القوي
كلمة (قوي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن هؤلاء المتعجلين نظرهم قصير، وعقولهم صغيرة، وتفكيرهم ساذج، وآمانيهم بسيطة، وآمالهم لا تتعدى ما تحتهم، ولهذا يتعجلون الحصول على شهوات الدنيا ولذائذها، ويخشون أن تفوتهم فرصتها، فيتنافسون فيها، ويتهالكون ويتقاتلون عليها، وهي عاجلة سرعان ما تمر وتنتهي وتزول بكل ما فيها من نعيم وهمي ولذائذ زائلة....
الخطبة الأولى:
الحمد لله الرحيم الرحمن، ذو الفضل والإحسان، أحمده ربي وأشكره على نعمه التي لا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله المجتبى، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأتقياء.
أما بعد:
عباد الله: يقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه العظيم: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء 18: 20].
إن هذه الآيات العظيمة تخاطب الأمة وتبين لهم صفات نموذجين من الناس: نموذج يريد العاجلة وهي الدنيا ويسعى لها، ويلهث خلفها، ويتجه بقلبه وقالبه نحوها، فهؤلاء يعجل الله لهم طيباتهم فيها، ويعطي بعضهم من خزائنها، ولكن لا يحصل هذا لهم كلهم وإنما لبعضهم، فليسوا جميعاً يتحصلون على ملذات الدنيا وشهواتها وإنما بعضهم فقط، لمن أراد الله -جل وعلا- منهم أن يعطيه منها، ولهذا قال: (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ).
ففي الدنيا لا يحصل أصحاب هذا الفريق على كل امتيازاتها وإنما يحصل عليها بعضهم، ولكنهم جميعاً -والعياذ بالله- يحصلون على عذاب الآخرة؛ فيصلون النار ويدخلونها مذمومين مدحورين، (ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا).
وأما أصحاب النموذج الثاني فهم من سعى نحو الآخرة وطلبها واتجه إليها يطلب رضوان الله ورحمته وغفرانه، فهؤلاء يحصلون على النعيم المقيم، ويشكر الله -سبحانه وتعالى- لهم سعيهم، ويجازيهم بعظيم الجزاء على صالح أعمالهم.
والعجيب -وهذا هو موضوع خطبتنا- أن الله يمد كلا الفريقين من عطائه ونعمه، فعطاؤه لا يقتصر على مريدي الآخرة دون مريدي الدنيا، وإنما يحصل الجميع على نعمه وعطاياه، فيرزقون معاً، وينعمون معاً بمختلف النعم، ثم يختلف بهم المقام يوم الحساب على هذه العطايا والنعم، ففريقٌ مريدو العاجلة إلى جهنم مصدرهم، وفريقٌ مريدو الآخرة إلى الجنة مآبهم.
يقول الحسن البصري -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ): قال: "كلا نرزق في الدنيا البر والفاجر" [الدر المنثور (5/ 255- 256.)]. ويقول الضحاك -رحمه الله- في قوله -سبحانه-: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ): "أي: "إن الله قسم الدنيا بين البر والفاجر، والآخرة خصوصا عند ربك للمتقين" [الدر المنثور (5/ 255- 256)].
أيها الناس: إن عطاء الله -سبحانه وتعالى- الدنيوي ليس محظوراً على الكافرين أو ممنوعاً عنهم بل هو شامل للجميع، وعام على المؤمنين والكافرين، بل ربما يعطي الله -سبحانه وتعالى- الكفار من الدنيا أكثر مما يعطي المؤمنين منها استدراجاً لهم، ومكراً بهم، وما هو في الحقيقة إلا شر ظاهره الخير والرحمة، وباطنه العذاب والشقاء بذلك العطاء، كما قال الله -تبارك وتعالى-: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [آل عمران : 178].
إن المتقين حددوا اتجاههم واختاروا مرادهم، وهو غنى الآخرة، فما يبالى أحدهم أوتي حظاً من الدنيا أو لم يؤت، فإن أوتي منها شكر، وإن لم يؤت منها صبر، وربما كان الفقر خيراً له، وأعون له على مراده.
وأما أصحاب العاجلة ومؤثرو الدنيا فإن أمنياتهم في الدنيا كثيرة وأحلامهم عريضة، ولكنهم لا يحصل لهم كل ما يريدون، ولا يتحقق لهم جميع ما يشتهون، وإنما يتحقق لبعضهم بعض ما يتمنون، فمن شاء الله له منهم أن يعطى أعطي، وأما الآخرون منهم فإنهم -أعاذنا الله وإياكم- قد حرموا، فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ " [ابن ماجة (4105)].
