مقبولة، فَضَلّ بسبب ذلك كثير من الناس، وأصبح العاقل منهم من وقف حائراً، لا يدري أين وجهة الحق فيما يسمع ويرى من كثرة التناقضات، وكثرة الشبهات المطروحة على النفوس، والمؤثرة على القلوب.
وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "سَيَأْتِي على الناس سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فيها الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فيها الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فيها الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فيها الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فيها الرُّوَيْبِضَةُ". قِيلَ: وما الرُّوَيْبِضَةُ؟ قال: "الرَّجُلُ التَّافِهُ في أَمْرِ الْعَامَّةِ" [ابن ماجة(4036)]. يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت: 26].
إن الكفار يقول بعضهم لبعض: أعرضوا عن سماع هذا القرآن وإياكم أن تلتفتوا إليه أو تصغوا له أو تقتربوا ممن يتلوه، فإن وقع لكم ذلك بغير اختيار، أو وقعتم في موقف لم يكن لكم فيه عذر من سماعه فعليكم أن تلغوا فيه، أي تتكلموا بالكلام الباطل الذي يناقض معانيه، ويخالف آياته، ولا تمكنوا من يتلوه عليكم من التأثير عليكم به، وابذلوا أقصى جهدكم لعدم الالتفات إليه، هذا هو أسلوبهم الخبيث في المعارضة والصد عن سماع الحق والاهتداء به.
فإن فعلتم ذلك فإنكم ستغلبونهم، ومفهوم كلامهم، أنهم إن لم يلغوا فيه، بل استمعوا إليه، وألقوا أذهانهم إليه, فإن الحق سيغلبهم ويؤثر فيهم، ويصل إلى قلوبهم، ولهذا يفعلون هذا كله حتى لا يصل الحق إلى أنفسهم الضالة المضلة.
وذكر الله أن من ايحاءاتهم الشيطانية أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويفسرون الكلام بغير تفسيره الصحيح، ويغيرون معانيه؛ لكي توافق أهوائهم وشهواتهم، فقال: (وَمِنَ الَذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَاًتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) [المائدة: 41].
وبيّن في آيات أخرى أنهم يلبسون الحق بالباطل ويخلطونه به؛ حتى يشتبه الأمر على الناس، فلا يستطيعون التمييز بين الحق والباطل، من شدة التدليس والتخليط الذي قاموا به في خلط هذا بهذا، ولهذا قال الله -جل شأنه-: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : 42] وقال: (يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران: 71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله- القائل-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام : 112].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك المولى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المختار من الخليقة المجتبى، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأخيار النجباء.
أما بعد:
أيها الناس: إن أعداء الإسلام في كل زمان ومكان يوجد بينهم اتصال خفي، ووحي شيطاني، وإيحاء سري، ويَتبع جميعهم خطوات موحدة في كيفية زخرفة الباطل وتزييف الحقائق، وعرض الشر في لباس الخير؛ لأن الذي يوحي إليهم كلهم في ذلك هو مصدر واحد وهو إبليس-لعنه الله-, فكانت أساليبهم في حرب الإسلام وتشويه الدين تكاد أن تكون واحدة أو متشابهة؛ لأنها من وحي الشيطان وصنعه.
كما أن هناك إيحاء متبادل واتصالات متواصلة بين شياطين الجن وشياطين الإنس، ولهذا قال- الله-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا).
إنهم أهل دهاء ومكر في عرض الشر، وعندهم من الأساليب والفصاحة، وقوة التأثير وتنوع الحجج، وجمال الأسلوب ما يمكنهم من استمالة القلوب، واغراء النفوس، وصرف العقول.
فالثبات الثبات على الدين والتمسك به، والعض عليه بالنواجذ، فإن تضليل شياطين الإنس والجن للناس بأقوالهم المزخرفة المضللة لا ينطلي إلا على من ضعف دينه، وخف إيمانه بالله واليوم الآخر، وإلا فإن المؤمن بربه الذي يصدر عن كتابه، ويستقي من سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والمؤمن بلقاء الله وحسابه لا يصغي لهذا المكر، ولا ينطلي عليه هذا الكيد والتنميق، ولا يرضاه ولا يقبل به؛ لأنه يعلم علم اليقين أن هذا كله من وحي الشياطين وكذبهم وخداعهم، وتشويههم للحقائق التي يجيدون تحريفها، ويحسنون تصويرها بصورة تغري النفوس وتتقبلها العقول.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أ-يها المؤمنون- من جنه وإنسه، فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم اجعلنا ممن يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، وثبت قلوبناعلى الحق يا رب العالمين.
اللهم عليك بأعداء المسلمين أجمعين، اللهم رد كيدهم إلى نحورهم، واجعلهم في حيرة من أمرهم، واجعل تدبيرهم تدميراً لهم يارب العالمين.