الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | عبدالله بن حسن القعود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - الصيام |
لا مجال في الإسلام ولا في هذه المواقف أبداً لما يسمى بالقوميات, فقد تلاشت بالإسلام, وأصبح الأمر فيه أمر إسلام وكفر، إسلام من أي لون أو جنس، وكفر من أي لون أو جنس. فقد التقى في هذه المعركة الأخ مع أخيه، والقريب مع قريبه، أحدهما ينصر الله ودينه، والآخر ينصر قوميته وفخره: فحمزة ابن عبد المطلب -رضي الله عنه- في صف رسول الله، وأخوه العباس -رضي الله عنه- الذي أسلم بعد في صف المشركين...
الخطبة الأولى:
الحمد لله يعز من أطاعه واتّقاه، ويذل من خالف أمره وعصاه. أحمده -سبحانه- لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في كتابه الكريم: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) [آل عمران:160] وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون: إن القلوب الواعية المدكرة بمواعظ ربها، والمستقية ثقافتها من مناهل دينها العذبة ومقوماته الأصيلة من كتاب ربها وسنة نبيها وسير صالحيها، كثيراً ما ترسل نظراتها إلى تذكر منشأ عزها لترتسمه بصدق في حياتها، تتذكر ذلك فتذكر بحرارة وعظة مواقف مشرفة وأعمالاً خالدة مدى التاريخ الطويل، فقد سجلت بقرآن يتلى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران: 123].
وبالمناسبة ففي الليلة السابعة عشر من هذا الشهر المبارك شهر رمضان، في ليلة جمعة، في السنة الثانية من الهجرة النبوية -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام-، تقابل ببدر صفان: صف إسلام وصف كفر, صف أنصار الله وصف أنصار هبل, صف طالبين جنة ورضوان من الله, وصف طالبين سمعة وفخر ومحمدة ومباهاة, فيهما يقول -سبحانه-: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) [الحج: 19 - 23] وللاتعاظ بهما يقول -سبحانه-: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [آل عمران:13].
أيها المسلمون، إن يعد الفرد منا يتذكر بصدق، يتذكر ليتعظ، يتذكر ليقتدي، يتذكر ليشكر، فليتذكر مثل هذه الحادثة العظمى، العظمى في حقيقتها، العظمى لا في تاريخ الإسلام فحسب، ولكن في تاريخ البشرية جميعها، العظمى لا في هذه الدنيا الزائلة ولكن للمدى البعيد لما بعد الموت، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم".
وأن نتذكرها في هذه اللحظة، نتذكر منها جوانب هي من أسباب نزول المدد والعون من الله, منها: أنه لا مجال في الإسلام ولا في هذه المواقف أبداً لما يسمى بالقوميات, فقد تلاشت بالإسلام وأصبح الأمر فيه أمر إسلام وكفر، إسلام من أي لون أو جنس، وكفر من أي لون أو جنس.
فقد التقى في هذه المعركة الأخ مع أخيه، والقريب مع قريبه، أحدهما ينصر الله ودينه، والآخر ينصر قوميته وفخره: فحمزة ابن عبد المطلب -رضي الله عنه- في صف رسول الله، وأخوه العباس -رضي الله عنه- الذي أسلم بعد في صف المشركين، وعلي في صف رسول الله، وأخوه عقيل في صف المشركين, ومصعب بن عمير في صف رسول الله، وأخوه أبو عزيز في صف المشركين، وأمثالهم كثيرون.
ومن قرأ سورة الأنفال التي نزلت في هذه الحادثة، ورسمت فيها الخطوط العريضة للجماعة المسلمة في حربها وسلمها؛ وجد أنها -في آخرها- ربطت المؤمنين برباط الإيمان، وربطت الكافرين برباط الكفر، قال تعالى في المؤمنين (أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [الأنفال:72] وقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) الآية [الأنفال:73].
وقد برزت هذه الرابطة جلية في هذه الغزوة، فقد قال عمر -رضي الله عنه- لما استشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في أمر الأسرى، قال -رضي الله عنه-: "أرى أن تمكنني من فلان قريب لي, وتمكن علياً من أخيه عقيل, وتمكن حمزة من أخيه العباس؛ فنضرب أعناقهم حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين". ومصعب -رضي الله عنه- يمر بأخيه أبي عزيز أسيراً في يد أنصاري فيقول للأنصاري: "اشدد يديك به فإن له أماً ذات مال ستفديه"، فيقول الأسير لمصعب: يا أخي هذه وصايتك بي!؟ فيقول له مصعب: "إنه -يعني الأنصاري- أخي دونك".
ومن تلك الجوانب التي هي محل للتذكر وسبب لحلول النصر الشورى، فقد ظهرت بين القائد العظيم والجندي العادي، ابتداءً بالدخول فيها وانتهاء ببحث شأن الأسرى، فلقد كان أصل خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعير قريش القادمة من الشام، ولما علم بخروج قريش بأشرافها وقضها وقضيضها لمنع غيرها، استشار أصحابه -رضوان الله عليهم-، فقال أبو بكر وأحسن، وقال عمر وأحسن، وقام المقداد بن عمرو فقال: "يا رسول الله، امضِ لما أمرك الله فنحن معك، لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ )، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون".
فكرر -صلى الله عليه وسلم- الشورى، فقال سعد بن معاذ -رضي الله عنه-: "لكأنك تريدنا –يعني الأنصار- قال: "أجل". فقال سعد: "لقد آمنا بك وشهدنا أنما جئت به هو الحق، وأعطيناك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، والله لو خضت بنا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً. إنا لصبر في الحرب وصدّق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك". فسر رسول الله بقول سعد، فقال: "سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، ولكأني أنظر إلى مصارع القوم".
ومن تلكم الجوانب التي هي محل التذكر وسبب للنصر، يشتد اللجوء إلى الله والشعور بالحاجة إليه -سبحانه-، فرسول الله الموعود بالنصر والمؤمن بأن الله سينجزه ما وعده؛ يبيت تلك الليلة يصلي ويلظ بــ (ياحي ياقيوم)، ولدى بدء التحام المعركة اشتد ابتهاله وتضرعه في الدعاء، ورفع يديه إلى السماء: "اللهم نصرك، اللهم أنجزني ما وعدتني". حتى سقط رداؤه وأشفق عليه أبو بكر، وأنجزه تعالى ما وعده (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال:9].
ويحق الله الحق، ويبطل الباطل، وترى مردة قريش وصناديدها تتهاوى بين يدي أصحاب رسول الله، ما بين قتيل مكب على وجهه يجر إلى القليب برجله، وأسير يرسف في وثاقه يتذكر ماذا ادخره لفك أسره، ويشفي الله صدور قوم مؤمنين، يرى بلال -رضي الله عنه- خصمه الألد في مكة أمية بن خلف، والذي كان يعذبه بالحجارة المحماة ليرده عن دينه، وقد أخذ بيده ويد ابنه علي عبد الرحمن بن عوف للأثر، فيصرخ بلال بأعلى صوته: "يا أنصار الله، رأس الكفر أمية، لا نجوت إن نجا". وينقض عليه جماعة من المسلمين فيقتلونه.
هذه العبر -أيها الأخوة- وهذه الجوانب الثلاثة: الانضواء تحت أخوة الإسلام الحقة، وراية التوحيد الحقة، والتفاهم بإخلاص في الأمر، والاعتماد على الله، واللجوء إليه بعد بذل الأسباب المادية، ومحض النصح للقيادة ابتغاء وجه الله، هي أسس الأمر ومقومات النصر، التي أمر الله بها عند اللقاء في قوله -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [الأنفال:45-47].
فاتّقوا الله -عباد الله- وخذوا من سنة نبيكم وسير صالحيكم خير قدوة، فدين الله وإن غاب عنه شخص رسول الله باقٍ خالد، وضعت فيه أوصاف المؤمنين وخطط المجاهدين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضاه، أحمده تعالى وأشكره، وأَشْهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، شهادةً أَرجو بها النجاة يوم نلقاه، يوم يبعثَر ما في القبور ويحصّل ما في الصدور، وأَشهدُ أنَّ سيّدنا ونبيَّنا محمداً عبده ورسوله, صلّى الله وبارك عليه وعلى آله وأَصْحابه وأتباعه, وسلَّم تسليماً كثيراً.
أَما بعد:
فيا أيُّها النَّاس: اتّقوا الله حقَّ تُقاته، ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا، واعلموا أن أصدق الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور مُحْدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.
وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذّ عنهم شذ في النَّار، وصلّوا على أَكرم نبي وأعْظم هادٍ فقد أمركم الله بذلك في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنَفاء؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر أصحاب رسولك وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين وأذِل الشرك والمشركين, ودمِّر أعداء الدين, وانصرُ عبادك الموحِّدين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات, وأَلِّف بين قلوبهم, وأَصلح ذات بينهم, وانصرهم على عدوّك وعدوهم, واهدهم سبل السلام.
اللهم أصلح ولاة أُمور المسلمين؛ اللهم أَرِهم الحق حقا وارزقهم اتّباعه، والبَاطِلَ باطلاً وارزقهم اجتنابه. اللهمَّ ارزقهم البطانة الصالحة التي تذكِّرهم إذا نسوا وتعينهم على نوائب الحق؛ يا ربّ العالمين.
اللهمّ أَقم علَم الجِهاد، واقمع أَهلَ الشِّرك والزيغ والفساد، وانشر رحمتك على العباد.
اللهم إِنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطَن، اللهم آمِنّا في أوطاننا, واستعمل علينا وعلى سائر المسلمين في كل زمان مكان من يخافك ويتّقيك يا ذا الجلال والإِكرام.
اللهم إنّا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحوُّل عافيتك وفجأةِ نقمتك وجميع سخطك.
ربنا اغفرْ لنا ولإِخواننا الذين سبقونا بالإِيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا، ربنا إنَّك رءوف رحيم. ربنا لا تُزِغْ قلوبنا بعد إذْ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمةً إنَّك أنت الوهاب.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذابَ النَّار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلَّكم تذكَّرون. فاذكروا الله عظيم الجليل يذكُرْكم، واشكروه على نعمه يزدْكم ولَذِكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.