أيها المسلمون: إن هذه الآيات الكريمات تعلمنا أن أصحاب الاتجاه الأول -الاتجاه الدنيوي - يؤثرون العاجلة على الباقية، ويستعجلون الرخيص ويتركون الغالي، ويطلبون السريع الزائل ويفضلونه على النعيم الدائم، ولهذا ذمهم الله فقال عنهم في آية أخرى: (إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا) [الإنسان : 27].
إن هؤلاء المتعجلين نظرهم قصير، وعقولهم صغيرة، وتفكيرهم ساذج، وآمانيهم بسيطة، وآمالهم لا تتعدى ما تحتهم، ولهذا يتعجلون الحصول على شهوات الدنيا ولذائذها، ويخشون أن تفوتهم فرصتها، فيتنافسون فيها، ويتهالكون ويتقاتلون عليها، وهي عاجلة سرعان ما تمر وتنتهي وتزول بكل ما فيها من نعيم وهمي ولذائذ زائلة، ولكنه الخسران والحرمان لهؤلاء المتعجلين الذين يخسرون النعيم الحقيقي الأبدي السرمدي مقابل النعيم الزائل الوهمي.
أما المؤمنون الصالحون فإنهم هم الذين يريدون الآخرة وما فيها من جنة ونعيم، ويجعلون الدنيا العاجلة مزرعة للآخرة الباقية، ويسعون سعيهم الحثيث اليها، ويكثرون من الأعمال الصالحة ليأخذوا ثوابها عند الله, فهؤلاء هم الفائزون المفلحون يتقبل الله عملهم وجهدهم وسعيهم ويدخلهم الجنة منعمين فيها.
يقول الله -سبحانه وتعالى- مفضلاً الآخرة الباقية وأهلها على الدنيا الفانية وأصحابها: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنعام : 32]، ويقول: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) [الرعد : 26]، ويقول سبحانه: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [القصص : 60].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله تعالى الرحيم الرحمن، الكريم المنَّان صاحب الفضل المبين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه أعلام الدين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: علمنا أن العطاء الدنيوي عطاء شامل لكل من يعيش في الدنيا من أبرار وفجار ومسلمين وكفار، ولهذا نسبه الله -سبحانه وتعالى- إلى مقام الربوبية فقال: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) فهو عطاء رباني، وفيض إلهي شامل يقسمه بين البشر على اختلاف أديانهم واتجاهاتهم، بحسب ما تقتضيه مشيئته وحكمته -سبحانه وتعالى- في تفضيل بعض العباد على بعض في الرزق.
ولاحظوا أن الحق -سبحانه وتعالى- اختار التعبير بقوله: (مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ)؛ لأن الجميع خَلْقهم الله -سبحانه وتعالى- فهو الذي خلق المؤمن والكافر، وهو الذي استدعاهم إلى الحياة، وهو -سبحانه- المتكفّل لهم بمُقوّمات حياتهم، وهو -جل وعلا- ربّ كلّ شيء ومُربّيه ومتكفّل به، ولذلك قال: (مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ).
ولكن هناك عطاء أعظم من هذا العطاء الدنيوي لا يكون لكل أحد ولا يحصل عليه جميع البشر, وإنما هو عطاء خاص بالمؤمنين فقط إنه عطاء الآخرة ونعيمها وثوابها.
هذا هو العطاء الذي يجب أن نسعى له، ونبحث عنه، ونقوم بواجباته حتى نحصل عليه؛ لأن السعادة كل السعادة والفوز كل الفوز في الحصول عليه، فكلنا ميتون -المسلم والكافر والطائع والعاصي- والفائز من فاز بعطاء الآخرة لا بعطاء الدنيا، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران : 185].
اليوم صار واقعنا هو العكس -إلا من رحم الله- نلهث وراء العاجل, ونبحث عن الرزق المقسوم، وننسى الآخرة ونغفل عنها، مع أننا نعلم أن الله -سبحانه وتعالى- يعطي الدنيا لمن يريد فقط من عباده، فلماذا لا نطلب الآخرة ونسعى لها سعيها فهي الباقية والحياة المضمونة الدائمة؟ ولا ننشغل بالدنيا عن الآخرة، أو نفرط في الآخرة من أجل الدنيا التي يمد الله -سبحانه وتعالى- الجميع فيها من عطاياه ورزقه.
فقل للذي قد غره طول عمره | وما قد حواه من زخارف تخدع |
أفق وانظر الدنيا بعين بصيرة | تجد كل ما فيها ودائع ترجع |
يقول سلمان الفارسي -رضي الله عنه-: "أضحكني ثلاث: مؤمل للدنيا والموت يطلبه، وغافل لا يغفل عنه، وضاحك بملء فيه لا يدري الله راضٍ عنه أم ساخط" ويقول النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ" [مسلم (2742)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم -جل جلاله- بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم لا تجعل الدنيا اكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا غاية رغبتنا.
اللهم ارزقنا الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة.